إشكالية تربى عليها جيل كامل وهي أن الخلاف شر كله وفي نفس الوقت تعلم أن من الخلاف ما هو معتبر وسائغ! فلذلك تراه منظرا لأدب الخلاف لكن عند التطبيق تراه يشتد على كل من خالفه، ويود لو أنه حمل الناس على قوله ودفن كل قول مخالف.
وذلك راجع لأصلين:
- عدم فهم نظرية القطع والظن على وجهها، وهذه لابد من إفراد منشورات لها.
- واعتقاد أن الخلاف شر كله.
وسبب ذلك عدم فهم أثر ابن مسعود رضي الله عنه على وجهه الصحيح.. قال قتادة:
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبابكر وعمر وعثمان صدرا من خلافته كانوا يصلون بمكة وبمنى ركعتين، ثم إن عثمان صلاها أربعا فبلغ ذلك ابن مسعودفاسترجع ثم قام فصلى أربعا!
فقيل له: استرجعت ثم صليت أربعا؟!
فقال: الخلاف شر وبتأمل الخبر وطرقه يتبين لنا أمرين:
الأول: أن ابن مسعود أفتى بخلاف فعل عثمان، إذن فقد خالف عثمان فقهيا وعلميا بالقول.
الثاني: أنه لم يخالفه في العمل.
الخلاف العلمي في مواطن الاجتهاد
لماذا لم يخالفه في الفعل بالرغم من أنه يخالفه فقهيا؟
لأن عثمان كان إماما للمسلمين وإماما في الصلاة وفي موطن الحج الذي يجمع الناس على اختلاف أفهامهم ودرجاتهم ومنهم من هو ناقم على عثمان أصلا ويتربص به ظلما وعدوانا فلو خالف ابن مسعود عثمانا في هذا الموقف لأثار الناس وفرق كلمتهم وربما ترك بعضهم الائتمام بالخليفة فتقع الفتنة ويقع الشر الذي يحذره ابن مسعود وهذا هو نوع الخلاف الذي وصفه ابن مسعود بأنه شر.
أما مجرد ذكر الخلاف وبيان العالم ما يدين الله به فليس بشر قطعا ولذلك فعله ابن مسعود في نفس الموطن في الحج الذي يجمع عامة الناس، ولو كان ذلك هو الشر لما فعله ابن مسعود.
إذن الخلاف العلمي في مواطن الاجتهاد ليس شرا وهذا ما ذكره العلماء بعبارات كثيرة، من ذلك قول ابن تيمية رحمه الله:
(والنزاع في الأحكام قد يكون رحمة إذا لم يفض إلى شر عظيم من خفاء الحكم، ولهذا صنف رجل كتابا سماه كتاب الاختلاف فقال أحمد سمه كتاب السعة!
وأن الحق في نفس الأمر واحد وقد يكون من رحمة الله ببعض الناس خفاؤه لما في ظهوره من الشدة عليهم ويكون من باب قوله تعالى (لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم)).
وقال رحمه الله في شرح عمدة الفقه: (فإن إلزام العامة بقول واحد بعينه في جميع الأحكام فيه عسر وحرج عظيم منفي بقوله تعالى (ما جعل عليكم في الدين من حرج) وقد جعل اختلاف العلماء رحمة وسعة)).
إذن الخلاف ليس شرا كما تعتقد ولكن الشر يأتي من سوء التعامل مع الخلاف، إما بتفريط وإما بإفراط.
أما التفريط فكفعل من يسوغ الأخذ بكل قول قيل وإن كان شاذا، أو كفعل من يذكر كل الأقوال للمستفتي ويخيره في الأخذ بأي قول منها، أو كفعل من يتخير هو للمستفتي القول الذي يريد أن يسمعه، وكفعل من يخالف خلافا تترتب عليه فتنة كالاختلاف على الأئمة أو أمراء الحروب بحجة أن الخلاف في المسألة معتبر، فهذا كله تساهل مذموم.
وأما الإفراط فكفعل من يقطع بصجته قوله في مسألة اجتهادية ليس فيها نص ولا إجماع ولا قياس جلي، وكفعل من يحمل الناس على قوله في مسألة اجتهادية ويكتم عنهم بقية الأقوال على الدوام حتى ينشأ جيل لا يعرف شيئا عن هذه الأقوال أو يسفهها أو ينكر على معتقديها، وكفعل من يسفه أو يفسق أو يبدع مخالفه في مسألة اجتهادية.
كيف نتعامل مع الخلاف؟
سؤال مهم: كيف نتعامل مع الخلاف بطريقة صحيحة؟
إذا كنت عاميا لا قدرة لك على النظر في المسائل والترجيح بين أقوال العلماء فالواجب عليك أن تستفتي من تثق فيه من أهل العلم لقوله تعالى (فسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) وتعمل بما يفتيك به.
واعلم أنه يحرم عليك النظر في اختلاف العلماء وأدلتهم على سبيل والترجيح بينها إذا لم تكن أهلا لذلك لقوله تعالى (ولا تقف ما ليس لك به علم) وأن اختيارك بين أقوال أهل العلم بالتشهي مخالف لمراد الشرع وحكمته من شرع الأحكام بل مناقض للحكمة من أنزال الكتب وبعثة الرسل التي جاءت لتخرج المكلفين من داعية الهوى إلى اتباع الهدى والبحث عن الحق لا عن مراد النفس وشهواتها.