عندما تحاور من يستشكل أو يشكك في أحكام الإسلام، فلا يفوتنك شيء مهم، وهو أن لدى بعض من تحاورهم خللا منهجيا يجب أن تسلط الضوء عليه لتظهر قوة موقفك، فمثلا قد يسألونك عن سبب التحريم للحم الخنزير، وفي خلفية سؤالهم أنهم يطلبون مصدرا معينا من المعارف، وهو المصدر الحسي والتجريبي، والواقع أن اختزال المعرفة في الحس والتجريب خلل منهجي سائد في الغرب، فيجب أن تبين أنك ابتداء تعتقد أن هذا خلل، وأن المعرفة لها مصادر متعددة تتكامل ولا تتعارض، ونحن كمسلمين عندنا موقف مبرهن هو أن الوحي مصدر معرفي عظيم لأنه من عند الله ﷻ، وموقفنا من هذا المصدر مبني على أدلة عقلية قاطعة تدل على صحة الإسلام وأن ما جاء به النبي ﷺ حق ووحي من عند الله
والفائدة من هذا أنك تقطع طريقتهم في تعجيزك، لأنهم ضمنيا يحصرونك في مصدر واحد هو التجريب، ثم يطالبونك بالدليل من هذا المصدر، وعندما تسترسل معهم فكأنك تسلم لهم بصحة اختزاليتهم المعرفية وأنت لا تشعر، فتخسر أحد أقوى منطلقاتك، ويفوتك التنبيه على أعظم خلل في منطلقاتهم.
وأيضا لو قررت أنت تصحيح ذلك الخلل، فغاية ما عندهم بعدها أنهم يعارضون باختزاليتهم وجهلهم شموليتك وعلمك، وهذا في غاية الضعف، ففي مثال الخنزير مثلا سيطالبونك ببيان أضراره الصحية، وكأن الحكم بني على هذا فقط، دون اعتبار لوصف الله تعالى للخنزير بالرجس واحتمال تضمن ذلك لعدة معان كالخبث أو النجاسة أو غيرها، فينبغي لك أن لا تقبل بالاختزال، فغاية ما عندهم أن يختزلوا الحكمة في أثر محسوس، ثم يحتكمون لجهلهم،وهو قولهم: "لم يثبت!" أي تجريبيا.. وفي الحقيق أن عدم الثبوت ليس ثبوتا للعدم، أي قد يثبت ذلك مستقبلا، فهم إذا ينزلون الجهل منزلة العلم!
وصحيح أنك في هذه الحالات قد تنازعهم بالتجريب وتثبت بعض الأضرار التي يكثر وقوعها، ثم قد تشرح لهم أن الشرع يغلب جانب المفسدة إذا عظمت ويحكم بحكم يكون شرعاً يجب امتثاله طاعة لله، هذا كله صحيح، لكن من المفيد جدا أن تهز أساسهم الاختزالي وتكشف حقيقة موقفهم المستند للجهل والمنصرف عن الشمولية المعرفية الحقّة.
وقس على ذلك أوجه الخلل المنهجية الأخرى التي تبرز في صور المسائل المتنوعة الأخرى، كاتخاذ معايير غير مطلقة للحكم بالصواب والخطأ، كتأليه الإنسان وجعله مركز الوجود بدلا من سبب الوجود وهو الله الرب المعبود وحده سبحانه، وغير ذلك.
وأخيرا تنبه رعاك الله ﷻ إلى أن لا تقيس صحة الأمور بمدى اقتناع الخصم، فعدم اقتناعه لا يرجع بالضرورة لضعف موقفك وخلوه من الحجة، بل قد يرجع لخلل في طريقتك في سياق الحجة، أو قد تكون حجتك قوية لكن يرجع عدم الاقتناع لخلل منهجي ومرجعي وسابق وعميق عند الخصم، وقد يكون معه الهوى والاستكبار ونحوه مما ذكر الله ﷻ أنه من أسباب مخالفة الحق، فلا يصح أن نغفل هذه القضية ونوقع أنفسنا في حيرة بسبب عدم قبول المخالف أو ما يظهره من عدم اقتناع، ونبدأ ننظر ونقيّم من خلال عين الخصم العوراء!