آثار العالمانية في الغرب: موت العالم والنفع المادي

آثار العالمانية في الغرب: موت العالم والنفع المادي | مرابط

الكاتب: د سامي عامري

2433 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

المطلب الثاني: موت العالم
 

نبوءة نيتشه عن "موت الإله" ليبقى العالم، آلت في الحقيقة إلى موت العالم، بإفراغه من عمقه المخبوء عن النظر المجرد وتحويله إلى أشلاء جامدة من الأشياء، أو بعبارة ماكس فيبر "Entzauberung" أي: إفراغ العالم من غموضه وسحره، ليتحول إلى مجموعة من المعادلات الرياضية السهلة والمدركة، بلا أوتاد منغرزة في جوف الوجود، ولا آفاق غير مرئية تمارس حالة الجذب المدهشة والممتعة للروح، إنه عالم فاقد للإغراء، ومثير للإملال، ومحفز للانتحار الفكري وحتى الانتحار المادي، خاصة في البلاد التي يسهل فيها تحقيق ما فوق الكفاية المادية دون مشاقة للنفس، مثل السويد التي تعرف أكبر نسب الانتحار في العالم.
 
هذا العالم البسيط يدفع انبساطه الإنسان بطريقة لزجة رخوة إلى حافاته، حيث يكتشف ثقوب الفراغ تحاصره، وأفواه العدمية تسلط عليه أقوى أنواع الجذب. إنه عالم بلا أسرار مُحفِّزة للعقل أو الروح، هو عالم بلا روح أو روح.
 
لقد فقد الإنسان في عالمه المعلمن متعة المكابدة وأُسِر في ظلمة مكابدة المتعة، هذه المتعة القريبة التي وفّرها له العلم عن طريق وسائل اللذة التي تطارده في بيته وسيارته ومكتبه وملعبه. لذّة دانية، يدفع مقابلها ساعات عمل مرهقة بلا أمل وراءها، ثم يستحيل هذا الإمتاع السهل إلى ملل مزعج، ضاغط على أوتار الأعصاب المشدودة، ولذلك تنشط القوى المنتِجة لأدوات اللذة إلى تجديد أشكال الإمتاع الآني، واختراع حاجات إمتاعية جديدة بالغة في سطحيتها، حتى تنشط الرغبة في تحقيق الإمتاع الآني لمقاومة لسعة الملل اللاذعة، وهكذا تستمر دورة الملل واستخدام أدوات إمتاع جديدة، حتى يكتشف الإنسان أنه قد وصل إلى حافات العالم، وعندها يُفاجأ بتلك الثقوب والأفواه التي توقظ فيه الوعي بفراغ العالم من المعاني الشائقة، وتتماس روحه مع عدمية المعنى وتشظّي القيمة.
 
إن العالمانية تزعم أمها تدعو إلى إزاحة الدين بمخزونه التفسيري الثرِّ للعالم، لتُحل العلم مكانه، حتى يخلع عن سقف العالم أوهام الخرافة، لكنها -واقعًا- قد هدمت السقف دون أن ترفع العلم مكانه؛ ﻷن العلم ترابي المنزع، لثقل مادّته، فليس فيه لطافة الدين الذي يملك القدرة على التعالي بالإنسان إلى غير المنظور. لقد شد العلم الإنسان إلى طينيّته، وشغله بفرصة أعصاب الجوعة واللذة والوعكة، دون أن يملك أن يزرع في أشواقع بذرة العلو والتسامي فوق كثافة الطين اللازب.
 
هذا الإنسان الذي يئن تحت ضربات اللامرجعية المتسامية على العالم، واللاقدسية الناهشة لوجوده، يتحرك بلا موجه ذاتي، ويسير إلى غير غاية كبرى، لقد تحول العالم الذي يحتويه إلى متاهة كابرى بلا معالم ولا اتجاهات.


المطلب الثالث: النفع المادي، المعبود الجديد


لم يَؤُل إلغاء المقدس المتجاوز للعالم إلى هدم مبدأ الوجود الموضوعي للمقدس فحسب؛ وإنما أفرز ميكانيكيا قداسات جديدة من رحم الوجود المادي، وأهم هذه القداسات "المنفعة، بدلالتها المادية المحسوسة. لقد استحالت المنفعة كيانا يحمل قداسة كلية في حس الوجود العالماني، فهي القِبلة التي تتجه إليها النفس بلكيّتها، وحولها يطوف الكائن العالماني في خشوع وخضوع كاملين.
 
تكمن أهمية قداسة المنفعة في صناعة فعل الإنسان ووجدانه في أنها تستوعب كامل مجال نظره، فهي منتهى أفقه، ومحط غايته، ومنها يبدأ وإليها ينتهي، وهي المحرك الموجه. لقد استجمعت الخصائص الكاملة للمقدس في النحل الدينية، دون أن تزعم تعاليها عن العقل ودون أن تستأثر بأسرارها الذاتية. إنها مقدس مفتوح، بإمكان اليد أن تحسه وتجسّه، وهو ما جعلها بديلًا سهل التناول عند الإنسان العالماني المتخم بكسله الذهني والمغرق في رفضه للتجريد والتجاوز.
 
لقد عادت الأبيقورية جذعة مرة أخرى، لتهدم المطلقات الأخلاقية الدينية، وهي حقيقة بارزة في العالم العالماني في شكليه: الميكرو-معيشي، والمتمثل في علاقة الفرد بأسرته وجيرانه وزملائه، والمكرو-معيشي، والمتمثل في العلاقات السياسية والاقتصادية والدولية حيث تعد المطلقات الأخلاقية مجرد وهم طوباوي ساذج لا يتجاوز وجوده الاستهلاك الإعلامي البارد؛ فالمنفعة الاقتصادية مثلا تبيح احتلال البلدان واستنزاف ثرواتها وإبادة أهلها، وتخريب بيئتها، فليس بالإمكان أن يحقق المحتل رصيدًا مرضيًا من المنفعة ضمن حدوده الجغرافية، ولذلك فلا حرج من ممارسة كل أنواع ما يعرف عند الأخلاقيين بالوحشية، ﻷن الغاية المقدسة تسوغ كل فعل مهما بدا منكرًا.
 
لم يتخلّ الإنسان المعلمن رغم ذلك عن العناوين، إذ بقيت قيم الحق والعدل والتآزر متداولة، لكنها لا تخرج عن الوجود الدعائي المفرّغ من الدلالة العملية.
 
وقد ينتقل الأمر إلى درجة أسوأ من العناوين الباهتة؛ وذلك عندما تتحول هذه العناوين إلى مسوغات دعائية للفتك بالشعوب واستباحة حرمات المخالفين، ﻹتنتصر الدولة المعلمنة للقتلة تحت عنوان التعايش، وتمكّن للأنظمة المجرمة تحت عنوان إعانة الدول الشقيقة، وغير ذلك من اللافتات التي تسوّق للظلم حماية للمنافع الاقتصادية للدول الكبرى

 


 

المصدر:

  1. د. سامي عامري، العالمانية طاعون العصر، ص120
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.
اقرأ أيضا
نصيحة شيخ الإسلام: لا تقصد رضا الناس | مرابط
اقتباسات وقطوف

نصيحة شيخ الإسلام: لا تقصد رضا الناس


وكنت أخبرتك أن سيدنا شيخ الإسلام تقي الدين أبا العباس أحمد بن تيمية -أيده الله وأحسن إليه- أوصاني مرة في سنة ثلاث وسبعمائة وصية بليغة حفظت منها قوله: لا تقصد رضا الناس بأقوالك ولا أفعالك: فإن رضا الناس غاية لا تدرك اليوم إن ترض الناس يشكروك وفي غد تسخطهم يذموك

بقلم: ابن الحبال البعلي
685
لمن أكتب | مرابط
مقالات

لمن أكتب


لمن أكتب لم أحاول قط أن أعرف لمن أكتب ولم أكتب ولكني أحس الآن من سر قلبي أني إنما كنت أكتب ولا أزال أكتب لإنسان من الناس لا أدري من هو ولا أين هو: أهو حي فيسمعني أم جنين لم يولد بعد سوف يقدر له أن يقرأني ولست على يقين من شيء إلا أن الذي أدعو إليه سوف يتحقق يوما على يد من يحسن توجيه هذه الأمم العربية والإسلامية إلى الغاية التي خلقت لها وهي إنشاء حضارة جديدة في هذا العالم تطمس هذه الحضارة التي فارت بالأحقاد والأضغان والمظالم ولم يتورع أهلها عن الجور والبغي في كل شيء حتى في أنبل الأشياء وهو ال...

بقلم: محمود شاكر
614
الحجاب.. والفتاة المؤمنة | مرابط
المرأة

الحجاب.. والفتاة المؤمنة


وإن الفتاة المؤمنة هي التي لا تتحايل على ربها بلباسها فتظهر زينتها من حيث هي تزعم التدين والانتماء لأهل الصلاح بل الفتاة المؤمنة هي التي تلبس جلبابها الشرعي ثوبا هادئا ساكنا خاشعا على بدنها يسترها ولا يفضحها ويرفعها ولا يضعها ويكرمها ولا يمسخها ثم يقربها من ربها ولا يبعدها ويرفعها في الجنة إلى منازل الصالحين والصالحات والصديقين والصديقات.

بقلم: فريد الأنصاري
261
تحرير نسبة الأقوال إلى أصحابها | مرابط
مقالات

تحرير نسبة الأقوال إلى أصحابها


ندرك هنا أهمية الحذر من الخطأ في نسبة الأقوال البدعية إلى الأئمة نتيجة الاعتماد على ما يرويه من تأثر ببعض البدع المحدثة حتى يصير يفسر كلام إمام من أئمة أهل السنة والأثر -كما حصل هنا مع الإمام أحمد- على قواعد أهل الكلام المناقضة لمنهجه وما علم عنه بالضرورة فلا هو حكى أقوال الإمام بألفاظها كما وردت عنه ولا هو فسرها على وفق ما علم عنه

بقلم: عبد الله القرني
369
ثبات أم موسى أمام الابتلاءات | مرابط
تفريغات المرأة

ثبات أم موسى أمام الابتلاءات


ننتقل إلى قصة أخرى من قصص النساء في القرآن الكريم: ألا وهي قصة أم موسى صلى الله عليه وسلم.. هذه المرأة التي ربط الله على قلبها.. هذه المرأة التي أوتيت خيرا كثيرا.. هذه المرأة بلغ بها الخير أن الله أوحى إليها وحيا من نوع خاص ليس من وحي الأنبياء لما ولدت يوسف وأرضعته أوحى إليها إذا خافت عليه من جند فرعون الذين كانوا يذبحون أولاد بني إسرائيل أن تلقيه في اليم.

بقلم: محمد المنجد
282
شهادة امرأة غربية | مرابط
اقتباسات وقطوف

شهادة امرأة غربية


كان النساء يعاملن على أنهن كائنات أدنى حتى جاء الإسلام.. في الحقيقة نحن النساء لا زلنا نعاني في الغرب حيث يعتقد الرجال أنهم أرقى من النساء. وهذا أمر من الممكن أن نراه في نظم الترقية والرواتب من عاملات التنظيف إلى النساء في مجالس الإدارة. النساء الغربيات لا زلن يعاملن كسلعة حيث الاستعباد الجنسي في علو وإن كان يتغطى تحت كنايات تسويقية حيث تروج أجساد النساء عبر عالم الإعلانات.

بقلم: إيفوني ردلي
193