مشكلة خفاء الله

مشكلة خفاء الله | مرابط

الكاتب: سامي عامري

1666 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

أصل الشبهة

يعترض الملاحدة على دعوى وجود إله بالقول: إذا كان الإله موجودًا حقيقة، فيجب أن يكون وجوده شديد الظهور؛ فلا يرتاب فيه بشر يدرك يمينه من شماله.. ولكن واقعنا اليوم يُخبر أن طوائف من الناس (ملحدة) لا تجد حجة تلزمها بهذا الاعتقاد.
 
الجواب: تُعرف هذه الشبهة المنتشرة بين الملاحدة بمشكلة "الخفاء الإلهي" "divine hiddenness" وهي تقوم على زعمين، أولهما: أنه إذا كان الله موجودًا، فلا بد أن يكون وجوده واضحًا للجميع بلا أدنى ريبة، وثانيهما: أن وجود الله غير بيّن لجُل الناس..

 

والجواب من أوجه:

 

العلم بوجود الله

أولًا: العلم بوجود الله حقيقة أطبقت عليها الأمم السابقة، حتى قال عامة الفلاسفة قبل قرون: إن أعظم حجة على وجود الله تواطؤ الناس على ذلك، وهو ما يعرف بحجة "Consensus gentium" وذاك برهان عملي أنه وجود غير خفي؛ بل ظاهر للبليد والذكي على مر القرون وتتابع الحضارات، وقد أصابه ساكن غابات الأمازون، والعاكف على النظر في مكتبات بغداد القديمة.
 
والإلحاد شذوذ طارئ لم يبدأ رصده كظاهرة جماعية إلا في آخر القرن التاسع عشر، وبداية العشرين، وكفى بذلك برهانا على وضوح وجود الله ودنوه من عقل الإنسان، وقد كانت دعوة الأنبياء دائمًا متجهة إلى إفراد الرب بالطاعة لا إثبات وجود الخالق؛ فلم يكن أمر الخالق مصدرًا لنزاع لالتزام السابقين فهم الكون أنه أثر عن عظيم أو عظماء من غير جنس البشر.
 

أدلة وجود الله في كل شيء

ثانيًا: الناظر بعدل وعمق في أدلة وجود الله يرى أنها تتخذ الوجود كله حجة لمطلبها؛ النفس والعقل والقلب.. والزمان والمكان والمادة والحياة.. أصل الوجود وطبيعته ومآله.. ظواهر السماء ومحافل الأرض.. حال الأمس، وواقع اليوم، ورجاء الغد.. بسط الرخاء والنعمة، وغصة الضيق والشدة.. فلم تذر لرأي المخالف مجالا للمناجزة.. بل اتخذت من حجج المخالف للإلحاد (مثل مشكلة الشر) حجة للإيمان بطريق سديدة.
 

ارتباط الإنسان بعبادة الله والتوجه إليه

ثالثًا: خلق الله الإنسان ليتجه إليه بالإيمان والعبادة، وزوده لذلك بثلاثة دوافع تضمن له بلوغ الإيمان بالله وتوحيده إذا سلمت من فاسد الموانع، وهي:
 
أ- ختم الميثاث الأول: قال تعالى "وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ" وقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "إن الله يقول لأهون أهل النار عذابًا: لو أن لك ما في الأرض من شيء كنت تفتدي به؟ قال: نعم! قال: فقد سألتك ما هو أهون من هذا وأنت في صلب آدم، أن لا تشرك بي فأبيت إلا الشرك". فالختم الأول في النفس الإنسانية الميثاق الذي أخذ على المرء قبل أن يخرج من ضيق الرحم إلى فسيح الأرض، وهو أن يعبد الله لا يشرك به شيئًا.
 
ب- الفطرة: الفطرة هي الحال الأولي للنفس، وهي تظهر -بالفعل، بعد كمونها بالقوة- عند نضوج العقل؛ بالتمييز بين الحق والباطل، حيث تكون مستعدة للميل إلى الإيمان؛ بل منجذبة إليه. قال تعالى "فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ"
 
ت- العقل: العقل آلة النظر في الكون، ومعرفة الأسباب بآثارها. والنظر في الكون والنفس كفيل بهداية الإنسان إلى الحق في أمر الخالق ووحدانيته، قال تعالى "سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ"

 

التأصيل الفلسفي للإلحاد

رابعًا: التأصيل الفلسفي للإلحاد -كما هو عند عامة رؤوس الملاحدة- لا ينتهي عند إنكار وجود إله، وإنما يجمع مع ذلك -وإن دون تصريح أو التزام من عامة الملاحدة- الشك في العقل والحس -كما سبق، وسيأتي معنا في هذا الكتاب-؛ والشك في الحس عمى، والقدح في العقل جنون..
 

دلائل وجود الله والإرادة الإنسانية

خامسًا: ظهور دلائل الوجود الإلهي في كون خلق فيه الناس للاختبار في باب التصديق والفعل، ليس هو الظهور القهري الذي يشُلّ إرادة الإنسان عن النكران، ويمنعه موقف الرفض والامتناع؛ ولذلك فمحض وجود منكرين لوجود إله ليس مما يحتج به منصف لإنكار التجلي الإلهي في باب الآثار، إذ قد أريد لهذا الوجود أن يقسم الناس إلى فسطاطين: فسطاط المنيبين، وفسطاط الجاحدين.

 

"كل دين لا يقول إن الإله خفي، ليس دينًا حقًا". الفيلسوف (بليز باسكال)

 

إن "البرهان المقنع" المتوهم في العقل الإلحادي هو ذاك الذي يقمع الإرادة الحرة ويمنعها من الاختيار بين الإيمان والكفران، وهو خصيم طبيعة الإيمان الديني الذي يمدح الإيمان بالغيب لأنه طريق السالكين في الدُّلجة إلى الحقيق. قال تعالى "إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَٰنَ بِالْغَيْبِ ۖ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ" وقال سبحانه "ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ"
 
وهذا الخفاء الإلهي -غير الكلي، وغير الملغز- هو الذي يحفز الدهري إلى أن يبحث عن معنى الحياة، ويجد في طلب ذلك، وهو أيضًا الذي يدفع المؤمن إلى أن يجتهد في العلو في مراقي المعرفة حتى يبلغ مرتبة القائل "لو كشف الغطاء؛ ما ازددت يقينًا" فهو واقع إيجابي يدفع النفس الخاملة إلى أن تثور على كسلها وتفك غمامة الجهل لتعرف الرب عن قصد وحب.

 

"محاولتك بيان الحق لمن لا يحبه، لا تعدو أن تكون بذلا لمزيد من الأفكار ليسيء تفسيره" (جورج ماك دونالد)

 


 

المصدر:

سامي عامري، براهين وجود الله، ص145

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#سامي-عامري #أدلة-وجود-الله
اقرأ أيضا
تأويلات الرازي.. وموقف الإمام الشافعي من علم الكلام | مرابط
مقالات

تأويلات الرازي.. وموقف الإمام الشافعي من علم الكلام


من شؤم علم الكلام على أصحابه أنه يوقعهم في الحرج والحيرة حين يعرضون لبيان موقف أئمة أهل السنة من علم الكلام وذلك أنهم إن وافقوهم في القدح في علم الكلام وأنه منهج مبتدع في الدين فقد ناقضوا منهجهم وأبطلوه وإن خالفوا أئمة أهل السنة فقد أظهروا المباينة بينهم وبين من ثبتت إمامتهم عند عموم المسلمين وأنهم قد شذوا عنهم وانحرفوا عن منهجهم ويكون المخرج الذي يسلكونه لتجنب الوقوع في هذين الخيارين أن يتأولوا تحذير الأئمة من علم الكلام على غير وجهه.

بقلم: عبد الله القرني
248
الفرق بين النسخ والتخصيص | مرابط
تعزيز اليقين فكر

الفرق بين النسخ والتخصيص


لقد أدى التشابه بين النسخ والتخصيص ببعض العلماء إلى إنكار وجود النسخ في الشريعة الإسلامية واعتبروا كل ما قيل بنسخه أنه من باب التخصيص وعلى عكس هؤلاء اعتبر آخرون التخصيص نسخا فأدخلوا في باب النسخ صورا كثيرة من صور التخصيص لذا وجب بيان الفروق بين النسخ والتخصيص

بقلم: ناصر عبد الغفور
2409
عن القوامة والنشوز وضوابط تعامل الزوج معه | مرابط
المرأة

عن القوامة والنشوز وضوابط تعامل الزوج معه


الله جل وعلا قد خلق كل جنس ونوع على وفق مقتضى حكمته البالغة ثم هداه لوظيفته التي تلائم ذلك الخلق ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ومن ذلك أن الله جل وعلا خلق الرجل أقوى جسدا وأجسر قلبا وأشد تحملا للمشاق وأحسن تدبيرا وثباتا في مخاطر الحياة وأعظم تغليبا للعقل على المشاعر والانفعالات وهذا كله يؤهله لوظيفة القوامة والحفظ والحماية والرعاية والكسب.

بقلم: كريم حلمي
323
تغير الفطرة من موانع فهم الشريعة | مرابط
اقتباسات وقطوف

تغير الفطرة من موانع فهم الشريعة


وإذا تغيرت الفطرة التي طبع عليها الإنسان فلن يفهم الأوامر الشرعية التي أمره الله بها حتى تعدل الفطرة عن انتكاستها لتستوعب كالإناء المقلوب لا بد من تعديله حتى يستوعب ما يوضع فيه لهذا شدد الله في أمر الفطرة وحذر من تغييرها لأنها تؤثر على استيعاب أوامره ونواهيه

بقلم: عبد العزيز الطريفي
595
الإيمان في القلب | مرابط
أباطيل وشبهات تعزيز اليقين مقالات

الإيمان في القلب


نسمع كثيرا على ألسنة عامة الناس عبارة الإيمان في القلب والحقيقة قد يتخيل السامع أن المراد بها هو تعظيم الإيمان القلبي وتعظيم الاهتمام بباطن الإنسان وسريرته ولكن الحقيقة أن هناك سياقات أخرى تأتي فيها هذه العبارة ولا تكون إلا باطلا محضا وينتج عنها الكثير من المفاسد وهذا ما يوضحه لنا المقال

بقلم: عبد الله بن صالح العجيري وفهد بن صالح العجلان
2295
فقه النصر والتمكين | مرابط
فكر

فقه النصر والتمكين


إن فقه التمكين يعني دراسة أنواعه وشروطه وأسبابه ومراحله وأهدافه ومعوقاته ومقوماته من أجل رجوع الأمة إلى ما كانت عليه من السلطة والنفوذ والمكانة في دنيا الناس وتطبيق شرع الله عز وجل وفي هذا المقال المختصر يضغ أمامنا الكاتب علي محمد الصلابي بعض الإضاءات الموجزة فيما يخص هذا الموضوع

بقلم: د علي محمد الصلابي
2712