مشكلة خفاء الله

مشكلة خفاء الله | مرابط

الكاتب: سامي عامري

1900 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

أصل الشبهة

يعترض الملاحدة على دعوى وجود إله بالقول: إذا كان الإله موجودًا حقيقة، فيجب أن يكون وجوده شديد الظهور؛ فلا يرتاب فيه بشر يدرك يمينه من شماله.. ولكن واقعنا اليوم يُخبر أن طوائف من الناس (ملحدة) لا تجد حجة تلزمها بهذا الاعتقاد.
 
الجواب: تُعرف هذه الشبهة المنتشرة بين الملاحدة بمشكلة "الخفاء الإلهي" "divine hiddenness" وهي تقوم على زعمين، أولهما: أنه إذا كان الله موجودًا، فلا بد أن يكون وجوده واضحًا للجميع بلا أدنى ريبة، وثانيهما: أن وجود الله غير بيّن لجُل الناس..

 

والجواب من أوجه:

 

العلم بوجود الله

أولًا: العلم بوجود الله حقيقة أطبقت عليها الأمم السابقة، حتى قال عامة الفلاسفة قبل قرون: إن أعظم حجة على وجود الله تواطؤ الناس على ذلك، وهو ما يعرف بحجة "Consensus gentium" وذاك برهان عملي أنه وجود غير خفي؛ بل ظاهر للبليد والذكي على مر القرون وتتابع الحضارات، وقد أصابه ساكن غابات الأمازون، والعاكف على النظر في مكتبات بغداد القديمة.
 
والإلحاد شذوذ طارئ لم يبدأ رصده كظاهرة جماعية إلا في آخر القرن التاسع عشر، وبداية العشرين، وكفى بذلك برهانا على وضوح وجود الله ودنوه من عقل الإنسان، وقد كانت دعوة الأنبياء دائمًا متجهة إلى إفراد الرب بالطاعة لا إثبات وجود الخالق؛ فلم يكن أمر الخالق مصدرًا لنزاع لالتزام السابقين فهم الكون أنه أثر عن عظيم أو عظماء من غير جنس البشر.
 

أدلة وجود الله في كل شيء

ثانيًا: الناظر بعدل وعمق في أدلة وجود الله يرى أنها تتخذ الوجود كله حجة لمطلبها؛ النفس والعقل والقلب.. والزمان والمكان والمادة والحياة.. أصل الوجود وطبيعته ومآله.. ظواهر السماء ومحافل الأرض.. حال الأمس، وواقع اليوم، ورجاء الغد.. بسط الرخاء والنعمة، وغصة الضيق والشدة.. فلم تذر لرأي المخالف مجالا للمناجزة.. بل اتخذت من حجج المخالف للإلحاد (مثل مشكلة الشر) حجة للإيمان بطريق سديدة.
 

ارتباط الإنسان بعبادة الله والتوجه إليه

ثالثًا: خلق الله الإنسان ليتجه إليه بالإيمان والعبادة، وزوده لذلك بثلاثة دوافع تضمن له بلوغ الإيمان بالله وتوحيده إذا سلمت من فاسد الموانع، وهي:
 
أ- ختم الميثاث الأول: قال تعالى "وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ" وقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "إن الله يقول لأهون أهل النار عذابًا: لو أن لك ما في الأرض من شيء كنت تفتدي به؟ قال: نعم! قال: فقد سألتك ما هو أهون من هذا وأنت في صلب آدم، أن لا تشرك بي فأبيت إلا الشرك". فالختم الأول في النفس الإنسانية الميثاق الذي أخذ على المرء قبل أن يخرج من ضيق الرحم إلى فسيح الأرض، وهو أن يعبد الله لا يشرك به شيئًا.
 
ب- الفطرة: الفطرة هي الحال الأولي للنفس، وهي تظهر -بالفعل، بعد كمونها بالقوة- عند نضوج العقل؛ بالتمييز بين الحق والباطل، حيث تكون مستعدة للميل إلى الإيمان؛ بل منجذبة إليه. قال تعالى "فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ"
 
ت- العقل: العقل آلة النظر في الكون، ومعرفة الأسباب بآثارها. والنظر في الكون والنفس كفيل بهداية الإنسان إلى الحق في أمر الخالق ووحدانيته، قال تعالى "سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ"

 

التأصيل الفلسفي للإلحاد

رابعًا: التأصيل الفلسفي للإلحاد -كما هو عند عامة رؤوس الملاحدة- لا ينتهي عند إنكار وجود إله، وإنما يجمع مع ذلك -وإن دون تصريح أو التزام من عامة الملاحدة- الشك في العقل والحس -كما سبق، وسيأتي معنا في هذا الكتاب-؛ والشك في الحس عمى، والقدح في العقل جنون..
 

دلائل وجود الله والإرادة الإنسانية

خامسًا: ظهور دلائل الوجود الإلهي في كون خلق فيه الناس للاختبار في باب التصديق والفعل، ليس هو الظهور القهري الذي يشُلّ إرادة الإنسان عن النكران، ويمنعه موقف الرفض والامتناع؛ ولذلك فمحض وجود منكرين لوجود إله ليس مما يحتج به منصف لإنكار التجلي الإلهي في باب الآثار، إذ قد أريد لهذا الوجود أن يقسم الناس إلى فسطاطين: فسطاط المنيبين، وفسطاط الجاحدين.

 

"كل دين لا يقول إن الإله خفي، ليس دينًا حقًا". الفيلسوف (بليز باسكال)

 

إن "البرهان المقنع" المتوهم في العقل الإلحادي هو ذاك الذي يقمع الإرادة الحرة ويمنعها من الاختيار بين الإيمان والكفران، وهو خصيم طبيعة الإيمان الديني الذي يمدح الإيمان بالغيب لأنه طريق السالكين في الدُّلجة إلى الحقيق. قال تعالى "إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَٰنَ بِالْغَيْبِ ۖ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ" وقال سبحانه "ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ"
 
وهذا الخفاء الإلهي -غير الكلي، وغير الملغز- هو الذي يحفز الدهري إلى أن يبحث عن معنى الحياة، ويجد في طلب ذلك، وهو أيضًا الذي يدفع المؤمن إلى أن يجتهد في العلو في مراقي المعرفة حتى يبلغ مرتبة القائل "لو كشف الغطاء؛ ما ازددت يقينًا" فهو واقع إيجابي يدفع النفس الخاملة إلى أن تثور على كسلها وتفك غمامة الجهل لتعرف الرب عن قصد وحب.

 

"محاولتك بيان الحق لمن لا يحبه، لا تعدو أن تكون بذلا لمزيد من الأفكار ليسيء تفسيره" (جورج ماك دونالد)

 


 

المصدر:

سامي عامري، براهين وجود الله، ص145

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#سامي-عامري #أدلة-وجود-الله
اقرأ أيضا
التشكيك في الإسلام بسبب تأخر المسلمين | مرابط
أباطيل وشبهات فكر مقالات

التشكيك في الإسلام بسبب تأخر المسلمين


يردد كثير من الملحدين والمشككين في الإسلام هذه الأسئلة:لماذا يعيش العالم الإسلامي متأخرا عن العالم الغربي وعن الدول الإلحادية في الجوانب الصناعية والتقنية والعسكرية ألا يدل ذلك على عدم صحة الإسلام ولماذا يكثر القتل بين المسلمين في حين يعيش الملحدون بسلام وفي هذا المقال رد على هذه الإشكالية أو الشبهة

بقلم: أحمد يوسف السيد
1911
دقة القراءة | مرابط
تفريغات ثقافة

دقة القراءة


وعندما نقول اتفق العقلاء هذه تثير في نفسي معنى أن هذا الأمر لا يحتاج إلى العلماء ليدركوه ليس هذا مما يكتسب بالعلم وإنما هو مما تعلمه العقول علم ضرورة وإذا كان الشيخ وهو في معمعان تعليم دقائق العلم يحدثك بحديث تعلمه العقول علم ضرورة يدني هذه الدقائق والخفايا ويقربها حتى تصير مما تعلمه العقول علم ضرورة هو بهذا يعطيك درسا في التربية

بقلم: د محمد أبو موسى
588
مختصر قصة الأندلس الجزء الأول | مرابط
تاريخ أبحاث

مختصر قصة الأندلس الجزء الأول


سلسلة مقالات مختصرة تطوف بنا حول الأندلس لنعرف قصتها من البداية حتى النهاية من الفتح إلى السقوط سنعرف كل ما دار من أحداث بين لحظة الفتح والصعود ولحظة الانهيار والأفول والهدف من ذلك أن ندرك ونعي تاريخنا بشكل جيد وأن نتعلم منه حتى نبني للمستقبل

بقلم: موقع قصة الإسلام
1483
دمعة على الإسلام | مرابط
فكر مقالات

دمعة على الإسلام


جاء الإسلام بعقيدة التوحيد ليرفع نفوس المسلمين ويغرس في قلوبهم الشرف والعزة والأنفة والحمية وليعتق رقابهم من رق العبودية فلا يذل صغيرهم لكبيرهم ولا يهاب ضعيفهم قويهم ولا يكون لذي سلطان بينهم سلطان إلا بالحق والعدل وقد ترك الإسلام بفضل عقيدة التوحيد ذلك الأثر الصالح في نفوس المسلمين في العصور الأولى فكانوا ذوي أنفة وعزة وإباء وغيرة يضربون على يد الظالم إذا ظلم ويقولون للسلطان إذا جاوز حده غير سلطانه: قف مكانك ولا تغل في تقدير مقدار نفسك فإنما أنت عبد مخلوق لا رب معبود واعلم أنه لا إله إلا ال...

بقلم: مصطفى لطفي المنفلوطي
613
لماذا لا يعيش الغربيون معيشة ضنكا؟ | مرابط
أباطيل وشبهات

لماذا لا يعيش الغربيون معيشة ضنكا؟


يقولون: لماذا لا يعيش الغربيون معيشة ضنكا ألم يرد في القرآن الكريم قول الله ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى فأين الضنك في حياة الغربيين الذين لم يعرضوا فقط عن ذكر الله وإنما هم لم يؤمنوا أصلا بالإسلام والغرب اليوم على ما هو عليه من التقدم والتطور والسعة والرفاهية لماذا لم تتحقق فيه هذه الآية

بقلم: محمود خطاب
897
عقول الصحابة والتابعين | مرابط
اقتباسات وقطوف

عقول الصحابة والتابعين


بين يدي القارئ اقتباس لامع لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله من كتابه الماتع درء تعارض العقل والنقل يتحدث فيه عن عقول الصحابة الكرام رضي الله عنهم وعقول التابعين ومن تابعهم من العلماء الأجلاء وكيف أنها تفوق الناس جميعا ولا يسع أحد مخالفتهم

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
2241