دمعة على الإسلام

دمعة على الإسلام | مرابط

الكاتب: مصطفى لطفي المنفلوطي

533 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

أي عين يجمل بها أن تستبقي في محاجرها قطرة واحدة من الدمع، فلا تريقها أمام هذا المنظر المحزن، منظر أولئك المسلمين، وهم ركَّع سجَّد على أعتاب قبر، ربما كان بينهم مَنْ هو خير مِنْ ساكنه في حياته، فأحرى أن يكون كذلك بعد مماته؟!

 

أيُّ قلب يستطيع أن يستقرَّ بين جنبي صاحبه ساعة واحدة، فلا يطير جزعًا حينما يرى المسلمين أصحاب دين التوحيد أكثر من المشركين إشراكًا بالله؛ وأوسعهم دائرة في تعدد الآلهة وكثرة المعبودات؟! لِمَ يَنْقِم المسلمون التثليث من المسيحيين؟ لِمَ يحملون لهم في صدورهم تلك المُوجِدَةَ وذلك الضغن؟ وعلام يحاربونهم؟ وفيم يقاتلونهم، وهم لم يبلغوا من الشرك بالله مبلغهم، ولم يغرقوا فيه إغراقهم؟!

 

يدين المسيحيون بآلهة ثلاثة، ولكنهم يشعرون بغرابة هذا التعدد، وبعده عن العقل، فيتأولون فيه ويقولون: إن الثلاثة في حكم الواحد. أما المسلمون فيدينون بآلاف من الآلهة أكثرها جذوع أشجار، وجثث أموات، وقطع أحجار، من حيث لا يشعرون !

 

كثيرًا ما يضمر الإنسان في نفسه أمرًا وهو لا يشعر به، وكثيرًا ما تشتمل نفسه على عقيدة خفية لا يحس باشتمال نفسه عليها، ولا أرى مثلًا أقرب من المسلمين الذين يلتجؤون في حاجاتهم ومطالبهم إلى سكان القبور، ويتضرعون إليهم تضرعهم للإله المعبود؛ فإذا عتب عليهم في ذلك عاتب، قالوا: إنا لا نعبدهم، وإنما نتوسل بهم إلى الله، كأنهم يشعرون أن العبادة ما هم فيه، وإن أكبر مظهر لألوهية الإله المعبود أن يقف عباده بين يديه ضارعين خاشعين، يلتمسون إمداده ومعونته، فهم في الحقيقة عابدون لأولئك الأموات من حيث لا يشعرون.

 

جاء الإسلام بعقيدة التوحيد؛ ليرفع نفوس المسلمين، ويغرس في قلوبهم الشرف والعزة والأنفة والحمية، وليعتق رقابهم من رقِّ العبودية، فلا يذلُّ صغيرهم لكبيرهم، ولا يهاب ضعيفُهم قويَّهم، ولا يكون لذي سلطان بينهم سلطان إلَّا بالحقِّ والعدل، وقد ترك الإسلام بفضل عقيدة التوحيد ذلك الأثر الصالح في نفوس المسلمين في العصور الأولى، فكانوا ذوي أنفة وعزة، وإباء وغيرة، يضربون على يد الظالم إذا ظلم، ويقولون للسلطان إذا جاوز حده [غير] سلطانه: قف مكانك، ولا تَغْلُ في تقدير مقدار نفسك، فإنما أنت عبد مخلوق، لا ربٌّ معبود، واعلم أنَّه لا إله إلا الله.

 

هذه صورة من صور نفوس المسلمين في عصر التوحيد، أمَّا اليوم وقد داخل عقيدتهم ما داخلها من الشرك الباطن تارة، والظاهر أخرى- فقد ذلَّت رقابهم، وخفقت رؤوسهم، وضرعت نفوسهم، وفترت حَمِيَّتهم، فرضوا بخطة الخسف، واستناموا إلى المنزلة الدنيا، فوجد أعداؤهم السبيل إليهم، فغلبوهم على أمرهم، وملكوا عليهم نفوسهم وأموالهم ومواطنهم وديارهم؛ فأصبحوا من الخاسرين.

 

والله لن يسترجع المسلمون سالف مجدهم، ولن يبلغوا ما يريدون لأنفسهم من سعادة الحياة وهناءتها إلا إذا استرجعوا قبل ذلك ما أضاعوه من عقيدة التوحيد، وإنَّ طلوع الشمس من مغربها، وانصباب ماء النهر في منبعه أقرب من رجوع الإسلام إلى سالف مجده، ما دام المسلمون يقفون بين يدي الجيلاني، كما يقفون بين يدي الله، ويقولون للأول كما يقولون للثاني: أنت المتصرف في الكائنات، وأنت سيد الأرضين والسموات.

 

إنَّ الله أغير على نفسه من أن يسعد أقوامًا يزدرونه، ويحقرونه، ويتخذونه وراءهم ظهريًّا، فإذا نزلت بهم جائحة، أو ألمت بهم مُلمَّة ذكروا الحجر قبل أن يذكروه، ونادوا الجذع قبل أن ينادوه... يا قادة الأمة ورؤساءها، عَذَرْنا العامة في إشراكها وفساد عقائدها، وقلنا: إنَّ العامي أقصر نظرًا، وأضعف بصيرة من أن يتصور الألوهية إلا إذا رآها ماثلة في النصب والأضرحة والقبور، فما عذركم أنتم وأنتم تتلون كتاب الله، وتقرؤون صفاتِه ونعوتَه، وتفهمون معنى قوله تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ}[النمل: 65]، وقوله مخاطبًا نبيه: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا}[الأعراف: 188]، وقوله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى}.[الأنفال: 17].

 

إنَّكم تقولون في صباحكم ومسائكم وغدوكم ورواحكم:

وكلُّ خير في اتباع من سلف   وكلُّ شرٍّ في ابتداع من خلف

 

فهل تعلمون أنَّ السلف الصالح كانوا يجصصون قبرًا، أو يتوسَّلون بضريح؟ وهل تعلمون أنَّ واحدًا منهم وقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، أو قبر أحد من أصحابه وآل بيته، يسأله قضاء حاجة، أو تفريج هَمٍّ؟ وهل تعلمون أنَّ الرفاعي والدسوقي والجيلاني والبدوي أكرم عند الله، وأعظم وسيلة إليه من الأنبياء والمرسلين، والصحابة والتابعين؟

وهل تعلمون أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم حينما نهى عن إقامة الصور والتماثيل نهى عنها عبثًا ولعبًا؟ أم مخافة أن تعيد للمسلمين جاهليتهم الأولى؟وأيُّ فرق بين الصور والتماثيل وبين الأضرحة والقبور، ما دام كلٌّ منها يجرُّ إلى الشرك، ويفسد عقيدة التوحيد؟

والله ما جهلتم من هذا، ولكنكم آثرتم الحياة الدنيا على الآخرة؛ فعاقبكم الله على ذلك بسلب نعمتكم، وانتقاض أمركم، وسلط عليكم أعداءكم، يسلبون أوطانكم، ويستعبدون رقابكم، ويخربون دياركم، والله شديد العقاب.

 


 

المصدر:

مصطفى لطفي المنفلوطي، مؤلفات مصطفى لطفي المنفلوطي الكاملة، 331/1

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#المنفلوطي
اقرأ أيضا
لماذا نحتاج إلى الخالق طالما عرفنا القوانين؟ | مرابط
أباطيل وشبهات الإلحاد

لماذا نحتاج إلى الخالق طالما عرفنا القوانين؟


يفترض الملحد أن القوانين تكفي لخلق الكون وظهوره وقد اعتمد بعض الملحدين على فكرة قانون الجاذبية وأنه كاف لظهور الكون وبغض النظر عن سقوط هذا الزعم ذاتيا بمجرد التفكير في مصدر قانون الجاذبية أو من الذي قننه أو من الذي أعطاه صفة التدخل وإظهار الأثر؟ بغض النظر عن هذه البديهيات الأولية فإن قانون الجاذبية لا يؤدي إلى دحرجة كرة البلياردو! فالقانون وحده عاجز عن أي شيء بدون ظهور الشيء.

بقلم: د. هيثم طلعت
320
الأدب مع الله | مرابط
تعزيز اليقين مقالات

الأدب مع الله


وتأمل أحوال الرسل صلوات الله وسلامه عليهم مع الله وخطابهم وسؤالهم كيف تجدها كلها مشحونة بالأدب قائمة به وهنا يذكر لنا ابن قيم الجوزية رحمه الله نماذج من خطاب الأنبياء والرسل مع الله تعالى وكيف تتجلى فيها معالم وملامح الأدب الكبير حتى في أدق التفاصيل

بقلم: ابن قيم الجوزية
2154
السينما بين الواقع والأحلام | مرابط
فكر مقالات

السينما بين الواقع والأحلام


يقولون أن السينما غير مفروضة على أحد ومن شاء فليذهب ومن شاء امتنع وحقيقة وقفت متعجبا كثيرا عند هذا الكلام كيف سرت إلى نفوس بعض الشباب مثل هذا الفيروس الذي أرسلته التيارات المنحرفة فعبث بمدركات التفكير لدى بعض الشباب الذين هم من أبعد الناس عن التلوث بأي اتجاه فكري منحرف من البدهيات في التصور الإسلامي أن المحرمات ليس فيها من شاء ومن شاء فالمحرم لا بد من منعه وإنكاره نعم بإمكان الشخص أن يقول إنه غير محرم ويبين حجته أما أن تكون حجته لتسويغ الفعل أن من شاء ومن شاء فهذا تفكير غير مستقيم مع القيم...

بقلم: فهد بن صالح العجلان
2522
ماذا كان يفعل ابن تيمية إذا أشكلت عليه مسألة | مرابط
اقتباسات وقطوف

ماذا كان يفعل ابن تيمية إذا أشكلت عليه مسألة


الفائدة الحادية والستون حقيق بالمفتي أن يكثر الدعاء بالحديث الصحيح اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء الى صراط مستقيم

بقلم: ابن القيم
544
هل أرواح الموتى تتلاقى وتتزاور | مرابط
اقتباسات وقطوف

هل أرواح الموتى تتلاقى وتتزاور


والأرواح المنعمة المرسلة غير المحبوسة: تتلاقى وتتزاور وتتذاكر ما كان منها في الدنيا وما يكون من أهل الدنيا فتكون كل روح مع رفيقها الذي هو على مثل عملها وروح نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في الرفيق الأعلى قال الله تعالى : ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا النساء: 69

بقلم: ابن القيم
654
سلسلة كيف تصبح عالما: الدرس الثاني ج2 | مرابط
تفريغات

سلسلة كيف تصبح عالما: الدرس الثاني ج2


ما حال أمتنا في العلوم الحياتية ما حال أمتنا في علوم الطب والهندسة لا شك أن أمتنا تعاني حالة من التردي في العلوم الحياتية وليس هذا كلاما عاطفيا إنما هناك ظواهر ومشاهدات واستقراءات نريد أن نتحدث عنها اليوم فأي مشكلة لها حل وأول وسائل الحل أن تعرف الواقع ليست هذه دعوة للإحباط ولا دعوة للتشاؤم فعندما يأتي إلينا مريض يعالج من مرض كذا أو كذا لابد أن تعرف واقع المريض: هل عنده أمراض أخرى عمره كم سنة ما هي ظروفه هل عمل عمليات قبل ذلك أم لا أخذ أدوية أو لم يأخذ

بقلم: د راغب السرجاني
654