أساليب الخطاب في القرآن الكريم

أساليب الخطاب في القرآن الكريم | مرابط

الكاتب: د راغب السرجاني

644 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

 

وهذا الزمان الذي كثرت فيه الأخطاء ووقعت فيه المصائب على الأمة تعالوا ننظر إلى لغة الحوار والخطاب من الدعاة إلى المدعوين، ومن العلماء إلى من يعلمون، ومن المدرسين إلى تلامذتهم، ومن الأزواج إلى زوجاتهم، ومن الآباء إلى أبنائهم. نعلم أن هناك أخطاء كثيرة وجسيمة، ولكن هل هذا الزمان زمان التقريع وعد الأخطاء وجلد الظهور بالسياط وإبراز هذه المشاكل الضخمة بصورة قد تقعد صاحبها عن الحركة وعن العمل وعن إعادة الإصلاح من جديد؟ أم زمن مد اليد وبث الأمل والتفاؤل في النفوس وإعطاء الأمة فرصة جديدة للقيام؟ وهي لا شك ستقوم؛ لأن هذا وعد رب العالمين سبحانه وتعالى.

كثير من الدعاة يلهبون ظهور المسلمين بالسياط قائلين لهم: أنتم فعلتم كذا وكذا، وكانوا في السابق يفعلون كذا، وأنتم تفعلون كذا وكذا، وهم كانوا يفعلون كذا، حتى يصاب المسلم بالإحباط، وإذا أحبط فمن المستحيل أن يقوم، فالمحبطون لا يغيرون؛ لأن الإنسان المحبط ليس له طاقة على التغيير، ولذلك بث الأمل في الناس أمر في غاية الأهمية.

وتعالوا ننظر إلى كتاب رب العالمين سبحانه وتعالى، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك). فكل شيء واضح جلي في كتاب ربنا سبحانه وتعالى، وفي سنة حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم.

فتعالوا ننظر إلى خطاب رب العالمين للمسلمين في حال القوة، وخطابه لهم في حال الضعف، خطابه في حال النصر وخطابه في حال الهزيمة، وخطابه في حال الانتصار والتمكين، وخطابه في حال الانكسار والمصيبة.

 

أسلوب الخطاب في القرآن الكريم بعد انتصار بدر

فبعد الانتصار الكبير الذي خرج منه المسلمون وهم يشعرون بالعزة والتمكين والسيادة والفخر وقد يتسلل إلى قلوبهم كبر أو عجب أو أنهم فعلوا ذلك بأيديهم وأن النصر ليس من عند الله عز وجل، وهذا أمر خطير، ولذلك نجد أن القرآن الكريم كان شديدًا جدًا على المسلمين في التعليق على غزوة بدر مع أنهم خرجوا من انتصار.

ففي السورة التي نزلت تصف غزوة بدر وتمجدها، وهي سورة الأنفال، يقول تعالى في أول آية منها: "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ" [الأنفال:1]، فلم يذكر موقفًا عظيمًا من مواقف المسلمين، ولم يذكر ثباتًا ولا جهادًا ولا قتالًا، ولكن قال: "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ"... [الأنفال:1-2]، إلى آخر الآيات.

فذكر مرضًا وقع فيه المسلمون وآفة أصابتهم بعد غزوة بدر، وهي الاختلاف على تقسيم الغنيمة بين المسلمين، فذكر هذا الأمر ليلفت الأنظار إلى عيب في القلب خطير جدًا، هو الاختلاف على أمور الدنيا، ولم يذكر أمرًا يرفع به من قيمتهم؛ لأنهم في حالة نشوة وانتصار وفخر بهذا النصر العظيم في يوم بدر.

وبعد هذا المقطع يأتي بمقطع آخر شديد أيضًا على المسلمين فيقول: "كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ" [الأنفال:5-6]، يعني: بعض المسلمين في غزوة بدر كان فيهم تردد كبير، "كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ * وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ" [الأنفال:6-7]. القافلة أو الحرب، "وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ" [الأنفال:7]. فربنا سبحانه وتعالى يطلع المسلمين على ما في داخلهم من خبايا نفوسهم، فهو يقول لهم: كنتم تريدون القافلة، والله عز وجل يريد الحرب، ويريد يوم الفرقان سبحانه وتعالى.

والله عز وجل لم ينسب النصر إليهم مرة واحدة في كل سورة الأنفال، بل كان دائمًا ينسبه إلى نفسه سبحانه وتعالى، وأنه هو الذي فعل كل شيء سبحانه وتعالى، فهو يقول سبحانه وتعالى: "إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً" [الأنفال:11]. أي: جند النعاس والمطر، ثم يقول: "إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا" [الأنفال:12]، فالملائكة مع المسلمين. ونسب النصر لنفسه سبحانه وتعالى فقال: "وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" [الأنفال:10]، سبحانه وتعالى، حتى قال: "فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ" [الأنفال:17]، فسلب المسلمين خاصية القتل مع أنهم كانوا يحملون السيوف بأيديهم في موقعة بدر ونسبه إلى نفسه سبحانه وتعالى، "وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ" [الأنفال:17]، فأنت أمسكت بالسيف وقاتلت في أرض القتال، والله عز وجل هو الذي منّ عليك بالثبات، وهو الذي قتل الكافرين، "فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ" [الأنفال:17]، أي: الرسول صلى الله عليه وسلم عندما أخذ كفًا من حصى ورمى به وجوه الكافرين وقال: شاهت الوجوه، "وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى" [الأنفال:17]، سبحانه وتعالى.

وهكذا ينزع الله النصر تمامًا من المسلمين وينسبه إلى نفسه سبحانه وتعالى؛ حتى لا يتكبر المسلمون بهذا النصر. هذا خطابه للمسلمين في حال القوة والسيادة والتمكين؛ حتى لا يدخلهم العجب والفخر والخيلاء والكبر، وهذه أمراض في منتهى الخطورة، (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر).

ثم يقول سبحانه وتعالى أيضًا في حق المسلمين في غزوة بدر: "وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ" [آل عمران:123]. بهذا التعبير الموحي بالقلة والضعف والهوان؛ ليرتبط المسلمون دائمًا بربهم، وليعلموا أنهم إن كانوا مع الله نصرهم الله عز وجل، وإن خالفوا أمره عز وجل أذلهم عز وجل، ونحن قوم أعزنا الله بالإسلام وإذا ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله. وهذا من وضوح الرؤية عند عمر الفاروق رضي الله عنه وأرضاه.

هذا الخطاب كله تعقيبًا على غزوة بدر التي كانت انتصارًا وفخرًا للإسلام والمسلمين.

 

أسلوب الخطاب في القرآن الكريم في غزوة أحد

أما موقعة أحد التي سماها ربنا سبحانه وتعالى في كتابه الكريم مصيبة، قال سبحانه وتعالى: "أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ" [آل عمران:165]. ومع ثبوت أخطاء المسلمين فيها والمسلمون يخطئوا في أحد خطأً تكتيكيًا استراتيجيًا فقط بترك جبل الرماة، وإنما كان خطؤهم خطأ قلبيًا بحتًا، فالمسلمون أمروا أمرًا صريحًا بعدم مغادرة الجبل، بل إن الرسول عليه الصلاة والسلام صاغ الأمر صياغة عجيبة.

فقال صلى الله عليه وسلم للمسلمين الرماة فوق الجبل: (إن رأيتمونا نهزمهم فلا تعينونا، وإن رأيتموهم يظهرون علينا فلا تعينونا)، وفي رواية: (فلا تغيثونا)، حتى قال: (إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تغيثونا)، فهو أمر صريح جدًا بعدم المفارقة والبقاء فوق الجبل، ولكن لما كثرت الغنائم وانتصر المسلمون انتصارًا مبهرًا في بداية الموقعة قال أغلب الرماة: الغنيمة الغنيمة! ونزلوا وخالفوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم كان أمرًا مباشرًا صريحًا وليس فيه أي تأويل، وهم إنما خالفوا من أجل الغنيمة، فكانت مخالفتهم مخالفة قلبية، قال ربنا سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: "مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ" [آل عمران:152].

ثم كان الخطأ الأعظم والأكبر هو الفرار من الزحف، وهذا خطأ عظيم، فالفرار من الزحف كبيرة من الكبائر، وهذه وقع فيها المسلمون في غزوة أحد، "إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ" [آل عمران:153]، فصعد المسلمون الجبال وفروا فيها، "وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ" [آل عمران:153].

والأخطر من ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يدعوهم ويقول لهم: هلم إلي أنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يجيبون، قال تعالى: "إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ" [آل عمران:153]. فلم يستمعوا لدعائه، بل منهم من بلغ به الفرار إلى المدينة المنورة، وقد كانت موقعة أحد على بعد حوالي أحد عشر كيلو مترًا من المدينة المنورة ومع ذلك فمنهم من بلغ به الفرار إلى المدينة المنورة ولم يلتفت وراءه، فقد كانت كارثة ومصيبة كما سماها ربنا سبحانه وتعالى.

ومن جراء هذه المصيبة استشهد من المسلمين سبعون، فكان هذا خسارة قوية جدًا للأمة الإسلامية في بدايتها، ومن هؤلاء الشهداء: حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه وأرضاه، وعبد الله بن جحش، وعبد الله بن حرام، وأنس بن النضر، ومصعب بن عمير رضي الله عنه وأرضاه وغيرهم، فقد بلغ الشهداء سبعين من أفاضل المسلمين، ومن أكابر الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، وجرح الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، ودخلت حلقتا المغفر في وجنتيه صلى الله عليه وسلم، وسقط في حفرة، وكاد أن يقتل صلى الله عليه وسلم، بل أشيع أنه قتل صلى الله عليه وسلم، ففر المسلمون بعد هذه الإشاعة، وكل هذه الأحداث وقعت نتيجة أخطاء مركبة، من أخطاء قلبية وعسكرية وقع فيها المسلمون، وكنا ننتظر ونتوقع أن يكون الخطاب شديدًا للمسلمين؛ لأنهم أخطئوا عدة أخطاء، ولكن لم يحدث ذلك، بل جاء خطاب رب العالمين رقيقًا لطيفًا هينًا؛ لأن المسلمين في حالة انكسار.

وأنت إذا رأيت شخصًا يمشي في الشارع فوقع على الأرض وانكسرت قدمه لخطأ ارتكبه فما هو رد فعلك؟ هل ستذهب تنهره وتزجره لماذا فعل كذا وكذا وكذا؟ أو تمد يديك له؛ لكي يقوم من الأرض، وتحاول أن تعالجه وتخفف عنه؟ وهكذا فعل ربنا سبحانه وتعالى مع عباده المؤمنين في غزوة أحد، فقد خاطبهم خطابًا جميلًا لطيفًا جدًا في رقة متناهية بعد هذه المصيبة والأخطاء، ولو رجعنا إلى سورة آل عمران التي نزلت بعد موقعة أحد فإننا نجد ربنا سبحانه وتعالى يقول فيها: "إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا" [آل عمران:122].

وهذا في أول الموقعة، ففي أول الموقعة طائفتان من المسلمين قررتا الانفصال عن الجيش والعودة إلى المدينة المنورة وعدم القتال، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم ردهم إلى الموقعة وأقنعهم، والحمد لله فقد منّ الله عليهم بالثبات، ومن الخطأ الكبير أن يغادر المسلمون أرض القتال دون استئذان من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا خطأ وقع فيه المسلمون ولكنهم ثابوا إلى رشدهم بسرعة، فقال ربنا: إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا [آل عمران:122]، ثم في نفس الآية مباشرة رفع من قدرهم حتى لا يخفض من قدرهم أحد، فقال تعالى: "وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ" [آل عمران:122].

ثم يقول سبحانه وتعالى مهونًا من المصيبة على المسلمين: "إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ" [آل عمران:140]، فأنتم انتصرتم قبل ذلك، وهم انتصروا في هذه الموقعة، ولكن لا يظنن أحد أنهم انتصروا بلا آلام وبلا جراح، "إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ" [آل عمران:140]، فالكفار الذين قاتلوكم أصابهم مثلما أصابكم من الهم والحزن والمصيبة والإيذاء، "إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ" [النساء:104]، فهم يألمون وآخرتهم النار، ونحن نألم ونسأل الله عز وجل أن يجعل آخرتنا الجنة، وفارق مهول بين من يألم في الدنيا وينتظر الجنة، وبين من يألم في الدنيا ومصيره في الآخرة إلى النار، فالكل يألم في الدنيا، وينال نصيبه من الألم والجراح بل والموت، قال تعالى: "أَفَإِينْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ" [الأنبياء:34]، فكل الناس يموت حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن العاقبة مختلفة بالكلية بين المؤمنين والكافرين.

ثم يقول تعالى: "إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ" [آل عمران:140]، فمع أن المسلمين بعد غزوة أحد يشعرون بالمصيبة، فقد استشهد منهم سبعون إلا أن الله يقول لهم: هذه ليست مصيبة، بل هذا اختيار من رب العالمين سبحانه وتعالى، "وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ" [آل عمران:140]، والشهيد حقًا هو الذي فاز، وأما نحن فعلى خطر عظيم، فنحن ما زالت في حياتنا بقية، ونسأل الله الثبات، أما الشهيد فقد أفضى إلى ما قدم، وقد مات مقبلًا غير مدبر، فتغفر له كل ذنوبه، ويذهب من أرض القتال إلى الجنة مباشرة.

وقد أنزل ربنا سبحانه وتعالى في أعقاب غزوة أحد ما ذكره في حق الشهداء وأنهم أحياء عند ربهم يرزقون، "فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ" [آل عمران:170]، ولما رأى سيدنا جابر بن عبد الله أباه عبد الله بن حرام رضي الله عنهم أجمعين ميتًا شهيدًا في غزوة أحد ركبه الهم والحزن رضي الله عنه وأرضاه، فجعل يكشف عن وجهه تارة ويغطيه تارة والصحابة ينهونه، والرسول صلى الله عليه وسلم لا ينهاه بل تركه، ثم ذهب إليه صلى الله عليه وسلم وربت على كتفيه فقال: يا رسول الله! لقد خلف عيالًا ودينًا.

فهو حزين مهموم فقال له صلى الله عليه وسلم: (ألا أبشرك بما لقي الله به أباك؟ فقال: بلى يا رسول الله! قال: لقد خاطب الله عز وجل أباك كفاحًا دون حجاب). فانظر إلى المرتبة التي انتقل إليها عبد الله بن حرام رضي الله عنه وأرضاه، فقد انتقل من كونه إنسانًا يسير على الأرض مثل كل الناس إلى رجل يخاطبه ربه سبحانه وتعالى كفاحًا ويقول له: (يا عبدي! تمنى أعطك؟ قال: يا رب! أتمنى أن أحيا مرة أخرى فأموت فيك)؛ لأنه شهد من الكرامة الكثير فأراد أن يحيا حتى يقتل في الله مرة أخرى، (فقال: إني كتبت على عبادي أنهم إليها لا يرجعون) أي: لا يعودون بعد أن يموتوا إلى الدنيا مرة أخرى، فقال: (إذًا ربي فبلغ عني)، فأنزل الله عز وجل الآيات في سورة آل عمران في حق الشهداء، وهذه درجة عالية جدًا.

وربنا سبحانه وتعالى ذكر للمسلمين بعد موقعة أحد أن الذين قتلوا منهم هم الذين فازوا، وأن هذه ليست خسارة، فلا تعتبر الشهداء الذين يتساقطون في فلسطين والعراق وغيرهما من بلاد العالم الإسلامي خسارة منيت بها الأمة الإسلامية، ولكن هذا مكسب كبير جدًا ودرجات عالية، وهذا اتخاذ من رب العالمين سبحانه وتعالى، كما قال تعالى: "وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ" [آل عمران:140].

ثم يخاطب ربنا سبحانه وتعالى المسلمين في سورة آل عمران أيضًا ويقول: "إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ" [آل عمران:155]، وفي نفس الآية ينزل العفو من رب العالمين سبحانه وتعالى على المسلمين؛ حتى لا يشعروا بانكسار يؤدي إلى إحباط وإلى يأس، فهم فيهم الأمل، وفيهم إن شاء الله تغيير للواقع الذي هم عليه وإن كانوا في مصيبة، وإن كانت المصيبة كبيرة، ولكن الله عز وجل عفا عن هذه المصيبة وإن كانت فرارًا من الزحف ومعصية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن عدتم إلى الله عز وجل قبلكم سبحانه وتعالى وعفا عنكم، وهو يعلم أنكم من المؤمنين ومن الصادقين، وقد غفر لكم، وهكذا يرفع من همة المسلمين في حال المصيبة سبحانه وتعالى.

وفي ذلك التوقيت ينزل آية عجيبة فيقول سبحانه وتعالى: "وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ" [آل عمران:139]، فالمسلمون بعد مصيبة أحد يخاطبون بأنهم الأعلون، حتى في زمن الانكسار والمصيبة، فالمسلمون هم الأعلون إن كانوا مؤمنين بالله عز وجل، فهم الأعلون لأن ربهم هو الله عز وجل، أما أعداؤهم فمنهم من يعبد بشرًا، ومنهم من يعبد شجرًا، ومنهم من لا يعبد شيئًا، وأما نحن فربنا الله عز وجل خالق السماوات والأرض، وملك الدنيا والآخرة سبحانه وتعالى، ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، وأما هم فهم لا يتبعون حتى رسلهم، بل إنهم على العكس يحرفون ويبدلون ويغيرون كلام رسلهم، بل قد كانوا يقتلون أنبياءهم، ونحن كتابنا القرآن، وشرعنا دين الله عز وجل وأما هم فليس لهم شرع يتبعونه.

فديننا قال الله عنه: "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا" [المائدة:3]، والكتاب الذي بين أيدينا "لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ" [فصلت:42]، فهذا شرعنا وهذا كتابنا، وأما هم فليس لهم دستور يتبعونه، وأما دستورنا الذي نتبعه نحن فليس فيه ضلال أو باطل أو زيغ بتاتًا، بل هو حق وصواب مطلق، وهذه منة كبيرة جدًا لأمة الإسلام والمسلمين.

ونحن نسأل الله عز وجل أن يكون مصيرنا إلى الجنة، وأما هم فإلى أين يتجهون إن ظلوا على كفرهم وعلى حربهم لله عز وجل ولأوليائه ولدينه؟

وانظر إلى تعليق رب العالمين سبحانه وتعالى على حادثة أصحاب الأخدود الذين فتنوا المسلمين في دينهم، فقد صنعوا أخدودًا وأحرقوا فيه القرية بكاملها، وفي عرف الناس هذه خسارة كبيرة جدًا، حيث إن المسلمين أحرقوا بكاملهم، ففي عرف الناس أن الكفار انتصروا انتصارًا مؤكدًا مبهرًا، ولكن رب العالمين سبحانه وتعالى يقول: "إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ [البروج:10] وعلى الجانب الآخر: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ" [البروج:11]، فالفوز الحقيقي أن يعلم الإنسان أن مصيره إلى الجنة؛ لأنه مرتبط بالله عز وجل.

وقوله تعالى: "وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ" [آل عمران:139] هذا خطاب من رب العالمين سبحانه وتعالى للمسلمين بعد موقعة أحد بهذه الرقة المتناهية؛ لتخفيف آثار المصيبة عليهم، فكأنه يقول لهم: انهضوا، فما زال هناك أمل وفرصة للتغيير، فأنتم قادة الأرض وسادتها وروادها إلى يوم القيامة، فأمة الإسلام لا تموت أبدًا، بل هي باقية إلى يوم القيامة، وهكذا وعد ربنا سبحانه وتعالى؛ لأن رسالتنا هي الرسالة الخاتمة؛ ولأن رسولنا صلى الله عليه وسلم ليس بعده رسول، فمن يحمل رسالة الله عز وجل إلى خلقه ويقيم حجته عز وجل على عباده إن فنيت أمة الإسلام؟ فأمة الإسلام باقية إلى يوم القيامة، وفناؤها من علامات الساعة؛ لأن الساعة لا تقوم إلا على شرار الخلق، لكن إن كان في عمر الأرض بقية ففي عمر أمة الإسلام بقية بل وريادة وسيادة إن شاء الله رب العالمين.

والرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعد غزوة أحد وهم ما زالوا في أرض الموقعة مستخفين في الجبل جاء أبو سفيان زعيم المشركين يتشفى من المسلمين، فسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أبي بكر وعن عمر رضي الله عنهم أجمعين، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تجيبوه)، أي: لئلا يكتشف الكفار مكان المسلمين، فقال أبو سفيان: أما هؤلاء فقد كفيتموهم، وهنا نشط عمر رضي الله عنه وأرضاه، وأخذته الحمية والغيرة فقال: قد أبقى لك الله يا عدو الله! ما يخزيك، فأراد أبو سفيان أن يتشفى فقال: اعل هبل، فقال صلى الله عليه وسلم: (ألا تجيبوه؟ قالوا: بماذا نجيب يا رسول الله؟! قال: قولوا: الله أعلى وأجل)، وهكذا إن ظهرت أمة على أمة الإسلام فقولوا: الله أعلى وأجل، فإن ارتباطنا بالله عز وجل أعلانا سبحانه وتعالى، وإن ارتبطنا بغيره كتب علينا الذلة والمسكنة.

(فقال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم -والعزى: الصنم الذي كانوا يعبدونه- فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ألا تجيبوه؟ قالوا: بماذا نجيبه يا رسول الله؟! قال: قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم، ثم قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، والحرب سجال -أي: انتصرتم علينا في بدر وانتصرنا عليكم في أحد- فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ألا تجيبوه؟ فقالوا: بماذا نجيبه يا رسول الله؟! قال: قولوا: لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار)، فشتان بين الشهيد وبين من قتل كافرًا. هكذا علمهم صلى الله عليه وسلم وهم في أشد حالات التعب والجراح أن يذكروا الله عز وجل ويرتبطوا به ولا ييأسوا ولا يحبطوا؛ لأن هذا ليس من شيم المؤمنين، وقد قال سبحانه وتعالى: "إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ" [يوسف:87]، فاليأس من صفات الكافرين ليس من صفات المؤمنين أبدًا.

ويقول سبحانه وتعالى: "قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ" [الحجر:56]، فمن صفات الضالين اليأس والقنوط والإحباط والكسل والفتور، وأما المسلم فهو يتحرك إلى آخر لحظة من لحظات حياته، وإلى أن يخرج آخر نفس في سبيل الله عز وجل، والموت في سبيل الله كان أمنية عند هؤلاء.

ونسأل الله عز وجل أن يرزقنا الشهادة في سبيله مقبلين غير مدبرين.

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#راغب-السرجاني #الخطاب-القرآني
اقرأ أيضا
التصور الإسلامي للنسوية: الجزء الأول | مرابط
فكر مقالات النسوية

التصور الإسلامي للنسوية: الجزء الأول


تستعرض المؤلفة في هذا المقال بعض القواعد والأسس والكليات والأصول الدينية التي فيها رد ضمني على منطلقات التيار النسوي ومرتكزاته وأعمدته الفلسفية والفكرية سنرى هنا كيف تعامل الإسلام مع المرأة وما هي صورة المرأة في الإسلام هل فعلا هناك ظلم واقع عليها أم لا وهل هناك دونية أو نظرة استعلاء من قبل الرجل للمرأة في الإسلام أم لا وغير ذلك من التساؤلات والمرتكزات النسوية

بقلم: د وضحى بنت مسفر القحطاني
2330
العمارة في الحضارة الإسلامية ج3 | مرابط
تاريخ

العمارة في الحضارة الإسلامية ج3


أمر الإسلام بتعمير الأرض بالبناء عليها وحث عليه لحماية الإنسان من حر الشمس وبرد الشتاء وأمطاره وجعل اتخاذ المساكن نعمة من الله لمخلوقاته ولذلك وضع الإسلام لبناء المساكن والمدن والقرى الكثير من الآداب وشهدت بلادنا الإسلامية ازدهار العمران والبناء الذي تميز بطابع إسلامي خالص وفي هذه المقالات سيقف بنا الكاتب على ملامح العمران في كل العصور الإسلامية

بقلم: موقع قصة الإسلام
1074
تفسير سورة العصر 3 | مرابط
تفريغات

تفسير سورة العصر 3


سورة العصر سورة عظيمة فيها من النصح وفيها من التوجيه وفيها من بيان الأحكام وفيها من دلالة الإنسان وإيقاظ عقله وقلبه وتنبيهه أيضا إلى رشده ما يستيقظ منه الغافل لو تدبر وتأمل هذه السورة التي يقول فيه الإمام الشافعي رحمه الله: لو ما أنزل على أمة محمد إلا هذه السورة لكفتهم يعني: سورة العصر وهذه السورة فيها من المعاني العظيمة التي يتوقف الإنسان عندها حائرا مما تضمنته مع قصرها فهي من قصار سور القرآن ولكنها عظيمة المعاني

بقلم: عبد العزيز الطريفي
2133
مسارات دراسة الدين من منظور جندري | مرابط
النسوية الجندرية

مسارات دراسة الدين من منظور جندري


وفي الغالب ما تعنيه النسويات بالأديان لا يتضمن بالضرورة فكرة النبوة والاعتقاد الحقيقي بوجود إله خالق للكون ولكنه بشكل أكبر يحيل إلى الجانب الروحاني من الوجود البشري المتضمن داخل تجارب الأفراد وبذلك يكون الحديث عن إعادة بناء الأديان أو تأسيس أديان خاصة متعارضا بشكل كامل مع المعنى المعروف للأديان والنبوة

بقلم: الحارث عبد الله بابكر
604
لماذا نحب الرسول الجزء الرابع | مرابط
تفريغات

لماذا نحب الرسول الجزء الرابع


أهل السنة والجماعة في باب محبة الرسول صلى الله عليه وسلم حق بين باطلين الباطل الأول: الغلو فيه والباطل الثاني: الجفاء لا نريد نحن أن تقسو قلوبنا على الرسول صلى الله عليه وسلم ونشعر بالجفاء لا نريد أن نحيي قلوبنا بمحبته عليه الصلاة السلام لكن في الطرف الآخر لا نغلو به ونرفعه فوق منزلته

بقلم: محمد المنجد
596
إشكالية الاختلاط: الاحتجاج بصلاة النساء خلف الرجال | مرابط
أباطيل وشبهات

إشكالية الاختلاط: الاحتجاج بصلاة النساء خلف الرجال


من ضمن الشبهات العجيبة التي يروجها العلمانيون لتبرير الاختلاط وتجويزه يقولون أن النساء كن يصلين خلف الرجال في العهد النبوي وهذا مدعاة للاختلاط ويبدو أن القوم مصرون على إحراج أنفسهم كل مرة ويظهرون جهلهم بنصوص الشرع وأحكام الدين وهذا أكبر دليل على أنهم يملكون ربع العلم والباقي يضيعون به عباد الله.

بقلم: قاسم اكحيلات
349