تميز السلف بكثرة الحفظ لإخلاصهم وهمتهم العالية

تميز السلف بكثرة الحفظ لإخلاصهم وهمتهم العالية | مرابط

الكاتب: أبو إسحق

768 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

 

عزائم السلف الصالح

إنك عندما تنظر إلى هؤلاء الأعلام وإلى عزائمهم، وتنظر إلى المتأخرين مع توفر الإمكانات وسهولة الحركة والتنقل، ومع ذلك لا ترى عند هؤلاء -المتأخرين من أهل العلم- عشر معشار ما عند المتقدمين، فالواحد لا يستطيع أن يحفظ مائة حديث مسند، فيدخل حديثًا في حديث، ويدخل متنًا في متن، وتضطرب عليه الكلمات.

أما أولئك فكانوا يحفظون الألوف المؤلفة من الأسانيد، وقصة البخاري المشهورة لما دخل بغداد فقلبوا عليه الأحاديث خير دليل على ذلك، فـالبخاري كان يحضر مجلسه مائة ألف، ولم يكن في وجهه شعرة، حتى كان بين المستملي والمستملي عشرون مترًا، وعشرات الذين ينتظرون حتى ينقلوا كلام البخاري إلى هؤلاء الذين لا يسمعون صوت البخاري، فطار ذكره إلى بغداد قبل أن يدخلها، وكانت بغداد عاصمة الخلافة العباسية وكل العلماء فيها، والكل يحرص أن يدخل إلى بغداد حتى يقابل العلماء الكبار كـأحمد وابن معين وغيرهم.

وكان من عادة أهل بغداد أنهم ينتقصون الأفاضل، فلما رأوا البخاري استقلوه، فعمدوا إلى مائة حديث وقلبوا أسانيدها ومتونها، فجعلوا إسناد هذا الحديث في متن ذاك، وإسناد هذا المتن ذاك، وأعطوا عشرة رجال كل رجل عشرة أحاديث، وقالوا: قوموا واتلوا عليه هذه الأحاديث.

فبعد أن انتهى المجلس قام أحدهم، وقال له: ما تقول في الحديث: حدثنا فلان عن فلان عن فلان وساق متنه، فقال: لا أعرفه، طيب: والحديث الثاني، قال: لا أعرفه. والثالث: لا أعرفه. وهكذا، وقال الثاني، فأخبره بأنه لا يعرف العشرة، إلى تمام المائة وهو يقول: لا أعرفه، فأما الجهلاء الأغماط فقالوا: لا يعرف أي شيء؟!! فقضوا عليه بالعجز، وأما العلماء فقالوا: فطن الرجل.

فبعد أن انتهى العشرة من تمام المائة، قال للأول: أما حديثك الأول، فمع الثاني، هذا السند للمتن الفلاني، وسندك الثاني للمتن الفلاني، وسندك الثالث للمتن الفلاني، حتى رد المائة حديث إلى أسانيدها وإلى متونها، فما قام من مجلسه حتى شهدوا له بالفضل.

يقول الحافظ ابن حجر: ليس العجب أن يحفظ الصواب، فإن الصواب يحفظه كل أحد، إنما العجب أنه حفظ الخطأ على ترتيب ما ألقوه، يعني يقول له: سندك الأول مع الخامس رقم أربعة، وسندك الثاني مع الثالث رقم تسعة، وهكذا، فكيف حفظ هذا الخطأ على هذا الترتيب بمجرد أن ألقوا عليه الحديث مرةً واحدة.

فكان هؤلاء العلماء يحفظون، كما صح عن البخاري أنه قال: (أحفظ مائة ألف حديث صحيح، ومائتي ألف حديث غير صحيح)، لا يدخل عليه متن في متن، بل بلغ من ضبطهم -سواء كان ضبط الصدر أو ضبط الكتاب- مبلغًا عجيبًا جدًا.

فيذكر ابن حبان وغيره في مقدمة المجروحين بسند صحيح إلى أحمد بن منصور الرمادي، قال: جاءني يحيى بن معين وأحمد بن حنبل، وفي يد يحيى ورقة، فقال: أعط هذه أبا نعيم الفضل بن دكين، وهذا من مشايخ أحمد وابن معين، ومن مشايخ البخاري، لأنه عمر فأدركه البخاري، فترى أن أحمد شيخ البخاري، والبخاري أدرك شيخ أحمد، إذًا: كأنه مثل أحمد في الطبقة في هذا الشيء، لأن كلام الرجلين يأخذ عن شيخ واحد، مع أن أحمد شيخ البخاري وهذا الذي يسميه العلماء العلو.

فقال: يحيى بن معين أعط هذه الورقة لـأبي نعيم إذا خف المجلس، قال: فنظر أحمد في الورقة فإذا يحيى بن معين خلط أحاديث لـأبي نعيم بأحاديث ليست من حديثه، فخلطها ببعضها وأدخل أسانيد في المتون، على أساس أن يعطيها للفضل، فإذا نظر الفضل وأقر بما فيها فقد اختلط؛ لأنه لا يميز حديثه من حديث غيره، وكان الفضل بن دكين إذا جلس في تلك الأيام على الكرسي كان يجلس أحمد بن حنبل عن يمينه ويحيى بن معين عن يساره لجلالتهما، وكان بقية الطلبة يجلسون دونيهما.

فبعدما خف المجلس قال أحمد بن منصور الرمادي: فناولته الورقة، قال: فنظر إليها وجعلت عيناه تلتفت أي: أنه قد فطن لهذا الأمر- ثم أطرق ساعة -أي: لحظة- ثم قال لي -يعني لـأحمد بن منصور الرمادي -: أما أنت فلا تجرؤ على أن تفعل ذلك، وأما هذا وأشار إلى أحمد فآدب من أن يفعل ذلك، وليس هذا إلا من عمل هذا، يعني عمل يحيى، ثم أخرج رجله ورفسه، فأسقطه من على الدرج، وقال: أعلي تعمل؟! قال: فقام يحيى فقبله بين عينيه، وقال: جزاك الله عن الإسلام خيرًا مثلك يحدث، إنما أردت أن أجربك، فلامه أحمد، وقال: قد نهيتك أن تفعل ذلك، وقلت لك: إن الرجل ثبت، فقال له يحيى: والله لرفسته أحب إلي من رحلتي.

 

القدرة على الحفظ

فكانوا يحفظون حفظًا عجيبًا، وهذه الأمة تميزت من بين سائر الأمم بهذا الحفظ، يعني رجل يحفظ ألف ألف حديث ولا يدخل له إسناد في متن أبدًا، هذا مما يقطع عليه بالعجب، فهؤلاء ما كانوا يفعلون ذلك إلا لأنهم ما كان يشغلهم عن ذلك شيء، فحياتهم وهمتهم في هذا الطريق.

لذلك فطالب العلم إن لم يتأس بهؤلاء ضاع عمره هباءً، وإلا فأنت الآن عندك من الكتب والإمكانات التي ما كان يحلم بتوفرها أي إنسان، فالحافظ ابن حجر ما كان عنده هذه الكتب، وإنما كان أمين المكتبة العامة، كان هو صاحب الخزانة، فكان ينتفع بها، وإلا فقد كانوا فقراء، لا يستطيعون أن يستأجروا ناسخًا لينسخ لهم كل الكتب الموجودة، وأنت الآن عندك هذه الكتب، لكن متى ستحفظ؟

العز بن عبد السلام لم يكن عنده المحلى ولم يكن عنده المغني، وكان إذا أراد أن يستخرج مسألة من هذين الكتابين يرسل إلى محيي الدين بن عربي الصوفي المعروف ليستعير منه الكتابين، وقال: ما استطبت الفتيا حتى صارت عندي نسخة من المحلى والمغني، يعني: ما حصّلها إلا بعد زمن طويل، والآن أصغر الطلبة عنده هذين الكتابين وزيادة.

وأقرب مثال الشيخ أبو الأشبال أحمد شاكر في تعليقه على المحلى لما نقل ابن حزم أثرًا من مصنف عبد الرزاق، فجعل يتحسر، ويقول: أين هذه الكتب عند صبيان الكتاتيب ونحن لا نسمع لها بخبر ولا أثر، بل مات رحمه الله ولم ير موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان، وهو يتكلم في ابن حبان قال: وعلمت أن للهيثمي كتابًا في ذلك، ولو اطلعنا عليه لكان كبير الفائدة ينفعنا في إخراج الصحيح.

والآن الكتب كثيرة والمخطوطات كثيرة، ولكن كما يقول ابن الجوزي: إنما البكاء على خساسة الهمم!! لا يبكى على ضعف الإمكانات؛ لأنه إذا آتاك الله تبارك وتعالى همةً عالية فما من شيء يمكن له أن يعترضك، كان الحافظ الحازمي رحمه الله يكتب طوال الليل .. يصنف .. ويؤلف .. ويتعقب وينسخ طوال الليل، فأشفق عليه جارٌ له من هذا السهر، فكلما نظر رأى السراج يضيئ، فقال لجاريته يومًا، قولي له: ليس بالقنديل زيت، لعله ينام أو يستريح.

فقالت الجارية: ليس بالقنديل زيت، فقال: لا بأس، وطبعًا: الرجل يريد أن يراقب هل ينام أم لا. قال: فنظرت إليه فوجدته يقوم الليل، سُمع صوته وهو يقرأ القرآن إلى هذا الجار حتى أذن مؤذن الفجر.

كانوا أناسًا لم يتعودوا على عيشة البطالين، وإنما كانت حياتهم كلها إما عبادة وإما طلب علم، والحافظ الحازمي هذا مات وعمره ستة وثلاثون سنة، وابن عبد الهادي مات وعمره تسعة وثلاثون سنة، وأعجب من ذلك سيبويه الإمام المشهور، صاحب الكتاب في النحو، مات وعمره ثنتان وثلاثون سنة.

وسيبويه هو صاحب الكتاب في النحو، الذي ما جسر كبار النحاة وكبار العلماء أن يدخلوا على هذا الكتاب حرفًا واحدًا، ولا زالوا يلتزمون عباراته حرفيًا حتى الساعة.

وهذا كله بسبب الهمة العالية التي كانت عند الأسلاف: ومسلم رحمه الله روى في صحيحه عن يحيى بن أبي كثير، مع أن هذا ليس من موضوع في كتابه، إنما موضوع كتابه الصحيح المسند، روى بسنده إلى يحيى بن أبي كثير، أنه قال: لا يستطاع العلم براحة الجسد.

 

الهمة العالية

إذا كنت ذا همةٍ عالية فيظل بدنك متعبًا بصفةٍ دائمة، لماذا؟ لأن روحك طموحة، تحتاج إلى بدن وبدن وبدن، يعني بدنك هذا لا يصلح لهذه الروح الفتية.

وأعجب من ذلك ما ذكروه عن أبي الوفاء ابن عقيل الحنبلي، وهذا الرجل له كتاب اسمه (الفنون) طبع منه مجلدان، وهذا الكتاب يقع في ثمانمائة مجلد، قال ابن رجب في ذيل الطبقات: حدثني فلان أنه رأى منه المجلد كذا بعد الأربعمائة، وهذا كتاب واحد!! فكيف صنف كتابًا بهذه الضخامة؟ إلى جانب كتبه الأخرى، إلى جانب الدروس التي كان يلقيها، إلى جانب حياته، فكان له زوجة وأولاد وكان عنده مشاكل وكان له رحم، فمن أين وجد الوقت حتى يصنف مثل هذا الكتاب.

اسمع إليه يقول: إنه لا يحل لي أن أضيع ساعةً من عمري، حتى إذا كلّ لساني عن مناظرة وبصري عن مطالعة، استرحت فأعمل فكري حال استراحتي، فلا أقوم إلا وقد خطر لي ما أسطره، وإنني أسطر بجهدي أوقات أكلي، حتى إنني أختار خث الكعك وتحسيه بالماء على الخبز لأجل ما بينهما من التفاوت في المضغ.

فرجل يلاحظ الوقت ما بين مضغ الخبز والكعك، لا يمكن أن يضيع ساعتين أو ثلاثًا أو أربعًا وهو يحرص على دقيقتين، فكانوا يحرصون على الأنفاس؛ لأن الأنفاس هي العمر، وبقدر استكمالك للعمر يكون جزاؤك في الآخرة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أعذر الله تبارك وتعالى إلى عبدٍ بلّغه ستين سنة)، فإذا بلغ ستين سنة بلغ عذره، لأنه لو لم يعمل الخير لمدة ستين سنة فهذا لا خير فيه، هذا إذا علمنا أن أعمار هذه الأمة بين الستين إلى السبعين كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.
اقرأ أيضا
خطر البدعة وأهلها | مرابط
تفريغات

خطر البدعة وأهلها


ثم أصحاب البدع يحملون أوزارهم وأوزار الذين أضلوهم كما قال تبارك وتعالى:ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علمالنحل:25 إن المبتدعة ليس عندهم علم ولا برهان وإنما هو استحسان شيء ظنه قربة إلى الله عز وجل لذلك نخرج من هذا بالقاعدة المعروفة عند أهل السنة: إن الزيادة في الخير ليست خيرا إلا أن تكون مشروعة

بقلم: أبو إسحق الحويني
776
مفهوم الهداية | مرابط
اقتباسات وقطوف

مفهوم الهداية


مقتطف ماتع للدكتور سلطان العميري حول مفهوم الهداية والذي يفهمه كثير من المسلمون بشكل خاطئ ويحصرونه في الأمور الدينية فقط بينما يحتاج الإنسان إلى أنواع كثيرة من الهدايات في حياته يوضحها لنا ويسردها بشكل موجز

بقلم: سلطان العميري
650
المذاهب الهدامة | مرابط
فكر مقالات

المذاهب الهدامة


يقول كارل ماركس وأتباعه: إن الأديان أفيون الشعوب وإن الناس يقبلون على الدين لأنه يخدرهم ويلهيهم عن شقاء الحياة وهذا القول الهراء عن الدين آخر وصف يمكن أن ينطبق عليه وأول وصف ينطبق على مذهب كارل ماركس بجميع معانيه إنه يرفع عن الضمير شعوره بالمسئولية لأنه يلقي بالمسئوليات كلها على المجتمع ويقول ويعيد للعجزة وذوي الجرائم والآثام إنهم ضحاياه المظلومون وإن التبعة كلها في عجزهم وإجرامهم واقعة عليه

بقلم: عباس محمود العقاد
2314
تأصيل موجز حول إشكالية المعازف | مرابط
أباطيل وشبهات تعزيز اليقين

تأصيل موجز حول إشكالية المعازف


بين يدي القارئ مجموعة من التغريدات لإبراهيم السكران حول موضوع المعازف حاول فيها تأصيل المسألة بشكل موجز وسريع وأشار إلى عدد من المصادر لمن أراد الاستزادة في هذه المسألة ثم تم جمع هذه التغريدات لما فيها من فائدة على وجازتها واختصارها

بقلم: إبراهيم السكران
2498
المرأة في عصر النبوة | مرابط
المرأة

المرأة في عصر النبوة


ولم تكن حياة النساء في العصر الأول كحياتهن في هذا العصر مضطربة حائرة أو متبذلة ساخرة بل كانت إلى الفطرة أقرب وإلى الطهر أدنى. ولم يكن يمنعهن الحياء الذي يتحلين به -والحياء من الإيمان- أن يتفقهن في الدين ويسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عما جهلن منه ولم تكن رعايتهن البالغة بحقوق الزوج والبيت والولد لتحول بينهن وبين المنافسة في الهدى والخير إلى المثوبة والبر ابتغاء رضوان الله ورسوله

بقلم: طه محمد الساكت
295
كيف تقرأ كتابا ج5 | مرابط
تفريغات

كيف تقرأ كتابا ج5


وأحيانا يحتاج القارئ أن يقرأ كتابا آخر ليعرف طريقة مؤلف أو كتاب مثل صحيح البخاري العلماء استقرءوا منهج البخاري ووضعوه في كتب وبعض كتب الفقه لها مصطلحات مثلا: مغني ذوي الأفهام عن الكتب الكثيرة في الأحكام لابن عبيدان الحنبلي هذا إذا قال: اتفقوا يقصد الأئمة الأربعة مثلا أحيانا إذا قال: اتفقت يقصد ثلاثة إلا فلانا أحيانا إذا قال: اتفقا يقصد فلانا وفلانا ولكن ليس دائما يقول هذا فلابد أن تعرف ذلك وقد ذكر لك الاصطلاح في البداية

بقلم: محمد صالح المنجد
480