للحفظ أوقات من العمر، فأفضلها الصبا وما يقاربه من أوقات الزمان، وأفضلها إعادة الأسحار وأنصاف النهار، والغدوات خير من العشيات، وأوقات الجوع خير من أوقات الشبع. ولا يحمد الحفظ بحضرة خضرة وعلى شاطئ نهر لأن ذلك يُلهي، والأماكن العالية للحفظ خير من السوافل، والخلوة أصل، وجمع الهم أصل الأصول. وترفيه النفس من الإعادة يومًا في الأسبوع ليثبت المحفوظ، وتأخذ النفس قوة كالبنيان يُترك أيامًا حتى يستقر، ثم يُبنى عليه. وتقليل المحفوظ مع الدوام أصل عظيم، وأن لا يشرع في فن حتى يُحكِم ما قبله، ومن لم يجد نشاطاً للحفظ فليتركه فإن مكابرة النفس لا تصلح. ثم لينظر ما يحفظ من العلم فإن العمر عزيز والعلم غزير، وإن أقوامًا يصرفون الزمان إلى حفظ ما غيره أولى منه، وإن كان كل العلوم حسنًا، ولكن الأولى تقديم الأهم والأفضل. وأفضل ما تُشوغِل به حفظ القرآن، ثم الفقه، وما بعد هذا بمنزلةِ تابع، ومن رزق يقظة دلَّتُه يقظته فلم يحتج إلى دليل، ومن قصد وجه الله تعالى بالعلم دلَّه المقصود على الأحسن، "واتَّقوا الله ويُعلِّمكم الله"
المصدر:
ابن الجوزي، صيد الخاطر، ص311