الهجرة النبوية نقطة تحول في التاريخ الإنسان ج3

الهجرة النبوية نقطة تحول في التاريخ الإنسان ج3 | مرابط

الكاتب: علي الصلابي

737 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

15 – الزُّبير، وطلحة، والتقاؤهما برسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق الهجرة:

وممَّا وقع في الطَّريق إلى المدينة: أنَّه صلى الله عليه وسلم لقي الزُّبير بن العوَّام في ركبٍ من المسلمين كانوا تجارًا قافلين من الشَّام، فكسا الزُّبيرُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ثيابًا بيضاء. [البخاري (3906) والبيهقي في الدلائل (2/498)]، وكذا روى أصحاب السِّيَر: أنَّ طلحة بن عبيد الله لقيهما أيضًا وهو عائد من الشَّام، وكساهما بعض الثِّياب [البيهقي في الدلائل (2/498)]

 

16 – أهمِّيَّة العقيدة والدِّين في إزالة العداوة والضَّغائن:

إنَّ العقيدة الصَّحيحة السَّليمة، والدِّين الإسلاميَّ العظيم لهما أهمِّـيَّـةٌ كبرى في إزالة العداوات، والضَّغائن، وفي التَّأليف بين القلوب والأرواح، وهو دورٌ لا يمكن لغير العقيدة الصَّحيحة أن تقوم به، وهاقد رأينا كيف جمعت العقيدة الإسلاميَّة بين الأوس، والخزرج، وأزالت آثار معارك استمرَّت عقودًا من الزَّمن، وأغلقت ملف ثاراتٍ كثيرةٍ في مدَّةٍ قصيرةٍ، بمجرَّد التَّمسُّك بها، والمبايعة عليها، وقد رأينا ما فعلته العقيدة في نفوس الأنصار، فقد استقبلوا المهاجرين بصدورٍ مفتوحةٍ، وتآخوا معهم في مثاليَّةٍ نادرةٍ، لا تزال مثارَ الدَّهشة، ومضرب المثل، ولا توجد في الدُّنيا فكرةٌ، أو شعارٌ آخر فعل مثلما فعلت عقيدة الإسلام الصَّافية في النُّفوس.

ومن هنا ندرك السِّرَّ في سعي الأعداء الدَّائب إلى إضعاف هذه العقيدة، وتقليل تأثيرها في نفوس المسلمين، واندفاعهم المستمرِّ نحو تزكية النَّعرات العصبيَّة، والوطنيَّة، والقوميَّة، وغيرها، وتقديمها كبديلٍ للعقيدة الصَّحيحة.

 

17 – فرحة المهاجرين والأنصار بوصول النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم:

كانت فرحة المؤمنين من سكان يثرب؛ من أنصارٍ، ومهاجرين بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصوله إليهم سالمًا فرحةً أخرجت النِّساء من بيوتهنَّ، والولائد، وحملت الرِّجال على ترك أعمالهم، وكان موقف يهود المدينة، موقف المشارك لسكَّانها في الفرحة ظاهرًا، والمتألِّم من منافسة الزَّعامة الجديدة باطنًا، أمَّا فرحة المؤمنين بلقاء رسولهم؛ فلا عجب فيها، فهو الَّذي أخرجهم من الظُّلمات إلى النُّور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد، وأما موقف اليهود، فلا غرابة فيه؛ فهم الذين عُرِفوا بالملق، والنِّفاق للمجتمع؛ الَّذي فقدوا السَّيطرة عليه، وبالغيظ، والحقد الأسود ممَّن يسلبهم زعامتهم على الشُّعوب، ويَحُول بينهم وبين سلب أموالهم باسم القروض، وسفك دمائها باسم النُّصح، والمشورة، وما زال اليهود يحقدون على كلِّ من يخلِّص الشُّعوب من سيطرتهم، وينتهون من الحقد إلى الدَّسِّ، والمؤامرات، ثمَّ إلى الاغتيال إن استطاعوا، ذلك دينهم، وتلك جِبِلَّتُهم.

ويستفاد من استقبال المهاجرين والأنصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم، مشروعية استقبال الأمراء والعلماء عند مقدمهم، بالحفاوة والإكرام، فقد حدث ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان هذا الإكرام، وهذه الحفاوة، نابعين من حبٍّ للرسول صلى الله عليه وسلم؛ بخلاف ما نراه  من استقبال الزعماء والحكام في عالمنا المعاصر، ويستفاد كذلك التنافس في الخير، وإكرام ذوي العلم والشرف، فقد كانت كل قبيلة تحرص أن تستضيف رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وتعرض أن يكون رجالها حُراسًا له، ويؤخذ من هذا، إكرام العلماء والصالحين، واحترامهم وخدمتهم.

 

18 – مقارنة بين الهجرة، والإسراء والمعراج:

كانت الهجرة النَّبويَّة الشَّريفة على النَّحو الَّذي كانت عليه، وسارت على الوضع الَّذي يسلكه كلُّ مهاجرٍ؛ حتَّى توجد القدوة، وتتحقَّق الأسوة، ويسير المسلمون على نهجٍ مألوفٍ، وسبيلٍ معروفٍ، ولذلك، فلم يرسلِ الله – عزَّ وجلَّ – له صلى الله عليه وسلم البراق ليهاجر عليه – كما حدث في ليلة الإسراء – مع أنَّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم في يوم هجرته أحوج إلى البراق منه في أيِّ وقتٍ آخر؛ لأنَّ القوم يتربَّصون به هنا، ولم يكن هناك تربُّص في ليلة الإسراء، ولو ظفروا به في هجرته؛ لشفوا نفوسهم منه بقتله.

والحكمة في ذلك – والله أعلم -: أنَّ الهجرة كانت مرحلةً طبيعيَّةً من مراحل تطوُّر الدَّعوة، ووسيلةً من أهمِّ وسائل نشرها، وتبليغها، ولم تكن خاصةً برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ بل كان غيره من المؤمنين مكلَّفين بها، حين قطع الإسلام الولاية بين المهاجرين وغير المهاجرين القادرين على الهجرة. قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمنوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمنوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلاَيَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [الآنفال  72].

أمَّا رحلة الإسراء، والمعراج، فكانت رحلةَ تشريفٍ، وتقديرٍ، كما كانت إكرامًا من الله – عزَّ وجلَّ – لنبيِّه صلى الله عليه وسلم؛ ليطلعه على عالم الغيب، ويريه من آياته الكبرى، فالرِّحلة من أولها إلى آخرها خوارق، ومعجزاتٌ، ومشاهد للغيبيَّات، فناسب أن تكون وسيلتها مشابهةً لغايتها. زِدْ على ذلك: أنَّ رحلة الإسراء خصوصيَّةٌ للرسول صلى الله عليه وسلم، وليس لأحدٍ من النَّاس أن يتطلَّع لمثلها، ولسنا مطالبين بالاقتداء به فيها، ولذا فإنَّ حصولها على النَّحو؛ الَّذي كانت عليه، هو أنسب الأوضاع لحدوثها.

 

19 – وضوح سنَّة التَّدرُّج:

نلاحظ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما تقابل مع طلائع الأنصار الأولى، لم يفعل سوى ترغيبهم في الإسلام، وتلاوة القرآن عليهم، فلـمَّا جاؤوا في العام التالي، بايعهم بيعة النِّساء على العبادات، والأخلاق، والفضائل، فلـمَّا جاؤوا في العام التالي؛ كانت بيعة العقبة الثَّانية على الجهاد، والنَّصر، والإيواء. وجديرٌ بالملاحظة: أنَّ بيعة الحرب لم تتمَّ إلا بعد عامين كاملين، أي بعد تأهيلٍ، وإعدادٍ استمرَّ عامين كاملين، وهكذا تمَّ الأمر على تدرُّجٍ ينسجم مع المنهج التَّربويِّ الَّذي نهجت عليه الدَّعوة من أوَّل يومٍ.

إنَّه المنهج الَّذي هدى الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم إلى التزامه، ففي البيعة الأولى، بايعه هؤلاء الأنصار الجدد على الإسلام؛ عقيدةً، ومنهاجًا، وتربية، وفي البيعة الثانية، بايعه الأنصار على حماية الدَّعوة، واحتضان المجتمع الإسلاميِّ؛ الذي نضجت ثماره، واشتدَّت قواعده قوَّةً وصلابةً.

إنَّ هاتين البيعتين أمران متكاملان ضمن المنهج التَّربويِّ للدَّعوة الإسلاميَّة، وإنَّ الأمر الأول هو المضمون، والأمر الثاني – وهو بيعة الحرب – هو السِّياج الَّذي يحمي ذلك المضمون، نعم كانت بيعة الحرب بعد عامين من إعلان القوم الإسلام، وليس فور إعلانهم.

بعد عامين؛ إذ تمَّ إعدادهم حتَّى غدوا موضع ثقةٍ، وأهلًا لهذه البيعة، ويلاحظ: أنَّ بيعة الحرب لم يسبق أن تمَّت قبل ذلك اليوم مع أيِّ مسلم؛ إنَّما حصلت عندما وجدت الدَّعوة في هؤلاء الأنصار، وفي الأرض الَّتي يقيمون فيها المعقل الملائم؛ الَّذي ينطلق منه المحاربون؛ لأنَّ مكَّة لوضعها عندئذٍ لم تكن تصلح للحرب.

وقد اقتضت رحمة الله بعباده «ألاَّ يُحَمِّلَهم واجبَ القتال إلى أن توجد لهم دار إسلام، تكون لهم بمثابة معقلٍ يأوون إليه، ويلوذون به، وقد كانت المدينة المنوَّرة أوَّل دار إسلامٍ». لقد كانت البيعة الأولى قائمةً على الإيمان بالله، ورسوله صلى الله عليه وسلم، والبيعة الثَّانية على الهجرة، والجهاد، وبهذه العناصر الثلاثة: الإيمان بالله، والهجرة، والجهاد، يتحقَّق وجود الإسلام في واقع جماعيٍّ ممكنٍ، والهجرة لم تكن لتتمَّ لولا وجود الفئة المستعدَّة للإيواء؛ ولهذا قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمنوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمنوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلاَيَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [الآنفال: 72].

وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمنوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [الآنفال: 75]. وقد كانت بيعة الحرب هي التَّمهيد الأخير لهجرة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة، وبذلك وَجَدَ الإسلامُ موطنَه؛ الَّذي ينطلق منه دعاةً الحقِ بالحكمة، والموعظة الحسنة، وتنطلق منه جحافل الحقِّ المجاهدة أوَّل مرَّةٍ، وقامت الدَّولة الإسلاميَّة المحكِّمة لشرع الله.

 


 

المصدر:

الموقع الرسمي للدكتور علي الصلابي

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#السيرة-النبوية
اقرأ أيضا
المرأة المسلمة ج1 | مرابط
تفريغات المرأة

المرأة المسلمة ج1


المرأة إذا فسدت وانحرفت غدت فتنة لكل مفتون وسببت الفساد والدمار في المجتمع وركزوا على المرأة لأن المرأة هي التي تتخرج على يديها الأجيال التي ينتظر منها أن تبعث مجد الأمة والتي يتخرج على يديها الشباب الذين سوف يملئون الفراغ الذي وقعت به الأمة الإسلامية

بقلم: سلمان العودة
510
موقف الإسلام من الانفعالات: نموذج الغضب | مرابط
تفريغات

موقف الإسلام من الانفعالات: نموذج الغضب


نأتي إلى مثال واضح جدا يبين لنا موقف الإسلام من بعض الانفعالات وهو أحد الانفعالات التي تكون في النفس البشرية ألا وهو انفعال الغضب لنبين من خلال هذا الشعور والانفعال الذي يحدث في النفس ما موقف الإسلام من هذه الانفعالات وكيف يندفع المسلم لضبط انفعاله بضابط الشرع.

بقلم: محمد صالح المنجد
395
القياس والاجتهاد عند الصحابة | مرابط
اقتباسات وقطوف

القياس والاجتهاد عند الصحابة


الصحابة - رضي الله عنهم - مثلوا الوقائع بنظائرها وشبهوها بأمثالها وردوا بعضها إلى بعض في أحكامها وفتحوا للعلماء باب الاجتهاد ونهجوا لهم طريقه وبينوا لهم سبيله وهل يستريب عاقل في أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قال لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان

بقلم: ابن القيم
499
الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ج2 | مرابط
تفريغات

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ج2


لو قال قائل: إن زفر وابن القاسم والمزني والأثرم كانوا فقهاء وكل واحد منهم ينتمي إلى مذهب من المذاهب الأربعة وإن أبا حنيفة ومالكا والشافعي وأحمد لم يكونوا فقهاء أو قال: إن الأخفش وابن الأنباري والمبرد كانوا نحاة والخليل وسيبويه والفراء لم يكونوا نحاة فهذا مستحيل ولا يوافقه أحد من أهل هذا الفن وأيضا لو قال أحد: إن صاحب الملكي والمسيحي ونحوهما من كتب الطب كانوا أطباء ولكن بقراط وجالينوس ونحوهما لم يكونوا أطباء فقوله مردود عند الأطباء وأصحاب كل فن يعرفون المتقدم في هذا الفن ولا يمكن أن يقروا بص...

بقلم: سفر الحوالي
727
ماذا نريد من المرأة ج2 | مرابط
تفريغات المرأة

ماذا نريد من المرأة ج2


المرأة أم للدعاة والمصلحين والمرأة زوجة للدعاة والمصلحين والمرأة أيضا داعية هي في موقعها ومع بني جنسها ولاشك أن هذا الدور يتأكد ويتزايد في هذه المرحلة التي نعيشها وليست الأدوار الأولى من هذا الدور ولا أولى منه

بقلم: محمد الدويش
392
استشعار عظمة الله | مرابط
اقتباسات وقطوف

استشعار عظمة الله


وللأسف الشديد أن المشركين الأوائل كانوا يفقهون معنى كلمة لا إله إلا الله أكثر من بعض المنتسبين إلى العلم الآن من المسلمين كان أبو جهل أفقه لمعنى لا إله إلا الله من هذا الذي ينسب إلى العلم ويقول: إن الطواف بالقبور ليس شركا لماذا قامت الحروب ولماذا صبر العرب على حشد الغلاصم وقطع الحلاقم ونفذ الأراقم ومتون الصوارم

بقلم: أبو إسحق الحويني
504