هل شك إبراهيم عليه السلام

هل شك إبراهيم عليه السلام | مرابط

الكاتب: د منقذ محمود السقار

2560 مشاهدة

تم النشر منذ 3 سنوات

نص الشبهة:

 

قالوا: القرآن أساء إلى أبي الأنبياء إبراهيم الخليل، حين اتهمه بالشك في قدرة الله تعالى على إحياء الموتى "وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا واعلم أن الله عزيز حكيم"
 
كما نقل عنه أنه قال بربوبية الشمس والقمر "فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ"
 

الجواب:

 

والجواب: أن إبراهيم عليه السلام -حسب القرآن- هو المثال الأعلى للمؤمنين، فقد اصطفاه الله "إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ" وأمر جل وعز بالتزام دينه "قُلْ صَدَقَ اللَّهُ ۗ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ" فدينه أحسن الأديان، وهو خليل الله "وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا" كما أمر القرآن بالتأسي به "قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ والَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وممَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وبَدَا بَيْنَنَا وبَيْنَكُمُ العداوة والبغضاء أبدًا حتى تؤمنوا بالله وحده" ففي هذه الآيات وغيرها من بيان فضل إبراهيم الخليل ما يقطع قول كل خطيب.
 

الانتقال إلى منزلة أعلى من اليقين

 

وأما الشك في الإيمان فهو منفي عن إبراهيم الخليل، عليه السلام، بدليل قوله تعالى "قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي" فقد آمن عليه الصلاة والسلام بقدرة الله على الإحياء، وانعقد قلبه على ذلك، وسؤاله لرؤية عملية الخلق فعل حسن أراد أن يترقى به في معارج الإيمان؛ بالانتقال من حال علم اليقين، وهي حالة ذهنية متيقنة إلى حال عين اليقين، أي مشاهدته، فسؤاله طلب ليقين بعد يقين.
 
وقد نفى، صلى الله عليه وسلم، الشك عن إبراهيم بقوله "نحن أحق بالشك من إبراهيم" (1)، أي أنه منزه عنه كتنزيه النبي، صلى الله عليه وسلم، عنه.

 

مسألة ربوبية الشمس والقمر

 

وأما قول الخليل عن الشمس والقمر أنها ربه؛ فكان من باب تبكيت الخصم وإقامة الحجة عليهم، فقد يقول المجادل ما لا يعتقده في إقامة الحجة والبرهان على مجادله ومناظره، قال الرازي "هذه المباحثة إنما جرت مع قومه لأجل أن يرشدهم إلى الإيمان والتوحيد، لا ﻷجل أن إبراهيم كان يطلب الدين والمعرفة لنفسه"
 
وقوله عليه السلام عن الشمس والكوكب "هذا ربي" إنما هو نوع من التدرج في إبطال ربوبيتها بدليل قوله تعالى في السياق "وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ"
 
وقد ذكر الرازي وجوهًا في توجيه قول إبراهيم عليه السلام منها:

 

"أنه، صلى الله عليه وسلم، أراد أن يبطل قولهم بربوبية الكواكب، إلا أنه عليه السلام كان قد عرف من تقليدهم لأسلافهم وبُعد طباعهم عن قبول الدلائل؛ أنه لو صرح بالدعوة إلى الله تعالى لم يقبلوه ولم يلتفتوا إليه، فمال إلى طريق به يستدرجهم إلى استماع الحجة، وذلك بأن ذكر كلاما يوهم كونه مساعدا لهم على مذهبهم بربوبية الكواب، مع أن قلبه، صلوات الله عليه، كان مطمئنًا بالإيمان، ومقصوده من ذلك أن يتمكن من ذكر الدليل على إبطاله وإفساده وأن يقبلوا قوله، وتمام التقرير أنه لم يجد إلى الدعوة طريقًا سوى هذا الطريق، وكان عليه السلام مأمورًا بالدعوة إلى الله كان بمنزلة المكره على كلمة الكفر" (2)

 

وقال ابن تيمية "قاله على سبيل التقرير، لتقريع قومه أو على سبيل الاستدلال والترقي" (3) وقال ابن القيم "قيل: إنها على وجه إقامة الحجة على قومه، فتصور بصورة الموافق ليكون أدعى إلى القبول، ثم توسل بصورة الموافقة إلى إعلامهم بأنه لا يجوز أن يكون المعبود ناقصًا آفلا" (4)
 
فكل أحد يعلم أن الشمس ستغيب آخر النهار وكذلك الكوكب، وقوله "فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ" ليس لطروء علم جديد على إبراهيم، بل لتبكيت المشركين عبدة الشمس والكواكب بعد إظهار الموافقة على سبيل الجدل والتنزل مع المخالف.
 
والعودة الفاحصة للآيات تكشف لكل حصيف ما تتضمنه الآيات من تعظيم إبراهيم لله عز وجل دون سواه "فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا ۚ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ"

 


 

الإشارات المرجعية:

  1. أخرجه البخاري ح(3272)، ومسلم ح(151)
  2. التفسير الكبير، الرازي (40/13)
  3. دقائق التفسير، ابن تيمية (112/2)
  4. مدارج السالكين، ابن القيم (61/3)

 

المصدر:

  1. د. منقذ محمود السقار، تنزيه القرآن الكريم عن دعاوى المبطلين، ص145
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.
اقرأ أيضا
شبهات حول الإجماع | مرابط
أباطيل وشبهات تعزيز اليقين مقالات

شبهات حول الإجماع


وصل الحال عند بعض من ينكر حجية الإجماع إلى تجويز إطباق جميع الأمة على مدى أربعة عشر قرنا على الخطأ وهذا الموقف يخالف ما أخبر الله به أن هذه الأمة خير الأمم وأنها أمة وسط لتكون شاهدة على الناس لعدالتها وصدقها فكيف يجوز مع ذلك أن تتصرم قرونها وهي متفقة على الباطل غير عارفة بالحق ولا قائمة به

بقلم: أحمد يوسف السيد
3174
مختصر قصة الأندلس الجزء الثاني | مرابط
تاريخ أبحاث

مختصر قصة الأندلس الجزء الثاني


سلسلة مقالات مختصرة تطوف بنا حول الأندلس لنعرف قصتها من البداية حتى النهاية من الفتح إلى السقوط سنعرف كل ما دار من أحداث بين لحظة الفتح والصعود ولحظة الانهيار والأفول والهدف من ذلك أن ندرك ونعي تاريخنا بشكل جيد وأن نتعلم منه حتى نبني للمستقبل

بقلم: موقع قصة الإسلام
1617
ما هو البديل ج2 | مرابط
أباطيل وشبهات فكر مقالات

ما هو البديل ج2


سؤال ما هو البديل هو أحد أشهر الأسئلة التي ترد عند الاحتساب على منكر معين فيأتي حينها المطالبة بإيجاد بديل مناسب يحل محل المنكر الذي ينهى عنه وهو سؤال مشروع وإيجابي في الجملة ولكن في أغلب الأحيان ينطوي على إشكاليات كثيرة وأباطيل لا بد من الوقوف عليها وهذا ما يقدمه المقال الذي بين يديكم

بقلم: فهد بن صالح العجلان وعبد الله بن صالح العجيري
1074
العمارة في الحضارة الإسلامية ج3 | مرابط
تاريخ

العمارة في الحضارة الإسلامية ج3


أمر الإسلام بتعمير الأرض بالبناء عليها وحث عليه لحماية الإنسان من حر الشمس وبرد الشتاء وأمطاره وجعل اتخاذ المساكن نعمة من الله لمخلوقاته ولذلك وضع الإسلام لبناء المساكن والمدن والقرى الكثير من الآداب وشهدت بلادنا الإسلامية ازدهار العمران والبناء الذي تميز بطابع إسلامي خالص وفي هذه المقالات سيقف بنا الكاتب على ملامح العمران في كل العصور الإسلامية

بقلم: موقع قصة الإسلام
1274
ليلة في بيت النبي الجزء الأول | مرابط
تفريغات

ليلة في بيت النبي الجزء الأول


نتعلم في هذه المحاضرة معنى الدفء الذي تعاني كثير من بيوت المسلمين فقده سببه أنهم لا يترسمون خطا النبي صلى الله عليه وسلم في معاملة النساء وكذلك النساء لا يترسمن خطا أزواج النبي عليه الصلاة والسلام في ضرب المثل في الوفاء وفي معرفة لماذا خلقت هذه المرأة ومعرفة حدود طاعة الرجل إن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب لنا أكثر من موقف بل حياته الكريمة كلها مليئة بهذا النموذج العطوف فقد كان يعامل النساء معاملة في غاية الرفق وفي غاية الرفعة وقد أوصانا عليه الصلاة والسلام بالنساء فقال: رفقا بالقوارير وحديث...

بقلم: أبو إسحق الحويني
760
الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ج2 | مرابط
تفريغات

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ج2


لو قال قائل: إن زفر وابن القاسم والمزني والأثرم كانوا فقهاء وكل واحد منهم ينتمي إلى مذهب من المذاهب الأربعة وإن أبا حنيفة ومالكا والشافعي وأحمد لم يكونوا فقهاء أو قال: إن الأخفش وابن الأنباري والمبرد كانوا نحاة والخليل وسيبويه والفراء لم يكونوا نحاة فهذا مستحيل ولا يوافقه أحد من أهل هذا الفن وأيضا لو قال أحد: إن صاحب الملكي والمسيحي ونحوهما من كتب الطب كانوا أطباء ولكن بقراط وجالينوس ونحوهما لم يكونوا أطباء فقوله مردود عند الأطباء وأصحاب كل فن يعرفون المتقدم في هذا الفن ولا يمكن أن يقروا بص...

بقلم: سفر الحوالي
813