شبهات حول الإجماع

شبهات حول الإجماع | مرابط

الكاتب: أحمد يوسف السيد

3175 مشاهدة

تم النشر منذ 3 سنوات

وصل الحال عند بعض من يُنكر حجية الإجماع إلى تجويز إطباق جميع الأمة على مدى أربعة عشر قرنًا على الخطأ، وهذا الموقف يخالف ما أخبر الله به أن هذه الأمة خير الأمم، وأنها أمة وسط لتكون شاهدة على الناس لعدالتها وصدقها، فكيف يجوز مع ذلك أن تتصرّم قرونها وهي متفقة على الباطل غير عارفة بالحق ولا قائمة به؟
 

هل يعقل أن تتفق الأمة كلها على الخطأ؟


وحتى في ميزان التقدير العقلي يبعد ذلك جدًا، فإن مصدر الأحكام الشرعية الكتاب والسنة، والإجماعات المنقولة عن أهل العلم إنما ترجع إلى أصل في الوحيين صريح أو غير صريح، ويشترك جميع المجتهدين في أصل أدوات الاستنباط من الكتاب والسنة، على تفاوت شخصي في تحقيق الكمال من هذه الأدوات، غير أن مجموع المجتهدين يضم كل هذه المستويات؛ ومن ثم لا بد أن يخرج بنتيجة صحيحة في الاستنباط إذا اتفقوا عليه، فهل يُعقل أن يقع كل المجتهدين في خطأ فهم النص؟
 
وأن الصواب لم يُعرف إلا بعد أربعة عشر قرنًا من الهجرة؟ خصوصًا وأن مستوى تحقيق المجتهدين الأوائل للكمال في أدوات الاستنباط كان أعلى من مستوى المتأخرين، وذلك لصفاء اللسان العربي من الشوائب التي لحقته بعد ذلك، ولوجود عامل مهم في الصف الأول من المجتهدين خاصة: أعني صف الصحابة، وهو عامل معاصرة نزول الوحي ومصاحبة من يتنزل عليه القرآن، وبالتالي فهم أقدر من غيرهم على فهم النص -مع عدم إغلاق باب الاجتهاد لغيرهم، ولكن دون تخطئة مجموعهم

فكيف يتفقون كلهم على الخطأ في الفهم، خاصة وأنه لم تستجد عوامل خارجية مؤثرة على فهم النص في كثير من المسائل التي خولف فيها الإجماع قبل بعض الباحثين المعاصرين، وإنما هي مسائل شرعية سمعية بحتة؛ كحد الرجم، وعقوبة المرتد، ونحو ذلك؛ فما الأمر الذي تخلّف عند المجتهدين الأوائل وتوافر في بعض الباحثين المعاصرين حتى يُخَطَّؤوا جميعا في فهم آيات القرآن وإثبات أحاديث الرسول، ويُصَوَّب الباحثون المعاصرون؟
 
أزعم أن هذا السؤال يستدعي التأمل والتفكير بعيدًا عن تأثير عبارة "نحن رجال وهم رجال" وعبارة "كم ترك الأول للآخر" فإني لا أتحدث هنا عن استنباطات جديدة، ولا عن مزيد من الغوص في معاني الآيات، وإنما أتحدث عن تخطئة كل الأولين لا الزيادة عليهم.
 
ومما يزيد الكلام إثباتا، أن عددًا من المسائل التي أنكرت، وضُرب بالإجماع الثابت فيها عرض الحائط، إنما ادعى المنكرون في إنكارهم لها أنها مسائل تخالف نصًّا صريحًا من القرآن؛ كقولهم: إن عقوبة الردة تصادم بشكل ظاهر قول الله تعالى "لا إكراه في الدين" فهل تعتقد أن القضية بهذه السطحية؟
 
وهنا مقام آخر، ألا وهو أن البعض يتجاوز التقرير السابق، ويوافق على أن الأمة لا تجتمع على خطأ، ولكنه ينازع في ثبوت الإجماع، وهذا مبحث أصولي فيه تفصيلات متعددة وأقوال مختلفة في تحديد الإجماع الذي يمكن ضبطه، ولكنه لا يعود على أصل الإجماع بالإبطال، فالإجماعات المنقولة على درجات من جهة ثبوتها ومن جهة قطعيتها.
 
ويستدل بعضهم على عدم إمكانية تحقق الإجماع بعبارة الإمام أحمد رحمه الله "من ادعى الإجماع فهو كاذب"(1)

 

وسأنقل باختصار وتصرف ما كتبته في كامل الصورة عن هذه العبارة:

 

"أخْذ عبارة الإمام أحمد هذه وترك عباراته الأخرى في نفس الموضوع انتقائية غير موضوعية، أو جهل مبني على قلة اطلاع، قال الإمام أبو داود في مسائله: سمعت أحمد قيل له: إن فلانا قال: قراءة فاتحة الكتاب -يعني: خلف الإمام- مخصوص من قوله "وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا" فقال: عمن يقول هذا؟ أجمع الناس أن هذه الآية في الصلاة" (2)
 
فهذا نص واضح ثابت عن الإمام أحمد يدّعي فيه الإجماع على أمر شرعي، فهل نطبّق عليه عبارته "من ادعى الإجماع فهو كاذب" أم نحاول فهمها على الوجه الذي يستقيم معه تطبيقاته هو؟ ولماذا يتم الاعتماد على عبارة واحدة دون العبارات الأخرى؟ إذا كانت القضية انتقائية؛ فقد يقول قائل: إنه يريد أن ينتقي العبارة التي فيها إثبات الإجماع ويلغي العبارة التي فيها أن دعوى الإجماع كذب.
 
ولا شك أن المنهج المرضي عند أهل العلم والذي سلكوه في التعامل مع عبارة أحمد هو توجيهها وفهمها في ضوء تطبيقاته وأقواله الأخرى، لا الاتكاء عليها لإبطال الإجماع!

 

فمن التوجيهات التي ذكرها أهل العلم لعبارته:

 

أن الإمام أحمد قال ذلك إنكارا على فقهاء المعتزلة. قال المرداوي في التحبير: وقال ابن رجب في آخر شرح الترمذي: وأما ما روي من قول الإمام أحمد: من ادعى الإجماع فقد كذب فهو إنما قاله إنكارا على فقهاء المعتزلة، والذين يدعون إجماع الناس على ما يقولونه، وكانوا من أقل الناس معرفة بأقوال الصحابة والتابعين.(3)
 
ومما يؤيد هذا الفهم: تمام عبارة أحمد نفسه، فإنه قال في رواية ابنه عبد الله: من ادعى الإجماع فهو كاذب، لعل الناس قد اختلفوا، هذه دعوى بشر المريسي والأصم.(4) وبشر المريسي والأصم من رؤوس المبتدعة في وقت أحمد، ويزي الأمر وضوحًا قول ابن تيمية رحمه الله "إنما فقهاء المتكلمين كالمريسي والأصم يدّعون الإجماع ولا يعرفون إلا قول أبي حنيفة ومالك ونحوهما، ولا يعلمون أقوال الصحابة والتابعين"(5)
 
وقريب من ذلك قول ابن القيم، رحمه الله: وليس مراده -أي الإمام أحمد- بهذا استبعاد وجود الإجماع، ولكن أحمد وأئمة الحديث بُلُوا بمن كان يرد عليهم السنة الصحيحة بإجماع الناس على خلافها، فبيّن الشافعي وأحمد أن هذه الدعوى كذب، وأنه لا يجوز رد السنن بمثلها (6).. هذا التوجيه الأول لكلام الإمام أحمد

 

التوجيه الثاني:

 

أنه محمول على جهة الورع في الدعوى، بمعنى أن دعوى الإجماع أمر صعب، فلعل هناك خلافا لم يبلغ مدّعي الإجماع؛ فلذلك أرشد الإمام أحمد إلى استعمال عبارة "لا أعلم فيه اختلافا" ونحوها، ﻷنها أقرب إلى الواقع. وهذا ينفي أن يدّعي العالم المطلع على أقاويل الناس الإجماع إن تيقن وقوعه، كما فعل أحمد نفسه ذلك، قال القاضي أبو يعلى رحمه الله في العدة "وظاهر هذا الكلام أن أحمد قد منع صحة الإجماع، وليس ذلك على ظاهره، وإنما قال هذا على طريق الورع، لجواز أن يكون هناك خلاف لم يبلغه، أو قال هذا في حق من ليس له معرفة بخلاف السلف" وهذا التوجيه الثاني وجيه؛ فإن العالم يد يخفى عليه الخلاف ولكن هذا الاحتمال يضعف جدا إذا توارد العلماء على نقل الإجماع من مختلف المذاهب والبلدان والعصور.

 


 

الإشارات المرجعية:

  1. العدة في أصول الفقه (4/1059)
  2. مسائل الإمام أحمد رواية أبي داود السجستاني، مكتبة ابن تيمية (ص48)
  3. التحبير شرح التحرير في أصول الفقه، للمرداوي، مكتبة الرشد (4/1528)
  4. العدة في أصول الفقه (4/1059)
  5. المسودة في أصول الفقه (ص316)
  6. يُنظر: مختصر الصواعق المرسلة (ص583)

 

المصدر:

  1. أحمد يوسف السيد، سابغات، ص 195
 
 

 

 

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#شبهات #أباطيل #سابغات #الإجماع
اقرأ أيضا
أطفال المؤمنين | مرابط
اقتباسات وقطوف

أطفال المؤمنين


مقتطف جميل من الرسالة التبوكية لابن قيم الجوزية يتحدث فيه عن أطفال المؤمنين وهم أتباع المؤمنين من ذريتهم الذين لم يثبت لهم حكم التكليف في دار الدنيا وإنما هم مع آبائهم تبع لهم وقال الله تعالى فيهم: والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء

بقلم: ابن القيم
769
الحلال والحرام في الرسم | مرابط
مقالات

الحلال والحرام في الرسم


مقال موجز فيه تفصيل وتوضيح للحلال والحرام فيما يخص الرسم والنحت وما يندرج تحت ذلك مثل التصاوير والدمى وغير ذلك.. فقد كثر اللغط في هذا الموضوع ولم يعد الناس يتحرون فيه ما يحل وما يحرم وبين يديكم هذا التفصيل للشيخ قاسم اكحيلات

بقلم: قاسم اكحيلات
414
الانتصار للحق أم للنفس؟ | مرابط
مقالات

الانتصار للحق أم للنفس؟


وهاهنا أمر خفي ينبغي التفطن له وهو أن كثيرا من أئمة الدين قد يقول قولا مرجوحا ويكون مجتهدا فيه مأجورا على اجتهاده فيه موضوعا عنه خطؤه فيه ولا يكون المنتصر لمقالته تلك بمنزلته في هذه الدرجة لأنه قد لا ينتصر لهذا القول إلا لكون متبوعه قد قاله بحيث أنه لو قاله غيره من أئمة الدين لما قبله ولا انتصر له ولا والى من وافقه ولا عادى من خالفه وهو مع هذا يظن أنه إنما انتصر للحق بمنزلة متبوعه وليس كذلك

بقلم: عبد الله القرني
492
هل كان أبو هريرة يدلس | مرابط
أباطيل وشبهات

هل كان أبو هريرة يدلس


تعرض الصحابي الجليل أبو هريرة رضي الله عنه لكثير من الطعن وافترى عليه المشككون والجاهلون ووجهوا سهام النقد إليه ولم يكن ذلك لشيء إلا لأنه من أكثر الصحابة رواية للحديث فقد عرف هذا الصحابي بكثرة مروياته ومن هنا أصبح هدفا لكثير من المستشرقين والعلمانيين ومنكري السنة وبين يدينا شبهة ينقلها أحد الرافضة ويقول فيها أن أبا هريرة كان يدلس والمقال فيه رد ومناقشة لهذه الشبهة ولما استدل به هذا المشكك

بقلم: أبو عمر الباحث
1750
لا تستعجل النتائج | مرابط
اقتباسات وقطوف

لا تستعجل النتائج


إن القرآن يوجه القلوب والعقول ألا تستعجل النتائج فهي لا بد آتية حسب السنة الماضية التي لا تتبدل وأعمار الأفراد ليست هي المقياس والجولة العارضة ليست هي الجولة الأخيرة قد ينتصر الباطل فترة من الوقت ويزدهر ويتمكن ويعلو في الأرض ولكن هذا ليس نهاية القول ولا نهاية المطاف إنه جزء من سنة الله المتشعبة الجوانب

بقلم: محمد قطب
825
أثر الإيمان في بناء الأمم ج3 | مرابط
تفريغات

أثر الإيمان في بناء الأمم ج3


محاضرة هامة عن عن أثر الإيمان في بناء الأمم والأفراد -والكلام القادم- سيكون عن أسباب انهيار الأمم ولماذا تنهار أمم وشعوب ولماذا تبقى غيرها فالأمر يحتاج إلى وقت طويل ولكن خطورة الأمر وأهميته هي التي تجعلنا نتحدث عنه بما يفتح الله تبارك وتعالى به علينا

بقلم: د سفر الحوالي
587