شبهات حول الإجماع

شبهات حول الإجماع | مرابط

الكاتب: أحمد يوسف السيد

3008 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

وصل الحال عند بعض من يُنكر حجية الإجماع إلى تجويز إطباق جميع الأمة على مدى أربعة عشر قرنًا على الخطأ، وهذا الموقف يخالف ما أخبر الله به أن هذه الأمة خير الأمم، وأنها أمة وسط لتكون شاهدة على الناس لعدالتها وصدقها، فكيف يجوز مع ذلك أن تتصرّم قرونها وهي متفقة على الباطل غير عارفة بالحق ولا قائمة به؟
 

هل يعقل أن تتفق الأمة كلها على الخطأ؟


وحتى في ميزان التقدير العقلي يبعد ذلك جدًا، فإن مصدر الأحكام الشرعية الكتاب والسنة، والإجماعات المنقولة عن أهل العلم إنما ترجع إلى أصل في الوحيين صريح أو غير صريح، ويشترك جميع المجتهدين في أصل أدوات الاستنباط من الكتاب والسنة، على تفاوت شخصي في تحقيق الكمال من هذه الأدوات، غير أن مجموع المجتهدين يضم كل هذه المستويات؛ ومن ثم لا بد أن يخرج بنتيجة صحيحة في الاستنباط إذا اتفقوا عليه، فهل يُعقل أن يقع كل المجتهدين في خطأ فهم النص؟
 
وأن الصواب لم يُعرف إلا بعد أربعة عشر قرنًا من الهجرة؟ خصوصًا وأن مستوى تحقيق المجتهدين الأوائل للكمال في أدوات الاستنباط كان أعلى من مستوى المتأخرين، وذلك لصفاء اللسان العربي من الشوائب التي لحقته بعد ذلك، ولوجود عامل مهم في الصف الأول من المجتهدين خاصة: أعني صف الصحابة، وهو عامل معاصرة نزول الوحي ومصاحبة من يتنزل عليه القرآن، وبالتالي فهم أقدر من غيرهم على فهم النص -مع عدم إغلاق باب الاجتهاد لغيرهم، ولكن دون تخطئة مجموعهم

فكيف يتفقون كلهم على الخطأ في الفهم، خاصة وأنه لم تستجد عوامل خارجية مؤثرة على فهم النص في كثير من المسائل التي خولف فيها الإجماع قبل بعض الباحثين المعاصرين، وإنما هي مسائل شرعية سمعية بحتة؛ كحد الرجم، وعقوبة المرتد، ونحو ذلك؛ فما الأمر الذي تخلّف عند المجتهدين الأوائل وتوافر في بعض الباحثين المعاصرين حتى يُخَطَّؤوا جميعا في فهم آيات القرآن وإثبات أحاديث الرسول، ويُصَوَّب الباحثون المعاصرون؟
 
أزعم أن هذا السؤال يستدعي التأمل والتفكير بعيدًا عن تأثير عبارة "نحن رجال وهم رجال" وعبارة "كم ترك الأول للآخر" فإني لا أتحدث هنا عن استنباطات جديدة، ولا عن مزيد من الغوص في معاني الآيات، وإنما أتحدث عن تخطئة كل الأولين لا الزيادة عليهم.
 
ومما يزيد الكلام إثباتا، أن عددًا من المسائل التي أنكرت، وضُرب بالإجماع الثابت فيها عرض الحائط، إنما ادعى المنكرون في إنكارهم لها أنها مسائل تخالف نصًّا صريحًا من القرآن؛ كقولهم: إن عقوبة الردة تصادم بشكل ظاهر قول الله تعالى "لا إكراه في الدين" فهل تعتقد أن القضية بهذه السطحية؟
 
وهنا مقام آخر، ألا وهو أن البعض يتجاوز التقرير السابق، ويوافق على أن الأمة لا تجتمع على خطأ، ولكنه ينازع في ثبوت الإجماع، وهذا مبحث أصولي فيه تفصيلات متعددة وأقوال مختلفة في تحديد الإجماع الذي يمكن ضبطه، ولكنه لا يعود على أصل الإجماع بالإبطال، فالإجماعات المنقولة على درجات من جهة ثبوتها ومن جهة قطعيتها.
 
ويستدل بعضهم على عدم إمكانية تحقق الإجماع بعبارة الإمام أحمد رحمه الله "من ادعى الإجماع فهو كاذب"(1)

 

وسأنقل باختصار وتصرف ما كتبته في كامل الصورة عن هذه العبارة:

 

"أخْذ عبارة الإمام أحمد هذه وترك عباراته الأخرى في نفس الموضوع انتقائية غير موضوعية، أو جهل مبني على قلة اطلاع، قال الإمام أبو داود في مسائله: سمعت أحمد قيل له: إن فلانا قال: قراءة فاتحة الكتاب -يعني: خلف الإمام- مخصوص من قوله "وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا" فقال: عمن يقول هذا؟ أجمع الناس أن هذه الآية في الصلاة" (2)
 
فهذا نص واضح ثابت عن الإمام أحمد يدّعي فيه الإجماع على أمر شرعي، فهل نطبّق عليه عبارته "من ادعى الإجماع فهو كاذب" أم نحاول فهمها على الوجه الذي يستقيم معه تطبيقاته هو؟ ولماذا يتم الاعتماد على عبارة واحدة دون العبارات الأخرى؟ إذا كانت القضية انتقائية؛ فقد يقول قائل: إنه يريد أن ينتقي العبارة التي فيها إثبات الإجماع ويلغي العبارة التي فيها أن دعوى الإجماع كذب.
 
ولا شك أن المنهج المرضي عند أهل العلم والذي سلكوه في التعامل مع عبارة أحمد هو توجيهها وفهمها في ضوء تطبيقاته وأقواله الأخرى، لا الاتكاء عليها لإبطال الإجماع!

 

فمن التوجيهات التي ذكرها أهل العلم لعبارته:

 

أن الإمام أحمد قال ذلك إنكارا على فقهاء المعتزلة. قال المرداوي في التحبير: وقال ابن رجب في آخر شرح الترمذي: وأما ما روي من قول الإمام أحمد: من ادعى الإجماع فقد كذب فهو إنما قاله إنكارا على فقهاء المعتزلة، والذين يدعون إجماع الناس على ما يقولونه، وكانوا من أقل الناس معرفة بأقوال الصحابة والتابعين.(3)
 
ومما يؤيد هذا الفهم: تمام عبارة أحمد نفسه، فإنه قال في رواية ابنه عبد الله: من ادعى الإجماع فهو كاذب، لعل الناس قد اختلفوا، هذه دعوى بشر المريسي والأصم.(4) وبشر المريسي والأصم من رؤوس المبتدعة في وقت أحمد، ويزي الأمر وضوحًا قول ابن تيمية رحمه الله "إنما فقهاء المتكلمين كالمريسي والأصم يدّعون الإجماع ولا يعرفون إلا قول أبي حنيفة ومالك ونحوهما، ولا يعلمون أقوال الصحابة والتابعين"(5)
 
وقريب من ذلك قول ابن القيم، رحمه الله: وليس مراده -أي الإمام أحمد- بهذا استبعاد وجود الإجماع، ولكن أحمد وأئمة الحديث بُلُوا بمن كان يرد عليهم السنة الصحيحة بإجماع الناس على خلافها، فبيّن الشافعي وأحمد أن هذه الدعوى كذب، وأنه لا يجوز رد السنن بمثلها (6).. هذا التوجيه الأول لكلام الإمام أحمد

 

التوجيه الثاني:

 

أنه محمول على جهة الورع في الدعوى، بمعنى أن دعوى الإجماع أمر صعب، فلعل هناك خلافا لم يبلغ مدّعي الإجماع؛ فلذلك أرشد الإمام أحمد إلى استعمال عبارة "لا أعلم فيه اختلافا" ونحوها، ﻷنها أقرب إلى الواقع. وهذا ينفي أن يدّعي العالم المطلع على أقاويل الناس الإجماع إن تيقن وقوعه، كما فعل أحمد نفسه ذلك، قال القاضي أبو يعلى رحمه الله في العدة "وظاهر هذا الكلام أن أحمد قد منع صحة الإجماع، وليس ذلك على ظاهره، وإنما قال هذا على طريق الورع، لجواز أن يكون هناك خلاف لم يبلغه، أو قال هذا في حق من ليس له معرفة بخلاف السلف" وهذا التوجيه الثاني وجيه؛ فإن العالم يد يخفى عليه الخلاف ولكن هذا الاحتمال يضعف جدا إذا توارد العلماء على نقل الإجماع من مختلف المذاهب والبلدان والعصور.

 


 

الإشارات المرجعية:

  1. العدة في أصول الفقه (4/1059)
  2. مسائل الإمام أحمد رواية أبي داود السجستاني، مكتبة ابن تيمية (ص48)
  3. التحبير شرح التحرير في أصول الفقه، للمرداوي، مكتبة الرشد (4/1528)
  4. العدة في أصول الفقه (4/1059)
  5. المسودة في أصول الفقه (ص316)
  6. يُنظر: مختصر الصواعق المرسلة (ص583)

 

المصدر:

  1. أحمد يوسف السيد، سابغات، ص 195
 
 

 

 

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#شبهات #أباطيل #سابغات #الإجماع
اقرأ أيضا
أصول الانحراف الدرس الأول ج1 | مرابط
تفريغات

أصول الانحراف الدرس الأول ج1


سلسلة ماتعة للدكتور أحمد عبد المنعم تدور حول أصول الضلال أو أصول الانحراف من خلال أصول الوحي نريد أن نتكلم عن الضلال الذي وقع فيه كثير من الناس فالضلال وقع فيه كثير من الناس لماذا ما هي الأصول التي حذر منها القرآن والتي لو وقع فيها الإنسان -في هذه الأصول- ينحرف والعياذ بالله

بقلم: أحمد عبد المنعم
367
كيف تتعامل مع الفتور في رمضان؟ | مرابط
مقالات

كيف تتعامل مع الفتور في رمضان؟


لا تسمح للشيطان أن يحايلك أو لنفسك أن تحايلك وتتحاور معك في ترتيب المعصية.. لا تسمح لهما بذلك أبدا. وطريقك لذلك: بأن تضع قاعدة سلوكية يقينية فتعاهد عليها نفسك وتقول: هذا مبدئي وخلقي. والقاعدة هي: لن أعصي الله أبدا حدث نفسك بهذا. وأما الحوار والمحايلة فهو أن يكون في قلبك وخاطرك أخذ ورد تمهيدا وترتيبا للعصيان.

بقلم: خالد بهاء الدين
890
انهيار الشباب وظهور الخلل والاضطراب في أوساطهم | مرابط
فكر تفريغات

انهيار الشباب وظهور الخلل والاضطراب في أوساطهم


نقف وقفة ونسأل: لماذا هذا التباين الرهيب بين ما عليه شباب أمة الإسلام الآن وبين ما ينبغي أن يكون عليه من المؤكد أن الخطأ لم ينبع من الشباب وحدهم لكن الخطأ خطأ مركب فهذه منظومة كاملة حدث فيها نوع كبير من الاضطراب والخلل في هذه المحاضرة أحصي لكم أربعة أسباب لانهيار مستوى الشباب

بقلم: راغب السرجاني
783
لماذا تسقط الحضانة عن الأم إذا تزوجت؟ | مرابط
أباطيل وشبهات

لماذا تسقط الحضانة عن الأم إذا تزوجت؟


الحضانة مثلها مثل أي حكم شرعي في نظام الشريعة لها فلسفة اجتماعية مهمة مرتبطة بزيادة التماسك الاجتماعي في الأمة.. بل في أمور الزواج والطلاق والنفقة والحضانة هذه العلة أوفر وتأكيد التماسك أظهر.. الحضانة مبنية على الشفقة والصبر على تربية الصغير ولذلك يقدم في الحضانة الأقرب فالأقرب لوفور شفقته كلما قرب من الطفل فمن تدلي من النساء للطفل عن طريق الأبوين تقدم على من تدلي عن طريق أحدهما ومن تدلي له عن طريق الأم تقدم على من تدلي عن طريق الأب..

بقلم: محمد وفيق زين العابدين
423
قصة العلمانية المؤسلمة | مرابط
مقالات العالمانية

قصة العلمانية المؤسلمة


يستعرض المقال عددا من الرؤى التجديدية في الفكر السياسي كما يعرضها بعض المعاصرين ويفحصها جميعا من خلال مقارنتها ب المضمون العلماني ليكشف عن وجه الاختلاف الذي تفترق فيه هذه الرؤى عن المضمون العلماني حين نفحص هذا الوعاء نجد أن المبادئ العامة أمور كلية فطرية متفق عليها بين جميع الناس فلا وجود لمنظومة فكرية ذات بال تقول إنها ترفض الحرية أو العدالة أو المساواة وإنما الخصومة والنزاع دائما في التفصيلات والتشريعات الجزئية

بقلم: د فهد بن صالح العجلان
2254
مراجعة العلماء | مرابط
اقتباسات وقطوف

مراجعة العلماء


مقتطف هام للعلامة عبد الرحمن المعلمي اليماني يشير فيه إلى ضرورة مراجعة العلماء لبعضهم خصوصا لو وقع أحدهم في خطأ ما بدلا من التشنيع عليه مباشرة دون مذاكرته أو مراجعته أو تنبيهه لما بدر منه من خطأ وهذا يحدث كثيرا في عصرنا فقد نأى كل عالم بنفسه وانقطعت حبال التواصل

بقلم: عبد الرحمن المعلمي اليماني
2162