وصل الحال عند بعض من يُنكر حجية الإجماع إلى تجويز إطباق جميع الأمة على مدى أربعة عشر قرنًا على الخطأ، وهذا الموقف يخالف ما أخبر الله به أن هذه الأمة خير الأمم، وأنها أمة وسط لتكون شاهدة على الناس لعدالتها وصدقها، فكيف يجوز مع ذلك أن تتصرّم قرونها وهي متفقة على الباطل غير عارفة بالحق ولا قائمة به؟
هل يعقل أن تتفق الأمة كلها على الخطأ؟
وحتى في ميزان التقدير العقلي يبعد ذلك جدًا، فإن مصدر الأحكام الشرعية الكتاب والسنة، والإجماعات المنقولة عن أهل العلم إنما ترجع إلى أصل في الوحيين صريح أو غير صريح، ويشترك جميع المجتهدين في أصل أدوات الاستنباط من الكتاب والسنة، على تفاوت شخصي في تحقيق الكمال من هذه الأدوات، غير أن مجموع المجتهدين يضم كل هذه المستويات؛ ومن ثم لا بد أن يخرج بنتيجة صحيحة في الاستنباط إذا اتفقوا عليه، فهل يُعقل أن يقع كل المجتهدين في خطأ فهم النص؟
وأن الصواب لم يُعرف إلا بعد أربعة عشر قرنًا من الهجرة؟ خصوصًا وأن مستوى تحقيق المجتهدين الأوائل للكمال في أدوات الاستنباط كان أعلى من مستوى المتأخرين، وذلك لصفاء اللسان العربي من الشوائب التي لحقته بعد ذلك، ولوجود عامل مهم في الصف الأول من المجتهدين خاصة: أعني صف الصحابة، وهو عامل معاصرة نزول الوحي ومصاحبة من يتنزل عليه القرآن، وبالتالي فهم أقدر من غيرهم على فهم النص -مع عدم إغلاق باب الاجتهاد لغيرهم، ولكن دون تخطئة مجموعهم
فكيف يتفقون كلهم على الخطأ في الفهم، خاصة وأنه لم تستجد عوامل خارجية مؤثرة على فهم النص في كثير من المسائل التي خولف فيها الإجماع قبل بعض الباحثين المعاصرين، وإنما هي مسائل شرعية سمعية بحتة؛ كحد الرجم، وعقوبة المرتد، ونحو ذلك؛ فما الأمر الذي تخلّف عند المجتهدين الأوائل وتوافر في بعض الباحثين المعاصرين حتى يُخَطَّؤوا جميعا في فهم آيات القرآن وإثبات أحاديث الرسول، ويُصَوَّب الباحثون المعاصرون؟
أزعم أن هذا السؤال يستدعي التأمل والتفكير بعيدًا عن تأثير عبارة "نحن رجال وهم رجال" وعبارة "كم ترك الأول للآخر" فإني لا أتحدث هنا عن استنباطات جديدة، ولا عن مزيد من الغوص في معاني الآيات، وإنما أتحدث عن تخطئة كل الأولين لا الزيادة عليهم.
ومما يزيد الكلام إثباتا، أن عددًا من المسائل التي أنكرت، وضُرب بالإجماع الثابت فيها عرض الحائط، إنما ادعى المنكرون في إنكارهم لها أنها مسائل تخالف نصًّا صريحًا من القرآن؛ كقولهم: إن عقوبة الردة تصادم بشكل ظاهر قول الله تعالى "لا إكراه في الدين" فهل تعتقد أن القضية بهذه السطحية؟
وهنا مقام آخر، ألا وهو أن البعض يتجاوز التقرير السابق، ويوافق على أن الأمة لا تجتمع على خطأ، ولكنه ينازع في ثبوت الإجماع، وهذا مبحث أصولي فيه تفصيلات متعددة وأقوال مختلفة في تحديد الإجماع الذي يمكن ضبطه، ولكنه لا يعود على أصل الإجماع بالإبطال، فالإجماعات المنقولة على درجات من جهة ثبوتها ومن جهة قطعيتها.
ويستدل بعضهم على عدم إمكانية تحقق الإجماع بعبارة الإمام أحمد رحمه الله "من ادعى الإجماع فهو كاذب"(1)
وسأنقل باختصار وتصرف ما كتبته في كامل الصورة عن هذه العبارة:
"أخْذ عبارة الإمام أحمد هذه وترك عباراته الأخرى في نفس الموضوع انتقائية غير موضوعية، أو جهل مبني على قلة اطلاع، قال الإمام أبو داود في مسائله: سمعت أحمد قيل له: إن فلانا قال: قراءة فاتحة الكتاب -يعني: خلف الإمام- مخصوص من قوله "وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا" فقال: عمن يقول هذا؟ أجمع الناس أن هذه الآية في الصلاة" (2)
فهذا نص واضح ثابت عن الإمام أحمد يدّعي فيه الإجماع على أمر شرعي، فهل نطبّق عليه عبارته "من ادعى الإجماع فهو كاذب" أم نحاول فهمها على الوجه الذي يستقيم معه تطبيقاته هو؟ ولماذا يتم الاعتماد على عبارة واحدة دون العبارات الأخرى؟ إذا كانت القضية انتقائية؛ فقد يقول قائل: إنه يريد أن ينتقي العبارة التي فيها إثبات الإجماع ويلغي العبارة التي فيها أن دعوى الإجماع كذب.
ولا شك أن المنهج المرضي عند أهل العلم والذي سلكوه في التعامل مع عبارة أحمد هو توجيهها وفهمها في ضوء تطبيقاته وأقواله الأخرى، لا الاتكاء عليها لإبطال الإجماع!
فمن التوجيهات التي ذكرها أهل العلم لعبارته:
أن الإمام أحمد قال ذلك إنكارا على فقهاء المعتزلة. قال المرداوي في التحبير: وقال ابن رجب في آخر شرح الترمذي: وأما ما روي من قول الإمام أحمد: من ادعى الإجماع فقد كذب فهو إنما قاله إنكارا على فقهاء المعتزلة، والذين يدعون إجماع الناس على ما يقولونه، وكانوا من أقل الناس معرفة بأقوال الصحابة والتابعين.(3)
ومما يؤيد هذا الفهم: تمام عبارة أحمد نفسه، فإنه قال في رواية ابنه عبد الله: من ادعى الإجماع فهو كاذب، لعل الناس قد اختلفوا، هذه دعوى بشر المريسي والأصم.(4) وبشر المريسي والأصم من رؤوس المبتدعة في وقت أحمد، ويزي الأمر وضوحًا قول ابن تيمية رحمه الله "إنما فقهاء المتكلمين كالمريسي والأصم يدّعون الإجماع ولا يعرفون إلا قول أبي حنيفة ومالك ونحوهما، ولا يعلمون أقوال الصحابة والتابعين"(5)
وقريب من ذلك قول ابن القيم، رحمه الله: وليس مراده -أي الإمام أحمد- بهذا استبعاد وجود الإجماع، ولكن أحمد وأئمة الحديث بُلُوا بمن كان يرد عليهم السنة الصحيحة بإجماع الناس على خلافها، فبيّن الشافعي وأحمد أن هذه الدعوى كذب، وأنه لا يجوز رد السنن بمثلها (6).. هذا التوجيه الأول لكلام الإمام أحمد
التوجيه الثاني:
أنه محمول على جهة الورع في الدعوى، بمعنى أن دعوى الإجماع أمر صعب، فلعل هناك خلافا لم يبلغ مدّعي الإجماع؛ فلذلك أرشد الإمام أحمد إلى استعمال عبارة "لا أعلم فيه اختلافا" ونحوها، ﻷنها أقرب إلى الواقع. وهذا ينفي أن يدّعي العالم المطلع على أقاويل الناس الإجماع إن تيقن وقوعه، كما فعل أحمد نفسه ذلك، قال القاضي أبو يعلى رحمه الله في العدة "وظاهر هذا الكلام أن أحمد قد منع صحة الإجماع، وليس ذلك على ظاهره، وإنما قال هذا على طريق الورع، لجواز أن يكون هناك خلاف لم يبلغه، أو قال هذا في حق من ليس له معرفة بخلاف السلف" وهذا التوجيه الثاني وجيه؛ فإن العالم يد يخفى عليه الخلاف ولكن هذا الاحتمال يضعف جدا إذا توارد العلماء على نقل الإجماع من مختلف المذاهب والبلدان والعصور.
الإشارات المرجعية:
- العدة في أصول الفقه (4/1059)
- مسائل الإمام أحمد رواية أبي داود السجستاني، مكتبة ابن تيمية (ص48)
- التحبير شرح التحرير في أصول الفقه، للمرداوي، مكتبة الرشد (4/1528)
- العدة في أصول الفقه (4/1059)
- المسودة في أصول الفقه (ص316)
- يُنظر: مختصر الصواعق المرسلة (ص583)
المصدر:
- أحمد يوسف السيد، سابغات، ص 195