ما هو البديل ج2

ما هو البديل ج2 | مرابط

إشكالية المساحات التي لا بديل فيها

فالإشكال يأتي من عدم مراعاة هذه المساحات، والمطالبة بإيجاد بديل في منطقة لا بديل فيها، وهنا تتجاوز المقولة دورها بالبحث الحقيقي الجاد عن البديل المباح الذي يصون أديان الناس عن المحرمات، لتعمل في مجالات أخرى ليس هذا الغرض من بينها، ومن تلك المجالات:

  • تسويغ الفعل المحرم بسبب عدم وجود البديل: فإذا رأى مخالفة ظاهرة تعلل لها بأنه لا وجود لبديل، أو ماذا يمكن فعله غير هذا؟ وهذا ليس عذرًا مقبولًا في الشريعة، فعدم وجود البديل ليس بعذرٍ في ارتكاب أي شيء مما نهى الله عنه، والبدائل هي معينة للكف عن المحرمات، لكن غيابها أو غياب العلم بها ليس عذرًا لأحد في ارتكاب المحرم.
     
  • التهوين من الأمر والنهي المباشر: فإذا رأى من ينهى عن منكرات معينة استخف به وبطريقته نظرًا لأنه لم يقدم بدائل، وهذا غلط كبير، فواجب البحث عن البدائل لا يعني التزهيد في واجب الأمر والنهي المباشر، فكلها واجبات شرعية مكملة، ولا يلزم كل من يأمر بمعروف أو ينهى عن منكر أن يوفر البدائل للناس، فإذا نصح فقد أدى ما عليه وهو محمود بفعله، ولا معنى لإثارة سؤال البدائل في وجهه بهذه الطريقة إلا التزهيد في أمرٍ حسن قام به. خصوصًا أن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر لا يملك بالضرورة القدرة على صناعة البدائل، فهو محكوم باستطاعته وقدرته، ولا يستطيع أن يتجاوز حدود معرفته وعلمه، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعهًا، فإذا نصح بحسب طاقته فأنكر أمرًا محرمًا فلا يصح أن يعترض عليه بالمطالبة بتقديم بدائل لا يمكنه أن ينتجها أو يدل عليها، وهو ما يكشف وجه الخلل في مطالبة البعض كل محتسب أن يقدم بدائلَ شرعيةٍ في جميع الجوانب الاقتصادية والسياسية والثقافية، وكل هذا من قبيل المناكفة التي لا علاقة لها بالمطالبة المشروعة.
     
  • المطالبة بالبديل المساوي: فالبديل هو بديل مباح، وليس بالضرورة أن يكون مساويًا للأصل الذي تريد أن يتركه الناس من كل وجه، فلا يلزم أن البديل ممتعًا بنفس درجة الإمتاع التي يخلفها الأمر المحرم، لأن الواجب هو ترك هذا المحرم طاعة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والبدائل هي معينة وميسرة لهم، لكن ليس بالضرورة أن تكون كالمحرم، بل ثم من المحرمات ما لا يمكن إقامة بدائل مساوية لها، فمن يستمتع بمشاهد المشاهد المحرمة في القنوات لا يمكن أن تأتي له ببديل في قناة تلتزم بحدود الشريعة فتعرض عليه ما يسد حاجته، والطرب الذي يجده من يستمع إلى الموسيقى قد لا يجده في ألوانٍ من السماع المباح، واللذة التي يجدها الشخص من الزنا ليس مساويًا من كل وجه للبديل الذي أقامه الله تعالى من النكاح المشروع.

ففي الثاني من الالتزامات المتعددة ما ليس في الأول، فليس الثاني مشابهًا للأول من كل وجه، وإن كان متضمنًا للبديل الشرعي. وهذا يؤكد أن تفهم حقيقة البدائل وتوضع في وضعها الطبيعي، ولا يبالغ في شأنها مبالغةً تضر بمبدأ التسليم والانقياد للشرع، إذ المسلم مطالب بأن يستحضر أن الخير والبركة هو فيما شرعه الله، وأن ما حرمه الله عليه فإنما هو لدفع مفسدة راجحة عنه، فيهون عليه ترك هذا المحرم، ويجد في البديل الذي هو أقل منه ما يغنيه، ولو عدم فليس خضوعه للشرع بمرتهن لوجوده. 

  • التهاون في البدائل: فيقع بعض الناس في غلوٍ في أهمية وجود البدائل إلى درجة القبول بأي بديل، وعدم التدقيق في تفاصيل الحلال والحرام المتعلقة به، فيوسع من دائرة الترخص هنا ويتخفف من كافة الشروط والضوابط بحثًا عن أي بديل، وحين لا يجد إلا بديلًا معينًا يقبله على كل حال، متساهلًا في بعض ضوابطه طمعًا في حصول انتشار أكبر له، وهذا في الحقيقة تجاوز لوظيفة البديل، إذ المقصد المشروع هو البحث عن بديل شرعي مباح، وليس التفتيش عن أي بديل كان. فالبحث عن معاملات مصرفية مباحة لا يسوغ التهاون في ضوابط الشريعة في المعاملات بدعوى أن هذا خير من الربا؟ بل يجب أن يكون البحث عن البدائل المباحة، وهي التي قامت من أجلها جهود علمية كبيرة في عصرنا سعيًا لضبط ما يمكن تقديمه من البدائل. ويقال في مجالات الإعلام والترفيه والفن ما قيل هنا، فإن طلب البدائل مشروع لكنه لا يعني الترخص أو التخفف من ضوابط الشريعة فيها.

ومن طريف ما ذكره ابن تيمية في تسمح بعضهم في إقامة البدائل المحرمة: (ولقد حدثني بعض المشايخ أن بعض ملوك فارس قال لشيخ رآه قد جمع الناس على مثل هذا الاجتماع -يقصد مجالس السماع المحرم-: يا شيخ إن كان هذا هو طريق الجنة فأين طريق النار).

وبشكل عامٍ يجب على المسلم أن يستحضر أن تركه للحرام هو لله تعالى، لا أنه أمر مرتهن بوجود البديل، فيتركه إذا وجد البديل، أما إذا عدم فلا يتزحزح عنه، فإن هذه إحدى مشكلات المبالغة في تعويد النفس على تطلب البدائل، وهي مشكلة مشابهة لمشكلة بعض النفوس في مغالاتها في تطلب معرفة حكمة الله تعالى من كل تشريع، بما يشكل مانعًا من قبول بعض التشريعات إذا لم يظهر له وجه الحكمة فيها، فكذلك حال بعض النفوس في البدائل.

وليستيقن العبد أنه متى صدق في تركه محرمًا طاعةً لله تعالى فهو موعودٌ بأن يؤتيه الله خيرًا مما ترك: (إنك لن تدع شيئًا اتقاء الله عز وجل إلا أعطاك الله خيرًا منه)، وجاء عن أبي بن كعب رضي الله عنه أنه قال: (ما ترك عبد شيئًا لا يتركه إلا لله إلا آتاه الله بما هو خير منه من حيث لا يحتسب، ولا تهاون عبدٌ أو أخذه من حيث لا يصلح له إلا آتاه الله بما هو أشد منه من حيث لا يحتسب).

 

طلب البديل ممن يمكنه تقديمه

بقي التنبيه على مسألة مهمة وهي ضرورة تطلب البديل ممن يمكنه تقديمه، وعدم مطالبة كل ناقد أو محتسب بضرورة تقديمه، فقد يستبين للشخص خطأ ممارسة معينة، أو عدم جدوى منتج ما، فإذا سئل عن البديل، فقد لا يستحضره، أو يكون عاجزًا عن تقديمه، فلا يصح أن يشكل هذا ذريعة لرفض نصيحته وتخطئته، بل الواجب النظر في نقده من حيث هو، فإن كان حقًا قبل، ثم ينظر في المسألة الأخرى وهي طلب البديل المشروع.

ولذا فمن النقد غير الموضوعي لوم العلماء والدعاء حين ينكرون بعض الأخطاء في الواقع بأنهم ينشغلون بالنقد عن تقديم البدائل والحلول، وقد لا تكون فضاءات هذه الحلول داخلة في اختصاصاتهم أصلًا، فليس واجبًا على كل ناصح أن يقوم بتقديم كافة الحلول في مختلف المجالات العلمية في الطب والهندسة والعلوم بداهةً، ولا في المجالات الإنسانية كالسياسة والاقتصاد والاجتماع وغيرها أيضًا، وهو ما يستدعي ضرورة استحضار الفرق بين الفقيه والخبير، ومجالات عمل كل منهما.

فدور عالم الشريعة النظر في النصوص وتطلب معانيها وإدراك ما فيها من أحكام، ثم تنزيل تلك الأحكام على الواقع، وقد يحتاج لتمام العلم بطبيعة الواقع أن يستعين بالخبير الذي يكشف له تفاصيل الواقع ليدرك بعد ذلك مدى ملائمة الحكم له أو عدم ملاءمته، إذ الحكم على الشيء فرع عن تصوره.

فلا يطالب الفقيه بوضع الحلول لجميع مشكلات الواقع، فإنه غير مستطاع له، بل إن هذه المطالبة تحمل في طياتها قدرًا عاليًا من الاستهانة بالمعارف والعلوم، وعدم إدراكٍ لحجم التعقيدات المتعلقة بها، فمطالبة الفقيه بالتحرك في فضاءات علمية لا يحسنها هي دعوةٌ صريحة له أن يسطوا على تخصصات غيره، ويتسور عليها، فإن فعل وأقدم فما أحسن بإقدامه إذ تكلم بغير علمٍ، ثم إن ما سينتجه سيكون مظنة الخطأ والوهم بطبيعة الحال.

فافتراض مسؤولية الفقهاء أو الدعاة أو المحتسبين عن إنتاج البدائل في جميع المجالات خطأ، وهو تصور شمولي يغفل عن اتساع دائرة التخصصات وتنوع المعارف، وما يستدعيه توفير البدائل من تواصل معرفي بين الفقهاء والخبراء.

كما يغفل أيضًا عن أن إنتاج البدائل فعليًا لا يقوم على مجرد التفكير النظري عند الحديث عنها، فالأمر في كثير من الأحيان لا يعتمد على مجرد تقرير معرفي، وإنما يحتاج إلى سلطة أو ملاءة مالية أو غير ذلك مما لا يملكه الفقيه أو الخبير، فحاجة الناس إلى إعلام هادف مثلًا كبديل عن الإعلام الهابط لا يقوم إلا عبر مؤسسات تقيم هذا المشروع، وهو ما يتطلب أمورًا كثيرة جدًا تخرج عن حدود تقديم الرأي المجرد، والناس يحتاجون أيضًا إلى بنوك إسلامية في مقابل البنوك الربوية، وهي الأخرى لا تتمثل في الواقع بمجرد التنبيه إلى أهميتها، أو تصوير كيفيه إقامتها، فالتقصير في هذه البدائل لا يعود إلى تقصير الفقيه أو الخبير وإنما يرجع إلى غيرهم.

والخلاصة: أنه مع الاعتراف بأهمية توفير البدائل الشرعية للتخفيف من جاذبية كثير من المنكرات، وأن له أثرًا حقيقيًا ملموسًا في ذلك، لكن المسلم لا يجعل من توفرها ميزان التزامه بأوامر الشريعة، فإذا توفرت وقع منه الالتزام، وإن لم تتوفر مضى في ممارسة الحرام، وليتذكر دومًا أنه عبد لله، وأنه في دار ابتلاء واختبار، وأن الله كريم، وأن من كرمه سبحانه أن من ترك شيئًا له عوضه خيرًا منه.

 


 

المصدر:

عبد الله بن صالح العجيري وفهد بن صالح العجلان، زخرف القول: معالجة لأبرز المقولات المؤسسة للانحراف الفكري المعاصر، ص322

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#زخرف-القول
اقرأ أيضا
طرق أهل البدع في تحريف الكتاب والسنة ج2 | مرابط
تفريغات

طرق أهل البدع في تحريف الكتاب والسنة ج2


من أساليب أهل البدع في إثبات بدعهم وما أحدثوه في الدين هو تحريف آيات الكتاب وأحاديث السنة إما بلي أعناقها لإثبات مقصودهم وأهوائهم أو بتفسيرها بما يسمى عندهم بالتفسير الباطني أو تحريف الأحاديث بذكر زيادات لم تصح وغير ذلك وقد تصدى أهل العلم لهذه التحريفات بفضل الله فقاموا بتفنيد هذه الشبه وفضح أهل البدع بكل ما أوتوه من قوة وبيان

بقلم: أبو إسحاق الحويني
885
كيف نثبت النبوة عقلا | مرابط
تعزيز اليقين

كيف نثبت النبوة عقلا


وقال في إثبات نبوة رسوله باعتبار التأمل لأحواله وتأمل دعوته وما جاء به: أفلم يدبروا القول الآيات فدعاهم سبحانه إلى تدبر القول وتأمل حال القائل فإن كون القول للشيء كذبا وزورا يعلم من نفس القول تارة وتناقضه واضطرابه وظهور شواهد الكذب عليه فالكذب باد على صفحاته وباد على ظاهره وباطنه ويعرف من حال القائل تارة فإن المعروف بالكذب والفجور والمكر والخداع لا تكون أقواله إلا مناسبة لأفعاله ولا يتأتى منه من القول والفعل ما يتأتى من البار الصادق المبرأ من كل فاحشة وغدر وكذب وفجور بل قلب هذا وقصده وقوله....

بقلم: الإسلام سؤال وجواب
1499
الأمة الوسط الجزء الأول | مرابط
تفريغات

الأمة الوسط الجزء الأول


من المتفق عليه أن الخصيصة الأولى والمقوم الأساسي للأمة الوسط هو كونها أمة ربانية وهذه الخصيصة خاصة بهذه الأمة لا تشاركها فيها الأمم الأخرى فالأمة الإسلامية أمة ربانية في عقيدتها وتصورها وتشريعها وأخلاقها وقيمها لأن هذا كله منزل من عند الله تبارك وتعالى

بقلم: عمر الأشقر
838
عقيدة الشيعة في أئمتهم | مرابط
تفريغات

عقيدة الشيعة في أئمتهم


جزء من محاضرة للشيخ عمر الأشقر يتحدث فيه عن عقيدة الشيعة في أئمتهم ويبين أن الشيعة يعتقدون في أئمتهم أنهم معصومون عن الخطأ وكلامهم ككلام الرسول صلى الله عليه وسلم لأنهم لا يخطئون ويقولون في علي بن أبي طالب رضي الله عنه إنه هو خليفة المسلمين وإمامهم

بقلم: عمر الأشقر
927
لمن أكتب | مرابط
مقالات

لمن أكتب


لمن أكتب لم أحاول قط أن أعرف لمن أكتب ولم أكتب ولكني أحس الآن من سر قلبي أني إنما كنت أكتب ولا أزال أكتب لإنسان من الناس لا أدري من هو ولا أين هو: أهو حي فيسمعني أم جنين لم يولد بعد سوف يقدر له أن يقرأني ولست على يقين من شيء إلا أن الذي أدعو إليه سوف يتحقق يوما على يد من يحسن توجيه هذه الأمم العربية والإسلامية إلى الغاية التي خلقت لها وهي إنشاء حضارة جديدة في هذا العالم تطمس هذه الحضارة التي فارت بالأحقاد والأضغان والمظالم ولم يتورع أهلها عن الجور والبغي في كل شيء حتى في أنبل الأشياء وهو ال...

بقلم: محمود شاكر
633
من آفات السوشيال ميديا: التغيير من أجل التغيير | مرابط
فكر اقتباسات وقطوف ثقافة

من آفات السوشيال ميديا: التغيير من أجل التغيير


من أجل استمرار تدفق اللايكات إلى حسابك أو في سبيل أن تصبح إنسانا عاديا في 2020م ينبغي عليك أن تتايع التريندات أولا بأول أو تطور أجهزتك الإلكترونية باستمرار أو أن تقرأ المنشورات الحديثة للشخصيات والصفحات المشهورة يشكل يومي نحن نعيش في حالة مجنونة من السرعة كل لحظة هناك شيء جديد وأمر متغير

بقلم: د إسماعيل عرفة
420