الأسس الفكرية لليبرالية: العقلانية

الأسس الفكرية لليبرالية: العقلانية | مرابط

الكاتب: د عبد الرحيم بن صمايل السلمي

2898 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

دور العقل الليبرالي

تعني العقلانية: استقلال العقل البشري بإدراك المصالح والمنافع دون الحاجة إلى قوى خارجية، وقد تم استقلاله نتيجة تحريره من الاعتماد على السلطة اللاهوتية الطاغية.

وهذا التصور العلماني لدور العقل جعله في مقابل الدين، يقول بيكون "كما أن الماء ينزل بعضه من السماء، وينبع بعضه من الأرض، كذلك علم الإنسان، يستفاد بعضه بالعقل والبعض الآخر بالوحي الإلهي" (1)، ويقول ديكارت "إن مبدأ العلم الطبيعة، وموضوعه استغلال قوى الطبيعة، وأدواته الرياضة والتجربة، ويخص الدين بمصائر النفس في العالم الآخر، ويعتمد على الاعتقاد والتسليم فلا مضايقة بين العلم والدين، ولا سلطان لأحدهما على الآخر" (2)

بداية التحرر الفكري

ويعتبر الفكر الديكارتي البداية الأولى للتحرر الفكري من الدين، والبحث عن مصادر أخرى للمعرفة غير المصدر الديني، يقول جون لويس "إن ديكارت أحل البحث الحر محل الخضوع للسلطة، والبرهنة العقلية محل الإيمان، وهو بذلك مؤسس فلسفة التنوير"(3)

وتعتبر العقلانية من مكونات الليبرالية بالمفهوم المتقدم، ويؤكد ذلك قول جون لوك "من استبعد العقل ليفسح للوحي مجالا فقد أطفأ نور كليهما، وكان مثله كمثل من يقنع إنسانا بأن يفقأ عينه، ويستعفي عنهما بنور خافت، ويتلقاه بواسطة المرقب من نجم سحيق" (4)

ونلاحظ أن الاعتماد على العقل وتحييد الدين جاء بصورة متدرجة، ولكنه استحكم في عصر التنوير، وزاد ترسيخه كمصدر وحيد للمعرفة في القرن التاسع عشر الذي هو قمة الهرم الليبرالي.

وقد أصبح الاعتماد على العقل المجرد وإقصاء الدين والقيم والأخلاق سمة من أبرز سمات الفكر الأوروبي المعاصر.

وتبدو العقلانية في الفكر الليبرالي من خلال ما يلي:

أولًا: أن الحقوق الأساسية للفرد تستند إلى القانون الطبيعي، وهو قانون مادي يرى فيه الليبراليون الأساس الفلسفي لهذه الحقوق، فالناس في حالة الطبيعة الأولى لهم حقوق طبيعية كحق الحرية الشخصية، وحق الملكية الخاصة وغيرها.

وقد ربط الليبراليون السياسة والاقتصاد بهذا الأساس الفلسفي، فالدولة تتكون بالعقد الاجتماعي المنظم لهذه الحقوق والمحافظ عليها، والحرية الملكية الفردية تقوم الطبيعة بجعلها مصلحة المجتمع مع أن الفرد لم يقصد ذلك، ولا يعرف كيفية حصوله.

والمقصود أن الحريات هي حقوق مستندها الشرعي الطبيعة، وليس أمرًا خارجيًا عن الطبيعة المادية المشاهدة، وطريق معرفة الطبيعة بالعقل وأدواته كالحس والتجربة. 

يقول جورج سول "وصار لزامًا على الذين نبذوا الإيمان بالله كلية أن يبحثوا عن بديل لذلك، ووجدوه في الطبيعة، أما الذين ظلوا على استمساكهم بالدين، ولو باللسان وإن لم يكن في الواقع كما فعل أغلبهم، فقد اعتقدوا أن الله يعبّر عن إرادته عن طريق الطبيعة وقوانينها، وليس بوسيلة مباشرة، وبهذا لم تعد الطبيعة مجرد شيء له وجود فحسب، وإنما هي شيء ينبغي أن يطاع، وصارت مخالفتها دليلا على نقص في التقوى والأخلاق، ومازلنا حتى اليوم نستعمل عبارة السلوك غير الطبيعي في هذا المعنى" (5) 

ثانيًا: أن الدولة محايدة فيما يتعلق بالاعتقاد الديني؛ ﻷن الحرية تقتضي عدم القطع واليقين؛ ﻷنه لا يمكن الوصول للحقيقة إلا بواسطة العقل من خلال التجربة، فالإنسان قبل التجربة يجهل الكليات العامة والمطلقات المجردة، وهذا ما يجعله غير قادر على القطع، ويسمى هذا المبدأ "مبدأ التسامح" (6)، وحقيقته إلغاء الالتزام الديني؛ ﻷنه أعطى الإنسان الحق في اعتقاد ما شاء وإعلانه، وعدم تكفيره ولو كان إلحادًا، ويجب على الدولة أن تكفل هذا الحق لمواطنيها؛ ﻷن الدولة تكوّنت للمحافظة على الحقوق الطبيعية للأفراد، وهذا يقتضي أن تكون محايدة من كافة الأديان والمذاهب (7)

ولا شك أن الأساس الذي بنى عليه ما تقدم هو العقل المجرد، وهو عقل مادي لا يؤمن بغير المحسوسات، ويرى أن الدين مبني بناء غير علمي؛ فلا يصح جعله مصدرًا للمعرفة.

ثالثًا: أن القانون الذي يضبط الحرية من الانفلات -عند كل الاتجاهات الليبرالية- هو قانون وضعي يعتمد على العقل المجرد في التشريع، فالمصدر الوثيق في القانون وفي المجال الخاص للفرد هو العقلانية، يقول فولتير "إن التوحيد بين الدين والدولة لهو أبشع نظام؛ لذلك يجب إلغاؤه وإقامة نظام آخر يخضع فيه رجل الدين لنظم الدولة، ويخضع فيه الراهب للقاضي" (8)، ويقول "إنه لا يمكن طاعة البشر باسم طاعة الله، لا بد من طاعة البشر باسم قوانين الدولة" (9)

وهو لا يعني بذلك دينًا محرفًا يعتبر الأشخاص مكان الله تعالى، بل يريد عموما الأديان ولهذا يقول في موضع آخر "من الواضح أن الله لم يكن قويًا جغرافيًا" (10)، ويقول عن العبادات الدينية "إن الطقوس والشعائر والعبادات والاحتفالات الدينية جرائم محلية يعاقب عليها كل من يزاولها لأنها ضارة بالمجتمع خاصة إذا تمت بصورة أضاح وقرابين" (11) 

وهذا النص يدل على عدم التزام الليبراليين بحرية الآخر، وهي صورة ومثال متكرر عند دعاة الحرية المزعومة، وموقف معروف ضد من يخالفهم..

وقد تكوّن عند الليبراليين دين جديد سموه "الدين الطبيعي" وهو دين عقلي، يقدس العقل ويضعه موضع التعبد، وفي ذلك يقول فولتير "إن الدين الوحيد الصحيح الناتج من استعمال العقل هو التنزيه المطلق الذي يظهر في الأخلاق العملية"(12)

وقد تكونت علاقة الليبرالية بالعقلانية عبر ثلاث مراحل هي:

1- مرحلة التحديث، واتسمت بسيطرة الفكر النفعي على جوانب الحياة، من خلال الزيادة المطّردة في الإنتاج، ودعم الحرية الفردية المادية كفكرة عملية تزيد في الإنتاج المادي، ولذلك ظهرت الدولة القومية العلمانية في داهل أوروبا والاستعمار في الخارج لضمان هذا الهدف، وانعكس ذلك على الأخلاق والأسرة.

2- مرحلة الحداثة، وهي استمرار للمرحلة السابقة، مع تعميق آثار الفردية النفعية، وفي هذه المرحلة واجهت الدولة القومية تحديات من جراء حركة السوق غير المنضبط والخالي من القيم، وتبدل الاستعمار المباشر باستعمار سياسي واقتصادي وثقافي، واتجه السلوك العام نحو الاستهلاك.

3- مرحلة ما بعد الحداثة "حيث الاستهلاك هو الهدف النهائي من الوجود ومحركة اللذة الخاصة، واتسعت معدلات العولمة (13) لتتضخم مؤسسات الشركات متعددة الجنسيات والمنظمات غير الحكومية الدولية وتتحول القضايا العالمية من الاستعمار والتحرر إلى قضايا البيئة والإيدز وثورة المعلومات، وتضعف المؤسسات الاجتماعية الوسيطة مثل الأسرة، لتحل محلها تعريفات جديدة للأسرة: رجلان وأطفال، امرأة وطفل، امرأتان وأطفال...، كل ذلك مستندا على خلفية من غياب الثوابت والمعايير الحاكمة لأخلاقيات المجتمع والتطور التكنولوجي الذي ينتج بدائل لم تكن موجودة من قبل في مجال الهندسة الوراثية" (14)

وبعد ذلك أصبحت الليبرالية العقلانية "رؤية شاملة للواقع تحاول بكل صرامة تحييد علاقة الدين والقيم المطلقة والغيبيات بكل مجالات الحياة، ويتفرع عن هذه الرؤية نظريات ترتكز على البعد المادي للكون، وأن المعرفة المادية: المصدر الوحيد للأخلاق، وأن الإنسان يغلب عليه الطابع المادي لا الروحي"(15) ومما يؤكد هذه الرؤية الارتباط القوي بين الليبرالية والرأسمالية.


الإشارات المرجعية:

  1. عن الفلسفة الحديثة ص94
  2. العلم والدين في الفلسفة المعاصرة، ص19
  3. عن الفلسفة الحديثة ص154
  4. عن قضية النزاع بين العلم والدين ص214
  5. المذاهب الاقتصادية الكبرى ص51
  6. قرر هذا المبدأ جون لوك في كتابه "رسالة في التسامح"
  7. انظر: مشكلة الحرية ص233
  8. تراث الإنسانية 75/8
  9. المرجع السابق، نفس الجزء والصفحة
  10. المرجع السابق 78/8
  11. المرجع السابق، نفس الجزء والصفحة
  12. تراث الإنسانية 75/8
  13. العولمة نتيجة لليبرالية الكلاسيكية وانعكاس لها
  14. العلمانية، د. عبد الوهاب المسيري
  15. المرجع السابق

المصدر:

  1. د. عبد الرحيم بن صمايل السلمي، حقيقة الليبرالية وموقف الإسلام منها، ص153
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الليبرالية #العقلانية
اقرأ أيضا
الطفل الإسلامي والطفل الغربي الجزء الثاني | مرابط
تفريغات

الطفل الإسلامي والطفل الغربي الجزء الثاني


إن تربية الأولاد أمانة ومسئولية لا بد من القيام بها فانظروا كم ضيع الأمانة اليوم من المسلمين كم من أولياء أمور ضيعوا الأمانات ضيعوا الأولاد ضيعوا فلذات أكبادهم أهملوا تركوهم في الشوارع يتعلمون الألفاظ القبيحة والعادات السيئة كالتدخين وغيره ويتدرجون شيئا فشيئا إلى أن يتعاطوا المخدرات ويقعوا في الفاحشة واللواط وهكذا تكون النتائج متوقعة ولا شك أنها نتيجة لهذا التضييع

بقلم: محمد المنجد
696
هل عبد سيدنا إبراهيم عليه السلام النجوم والشمس والقمر | مرابط
أباطيل وشبهات تعزيز اليقين مقالات

هل عبد سيدنا إبراهيم عليه السلام النجوم والشمس والقمر


تقول الشبهة بأن الله لا يغفر أن يشرك به كما جاء في القرآن الكريم ولكن في نفس الوقت غفر الله لسيدنا إبراهيم عليه السلام عبادته للنجوم فهل فعلا عبد سيدنا إبراهيم النجوم والشمس والقمر كما يزعم صاحب الشبهة وهل وقع هنا أي حالة من حالات الشرك هذا ما يناقشه المقال ويوضح مكامن الخلل في هذه الشبهة السخيفة

بقلم: محمد عمارة
2507
سلسلة كيف تصبح عالما الدرس الأول ج1 | مرابط
تفريغات

سلسلة كيف تصبح عالما الدرس الأول ج1


يجب على الإنسان أن يقف ويتفكر ويتدبر في كل الأحداث التي مرت قبل ذلك بأمتنا ليخرج منها بالعبرة واسألوا أنفسكم: لماذا نزلت الرسالة النبوية في بلد كمكة ولماذا هاجر صلى الله عليه وسلم إلى بلد كالمدينة والجو -كما تعلمون- حار والصحراء قاحلة والمياه نادرة والهواء ساخن نحن لا نستطيع أن نتحمل إلا بضعة أيام نقضيها في العمرة أو في الحج مع وجود المكيفات والمراوح ووسائل الرفاهية الكثيرة فهذا يدل على أن الدعوة والأمة لا تنشأ إلا في جو صعب يربي الناس تربية قوية راسخة على تحمل المشاق في سبيل الله عز وجل

بقلم: د راغب السرجاني
810
الإسلام دين لا يعرف الكهانة | مرابط
اقتباسات وقطوف

الإسلام دين لا يعرف الكهانة


الدين الإسلامي دين لا يعرف الكهانة ولا يتوسط فيه السدنة والأحبار بين المخلوق والخالق ولا يفرض على الإنسان قربانا يسعى به إلى المحراب بشفاعة من ولي متسلط أو صاحب قداسة مطاعة فلا ترجمان فيه بين الله وعباده يملك التحريم والتحليل ويقضي بالحرمان أو بالنجاة

بقلم: العقاد
744
أين الثوابت والمتغيرات | مرابط
فكر مقالات

أين الثوابت والمتغيرات


حين نستعرض تفسيرات المعاصرين للثوابت والمتغيرات في الشريعة الإسلامية نجدها ترجع لثلاث تفسيرات رئيسية تفسير الثوابت بالقطعيات والمتغيرات بالظنيات أو تفسير الثوابت بالمجمع عليه والمتغيرات بالمختلف فيه أو تفسير الثوابت بالأصول والمتغيرات بالفروع ويكمن الإشكال في الأحكام التي تترتب على هذا التقسيم وفي التصورات التي تبنى على هذه التفسيرات فسؤال: أين الثوابت والمتغيرات ليس مشكلا كسؤال ما الذي سيترتب على تفسير الثوابت والمتغيرات

بقلم: فهد بن صالح العجلان
2442
آيات التحدي في القرآن الكريم | مرابط
تعزيز اليقين

آيات التحدي في القرآن الكريم


إن القرآن الكريم كتاب الله تبارك وتعالى أنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم معجزة عظمى وقرآنا يتلى تولى حفظه رب العالمين جل جلاله فقال سبحانه: إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون الحجر:8 فالقرآن محفوظ في السطور ومحفوظ في الصدور أعظم معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم معجز أعجز البلغاء أن يأتوا بمثله تحدى كفار قريش وهم الفصحاء أن يأتوا بمثله مع أنه مركب من الحروف العربية أ ب ت ث التي يتكلم بها أهل العربية وألفاظه ومفرداته موجودة في كلام العرب لكن الكل يعجز عن أن يأتي بمثل أقصر آية منه

بقلم: محمد بن عبدالله العبدلي
1435