الصبر على العلم
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد:
فأهلًا ومرحبًا بكم في هذا اللقاء الطيب المبارك، وأسأل الله عز وجل أن يجعل هذا اللقاء في ميزان حسناتنا أجمعين.
موضوع الحديث اليوم أعتبره من أهم الموضوعات التي يجب أن تنشغل بها الأمة، ولكن قبل البداية أحب أن أقدم مقدمة لا بد منها.
يجب على الإنسان أن يقف ويتفكر ويتدبر في كل الأحداث التي مرت قبل ذلك بأمتنا ليخرج منها بالعبرة، واسألوا أنفسكم: لماذا نزلت الرسالة النبوية في بلد كمكة؟ ولماذا هاجر صلى الله عليه وسلم إلى بلد كالمدينة، والجو -كما تعلمون- حار والصحراء قاحلة والمياه نادرة والهواء ساخن؟ نحن لا نستطيع أن نتحمل إلا بضعة أيام نقضيها في العمرة أو في الحج مع وجود المكيفات والمراوح ووسائل الرفاهية الكثيرة، فهذا يدل على أن الدعوة والأمة لا تنشأ إلا في جو صعب يربي الناس تربية قوية راسخة على تحمل المشاق في سبيل الله عز وجل، ونحن الآن وقوف في صلاة مع رب العالمين سبحانه وتعالى، نسمع كلامه ونتوجه إليه بدعائنا، ومع ذلك ننشغل أحيانًا بالحر وقطرات العرق الخفيفة جدًا بالقياس إلى ما عاناه الذين بنوا هذه الأمة قبل ذلك.
فالتقلبات الجوية من حر وبرد ما كانت تقف أبدًا بأي حال من الأحوال أمام عظماء الأمة الذين أقاموا هذا البنيان الضخم، ما كانت تقف أمامهم في جهاد، ولا في صلاة، ولا في طلب علم، ولا في رحلة في سبيل الله لأي غرض يرضي الله عز وجل، وكلنا يعلم أحداث غزوة تبوك، حيث كانت في الحر، وكان الابتلاء فيها شديدًا، والمسافة من المدينة المنورة إلى تبوك (700) كيلو متر، ونحن نضجر ونتعب من المكوث ساعة أو ساعتين في مسجد به مراوح وبه بعض المكيفات وفي الليل؛ لأننا لا نتحمل هذا الحر؛ لو عُرض علينا أن نتجه إلى تبوك من المدينة سيرًا على الأقدام، أي حال سيكون حالنا؟ هذه وقفة مع النفس، نحن ندرب أنفسنا، نحن لا نحرم المكيفات ولا المراوح وما إلى ذلك من وسائل الترف أو الرفاهية، لا نحرمها إن كانت من حلال وتستخدم في حلال: "قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ" [الأعراف:32]، ولكن إذا حُرمنا منها لا نضجر، بل نستكمل مسيرتنا في جهادنا، وفي طلبنا للعلم، وفي عبادتنا، ونحن نرجو ثواب ذلك عند الله عز وجل.
هذه الوقفة في هذا الحر لعلها تكون المنجية يوم القيامة، فيوم القيامة يكون الحر شديدًا، والعرق غزيرًا، فمن الناس من يبلغ عرقه إلى كعبيه، ومنهم من يبلغ إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجامًا ويغرق في عرقه.
وقفة في سبيل الله في هذا الحر قد تنجيك من حر يوم القيامة: "قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا" [التوبة:81] لما قال المنافقون: لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ [التوبة:81] كان الرد: "قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا" [التوبة:81].
فالصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم قطعوا هذه المسافات من المدينة إلى تبوك في الحر الشديد، وكذلك فعلوا في البرد الشديد، وكلنا يذكر قول خالد رضي الله عنه عندما قال: ما ليلة تزف إليّ فيها عروس أو أُبشّر فيها بغلام بأحب عندي من ليلة شديدة البرد في سرية من المهاجرين أُصبّح بهم أعداء الله.. هذه أعظم لياليه، ليلة شديدة البرد شديدة الجليد، لماذا هذه الليلة أحب لياليه؟ لأنها في سبيل الله، يصبّح بها أعداء الله.
فهذا المجلس الذي تجلسونه الآن تحفه الملائكة، وتغشاه الرحمة، وتتنزل عليه السكينة، ويذكرنا ربنا سبحانه وتعالى بأسمائنا وأعياننا في ملأ خير من هذا الملأ، أي نعمة هذه؟ إنها نعمة كبيرة فلا تشغلنا قطرات عرق ولا يشغلنا مكيف لا يعمل، ولا تشغلنا مروحة بعيدة في السطح، ولا شدة زحام، ولا كل هذه الأشياء التي أعد الانشغال بها من الترف، والترف مهلك حقيقة، وراجعوا تاريخ الأمم السابقة الهالكة تجدون أنها غالبًا ما تكون أممًا مترفة: "وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا" [الإسراء:16].
فالإنسان الذي لا يتحمل الحر ولا الجوع ولا البرد ولا الفقر ولا طول المسافات هذا إنسان قد يبيع كل شيء في سبيل ترفه وفي سبيل شهوته ودنياه، وقد يبيع دينه في سبيل ترفه هذا، فعلينا أن ندرب أنفسنا، فنحن في مجلس عظّم الله عز وجل أجره وثوابه، وهذا المجلس بالذات مجلس العلم هو محور حديثنا في هذه الأيام المقبلة؛ لذلك وجب التنبيه على أهمية الصبر والتصبر في مثل هذه المجالس التي تحفها الملائكة.
العلم ودوره في بناء الأمة
كلنا يشاهد ما يحدث لأمة الإسلام هنا وهناك، وجلسنا في هذا المجلس في هذا المسجد منذ شهور نتحدث عن مصابنا في حبيبنا صلى الله عليه وسلم، عندما رسمه الرسامون الدنماركيون بما رسموه، وجلسنا أيضًا في هذا المسجد قبل ذلك نتحدث عن الحصار الذي قام به أعداء الأمة لحماس عندما صعدت إلى الحكم في فلسطين، وجلسنا قبل ذلك بشهور وسنوات نتحدث عن أزمات مشابهة مرت في فلسطين وفي لبنان وفي العراق وفي أفغانستان وفي السودان وفي الشيشان..، وهكذا، والآن سمعنا ما تحدث به البابا، "قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ" [آل عمران:118] تتوالى الضربات للأمة الإسلامية فلا بد من وقفة، لا بد أن نعرف ماذا يحدث؟ كنا قد حللنا أسباب ضعف الأمة الإسلامية التي تجرأ عليها عدوها بهذه الصورة في محاضرات سابقة.
وسآخذ مرضًا واحدًا من هذه الأمراض وأظن أننا لو عالجناه لكانت البداية صحيحة إن شاء الله رب العالمين، أنا منشغل هذه الأيام وقبلها بدراسة كيف تُبنى الأمم؛ سواء كانت هذه الأمم إسلامية أو غير إسلامية، هناك بعض الفروقات بين أمة الإسلام وغيرها من الأمم وهي فروق هامة، لكن هناك قواعد عامة تطبق على كل الأمم، كيف تُبنى الأمم؟ كيف تتحول أمة ضعيفة إلى أمة قوية؟ كيف تتحول أمة تابعة إلى أمة متبوعة؟ كيف ترفع أمة عن كاهلها الظلم والاستبداد والقهر؟ كيف بُنيت أمة الإسلام؟ وكيف بُنيت الأمم المعاصرة لنا من غير أمة الإسلام؟
سأراجع في هذه الدراسة الدول المعاصرة لنا إسلامية كانت أو غير إسلامية، التي تحولت في خلال خمسين سنة أو ستين سنة من دولة ضعيفة فقيرة مهيضة الجناح إلى دولة قوية لها كلمة مسموعة في العالم، ندرس في هذه التجارب مثلًا: تجربة كوريا الجنوبية، تجربة اليابان، تجربة ألمانيا، تجربة أمريكا، تجربة ماليزيا، تجربة إيران، بل ندرس تجربة إسرائيل التي زُرعت في باطن البلد الحبيب فلسطين، نسأل الله عز وجل أن يحررها كاملة.
هناك عوامل مختلفة كثيرة تؤدي إلى بناء أمة، منها على سبيل المثال لا الحصر: القوة، فالبلاد التي مُكّنت في الأرض ورفعت رأسها بلاد قوية في الأغلب، لكن هناك بلاد ضعيفة أيضًا عسكريًا ومع ذلك لها كلمة مسموعة، هناك الوحدة في الصف سواء في الدولة الواحدة أو بين أكثر من دولة، هناك الشورى أو عندهم الديمقراطية، هناك الأخلاق الحسنة، هناك الانتماء إلى البلد الذي يعيشون فيه، هناك عوامل مختلفة، لكن كل هذه العوامل لا يستقيم لها أن تبني أمة إلا بأساس هام جدًا واحد، للأسف الشديد هذا العامل تفتقده الأمة الإسلامية الآن، وإن اكتسبته الأمة الإسلامية كما أمر به الشرع الحنيف، فإنها بإذن الله تبدأ أول الطريق، هذا العامل هو العلم.
لا توجد دولة من الدول القوية التي رفعت رأسها في العالم وحسّنت من اقتصادها وقويت شوكتها واستُمع إلى كلمتها متخلفة في مجال العلوم.
فالعلم أصل يجمع كل هذه الدول، وليس في هذا أي تعارض مع ديننا، بل تدبروا وتفكروا في ديننا، وأنا أهتم جدًا بالإحصائيات والأرقام، وأهتم جدًا بأوائل الأشياء، فما بالكم لو كانت هذه الأرقام وهذه الأوائل من الأشياء في كتاب ربنا وفي سنة حبيبنا صلى الله عليه وسلم، وفي سيرته العطرة عليه وعلى الأنبياء أفضل الصلاة والتسليم؟!