الإلحاد وسؤال الإرادة الحرة

الإلحاد وسؤال الإرادة الحرة | مرابط

الكاتب: عبد الله بن صالح العجيري

3205 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

من الملاحظات التي يمكن رصدها في كثير من الكتابات الإلحادية الحديثة أنها تتبنى رؤية جبرية مغالية في تفسير وقوع الأفعال الإنسانية، ففكرة الإرادة الحرة وهم، والإنسان في حقيقته مجبور على أفعاله، وإن أحس أنه مختار لها، أو كما عبر بعض الجبرية في الكتابة التراثية: الإنسان مجبور في صورة مختار.

 

سام هارس والإرادة الحرة

يقول سام هارس في كتيبه المخصص لهذا الموضوع "الإرادة الحرة":

اختياراتي مهمة، وهناك طرق لاتخاذ قرارات أكثر حكمة، لكني لا أستطيع أن أختار ما أريد اختياره، وإذا ظهر أنني قادر على ذلك كالعودة مثلا للوراء لاتخاذ أحد قرارين فإنني لا أختار ما أختار أن أختاره، إنه تسلسل يفضي بنا دوما للظلام.

 

ويكفي لمعرفة موقفه الصريح جدًا من هذه القضية -وهو موقف يلقى ترحابا في أوساط إلحادية متعددة، بل ومن يبدي قدرًا من التوقف في المسألة يراها المنسجمة مع الرؤية المادية للكون- قوله في أول كتابه "الإرادة الحرة": (الإرادة الحرة وهم)، بل يقول (في الحقيقة الإرادة الحرة أكثر من مجرد وهم أو أقل) إذ هي لا تبدو متماسكة نظريًا.
 

مايكل شرمر وعلم الخير والشر

وقد عالج مايكر شرمر أيضًا مسألة الإرادة الحرة في كتابه (علم الخير والشر) في فصل خاص، قال في آخره بعد أن تحدث عن حجم تعقيد المؤثرات والعوامل التي تدفع الإنسان باتجاه اتخاذ قرار ما:

"حجم تعقيدات العوامل والمحددات التي تتسبب في إحداث اختياراتنا، تقودنا إلى الشعور وكأننا نمارس أفعالنا بحرية ككائنات متسببة في أفعالها دون أن تكون مسببة، مع أننا في الحقيقة محددي الأفعال سببًا. وبما أنه ليس بالإمكان تحديد قائمة كاملة بالأسباب التي تحدد الفعل الإنساني، فإن الشعور بالحرية ينشأ بسبب جهلنا بالأسباب، إلى هذا الحد فإنه بإمكاننا أن نعمل وكأن لدينا حرية فعلا".

وهو كلام صريح بأن الحرية مجرد وهم، وأنه حين تصدر أفعالنا نشعر وكأن لدينا حرية فعلا وإن لم نكن أحرارًا فعلا.

 

لورنس كراوس

وفي الجزء الأخير من المناظرة الثلاثية بين لورنس كراوس، ووليم لين كريغ، تم طرح سؤال الإرادة الحرة، فكان تهرب لورنس من تقديم جواب واضح واضحًا تمامًا، وإن تسربت منه وبصعوبة بعض الأفكار المشابهة لما طرحه مايكل شرمر في الاقتباس الماضي، بما يوحي أنه متفق في الحقيقة مع هذه الرؤية الجبرية، مع شعور بقدر من الحرج من التصريح بها.
 

كريستوفر هيشنز

أما كريستوفر هيتشنز فله جواب طريف على السؤال ولكنه معبر عن رؤيته إذ يقول في جواب سؤال: هل لديك إرادة حرة؟ ( ليس لدي اختيار آخر ).
 

دوكنز والإرادة الحرة

وقد عبر دوكنز عن تردده في مسألة الإرادة الحرة في مناظرته مع كبير أساقفة كانتربري روان وليم، ولكنه كان أكثر جرأة في حواره المسرحي مع لورنس كراوس، والذي أبدى فيه أن نظرته المادية للكون تحمله على الميل بأنه ليس ثمة شيء اسمه إرادة حرة، لكنه أكد على أنه لم يُعمل ذهنه كثيرًا في هذه القضية.
 
وبالعموم فدوكنز له عبارة شهيرة موحية في كتابه "نهر خارج من عدن" يقول فيها:

(الشفرة الوراثية لا تكترث ولا تدري، إنها كذلك فقط، ونحن نرقص وفق أنغامها).

فالمحرك للإنسان هي الجينة الأنانية التي تتطلب البقاء، ونحن ليس في وسعنا إلا الرقص وفق إيقاعها وأنغامها.

 

دانيل دينيت والرؤية التوافقية

أما دانيل دينيت، فله كتاب "تطور الحرية" قدم فيه رؤيته حيال هذه القضية، وهي رؤية مخالفة لرؤية هارس المتطرفة في إلغاء مفهوم حرية الإرادة بالكلية، وهي رؤية تم التعارف عليها في المجال الفلسفي بالتوافقية، وهي خيار وسيط بين الإرادة الحرة والجبرية المحضة، تعتقد أن بالإمكان الجمع بينهما دون تعارض، وهي رؤية تؤول في تقييمي إلى نوع من الجبرية الناعمة، أكثر من كونها تقول بإثبات إرادة حرة حقيقية.
 
وبالمناسبة فقد قدم سام هارس نظرة نقدية لها في كتابه "الإرادة الحرة" وعبر بصراحة عن مخالفته الشديدة لدانيل دينيت وفكرة التوافقية.
 

النظرة المادية للوجود

وما من شك أن النظرة المادية المحضة للوجود والحياة يمكن أن تفرز مثل هذا التصور حيال الإرادة الإنسانية، فالكون بكل ما فيه محكوم بقوانين مادية صارمة، والإنسان بعواطفه ومشاعره، وكيانه كله لا يستطيع الخروج عن قبضتها، بل اختياراته وإرادته ليست إلا تفاعل كيميائي محكوم في الدماغ، فلئن توهم أنه صاحب الاختيار فالاختيار مضبوط سلفًا في ضوء ذلك التفاعل.
 
وآثار وتداعيات مثل هذا التصور الجبري للإرادة الإنسانية كثيرة وخطيرة لما ترفعه من إشكالات أخلاقية، وأسئلة حول المسؤولية الفردية، فإذا كان المجرم مجبورًا على ما فعل فما هو المبرر الأخلاقي لمعاقبته، وإذا كان المحسن مجبورًا على إحسانه فما هو المبرر لمكافأته وشكره والثناء عليه. وما هو المبرر للامتعاض من وجود الشرور البشرية والكل عبارة عن روبوتات مبرمجة لتؤدي أعمالا محددة، لا تستطيع الانفكاك عنها.
 
بل ما هو مبرر الملحد في ضوء هذا التصور الجبري للدعوة والتبشير لإلحاده، فالمؤمن مجبور على إيمانه والملحد مجبور على إلحاده، فلما هذه الحماسة للدعوة للإلحاد وليس ثمة إرادة حقيقية يستطيع الإنسان أن يختار من خلالها.
 
والغريب فعلا هذا الحرص الشديد على إلغاء وهم الإله من الوجود، والتبشير بالمضامين الإلحادية هنا، والفتور الدعوي وخفوت الحماسة لإزالة الوهم الآخر -وهم حرية الإرادة البشرية- من حياة الناس وعقولهم.

 


 

المصدر:

  1. عبد الله بن صالح العجيري، ميليشيا الإلحاد، ص 157
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الإلحاد
اقرأ أيضا
توالد المعاصي | مرابط
اقتباسات وقطوف

توالد المعاصي


المعاصي تزرع أمثالها وتولد بعضها بعضا حتى يعز على العبد مفارقتها والخروج منها كما قال بعض السلف: إن من عقوبة السيئة السيئة بعدها وبين يديكم مقتطف من كتاب الجواب الكافي لابن القيم يتحدث عن هذه المسألة بوضوح

بقلم: ابن القيم
956
الاعتراض على ذبح الأنعام | مرابط
أباطيل وشبهات

الاعتراض على ذبح الأنعام


بعض الناس قد تأخذه شفقة مبالغ فيها في ذبح الحيوانات والعلمانيون والملاحدة يجمعون بطبيعتهم الأفكار الشاذة فيروجون لهذه القضية والمقال الذي بين يدينا يقف على هذا الاعتراض ليوضح المغالطات التي ينطوي عليها وما هي الإجابة العلمية على هذه الدعوى

بقلم: د هيثم طلعت
1053
تضخيم الألم | مرابط
اقتباسات وقطوف

تضخيم الألم


هذه العملية عبارة عن حالة شعورية تعتريك عند وقوعك في مشكلة تجعلك تؤمن أن ما حدث لك أكبر من قدرتك على التحمل فتشعر بالعجز والانهيار عند حدوث المشكلة وتصف المشكلة بألفاظ مبالغ فيها لا تساوي حجمها الحقيقي

بقلم: د إسماعيل عرفة
746
اختلاط الجنسين في نظر الإسلام الجزء الثاني | مرابط
فكر مقالات المرأة

اختلاط الجنسين في نظر الإسلام الجزء الثاني


ومعنى غض البصر صرفه عن النظر الذي هو وسيلة الفتنة والوقوع في فساد ومن ذا الذي يجمع الفتيان والفتيات في غرفة وينتظر من هؤلاء وهؤلاء أن يصرفوا أبصارهم عن النظر ولا يتبعوا النظرة بأخواتها وهل يستطيع أحد صادق اللهجة أن يقول: إن أولئك المؤمنين والمؤمنات يحتفظون بأدب غض أبصارهم من حين الالتقاء بين جدران الجامعة إلى أن ينفضوا من حولها والشريعة التي تأمر بغض النظر عن النظر إلى السافرات تنهى أولي الأمر عن تصرف شأنه أن يدفع الفتيان والفتيات إلى عواقب وخيمة

بقلم: محمد الخضر حسين
1810
الموقف من العلوم العقلية | مرابط
فكر مقالات

الموقف من العلوم العقلية


إن الموقف الشرعي من تلك العلوم العقلية -وخاصة علم الفلسفة والكلام- هو الذم والقبيح والتحريم لأنها علوم متضمنة لمناقضة الشريعة أو مخالفة في كثير من موادها إما في الأدلة أو في المسائل. ولأجل هذا فإنه لا يجوز شرعا أن يحكم عليها بمدح مطلق ولا بدعوة مطلقة لدراستها ولا تنشر الكتب المؤلفة فيها ولا تروج موادها بمسالك مطلقة وإنما يوصى بها في حالات مخصوصة تغلب فيها جانب المصلحة على جانب المفسدة

بقلم: د. سلطان العميري
281
شخصية مريم المؤمنة | مرابط
تفريغات

شخصية مريم المؤمنة


مريم المسلمة المؤمنة العابدة القانتة الطائعة لربها التي جعلت لها محرابا تصلي فيه وتعبد ربها ومحراب المرأة أيتها النساء في قعر بيوتهن كلما كان أعمق في البيت كلما كان أفضل تصلي فيه الفرائض والنوافل.. تجلس لتقرأ القرآن وتحاول أن تقوم بهذه العبادات لله عز وجل كما أمرها الله سبحانه وتعالى

بقلم: محمد المنجد
382