الإلحاد وسؤال الإرادة الحرة

الإلحاد وسؤال الإرادة الحرة | مرابط

الكاتب: عبد الله بن صالح العجيري

3032 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

من الملاحظات التي يمكن رصدها في كثير من الكتابات الإلحادية الحديثة أنها تتبنى رؤية جبرية مغالية في تفسير وقوع الأفعال الإنسانية، ففكرة الإرادة الحرة وهم، والإنسان في حقيقته مجبور على أفعاله، وإن أحس أنه مختار لها، أو كما عبر بعض الجبرية في الكتابة التراثية: الإنسان مجبور في صورة مختار.

 

سام هارس والإرادة الحرة

يقول سام هارس في كتيبه المخصص لهذا الموضوع "الإرادة الحرة":

اختياراتي مهمة، وهناك طرق لاتخاذ قرارات أكثر حكمة، لكني لا أستطيع أن أختار ما أريد اختياره، وإذا ظهر أنني قادر على ذلك كالعودة مثلا للوراء لاتخاذ أحد قرارين فإنني لا أختار ما أختار أن أختاره، إنه تسلسل يفضي بنا دوما للظلام.

 

ويكفي لمعرفة موقفه الصريح جدًا من هذه القضية -وهو موقف يلقى ترحابا في أوساط إلحادية متعددة، بل ومن يبدي قدرًا من التوقف في المسألة يراها المنسجمة مع الرؤية المادية للكون- قوله في أول كتابه "الإرادة الحرة": (الإرادة الحرة وهم)، بل يقول (في الحقيقة الإرادة الحرة أكثر من مجرد وهم أو أقل) إذ هي لا تبدو متماسكة نظريًا.
 

مايكل شرمر وعلم الخير والشر

وقد عالج مايكر شرمر أيضًا مسألة الإرادة الحرة في كتابه (علم الخير والشر) في فصل خاص، قال في آخره بعد أن تحدث عن حجم تعقيد المؤثرات والعوامل التي تدفع الإنسان باتجاه اتخاذ قرار ما:

"حجم تعقيدات العوامل والمحددات التي تتسبب في إحداث اختياراتنا، تقودنا إلى الشعور وكأننا نمارس أفعالنا بحرية ككائنات متسببة في أفعالها دون أن تكون مسببة، مع أننا في الحقيقة محددي الأفعال سببًا. وبما أنه ليس بالإمكان تحديد قائمة كاملة بالأسباب التي تحدد الفعل الإنساني، فإن الشعور بالحرية ينشأ بسبب جهلنا بالأسباب، إلى هذا الحد فإنه بإمكاننا أن نعمل وكأن لدينا حرية فعلا".

وهو كلام صريح بأن الحرية مجرد وهم، وأنه حين تصدر أفعالنا نشعر وكأن لدينا حرية فعلا وإن لم نكن أحرارًا فعلا.

 

لورنس كراوس

وفي الجزء الأخير من المناظرة الثلاثية بين لورنس كراوس، ووليم لين كريغ، تم طرح سؤال الإرادة الحرة، فكان تهرب لورنس من تقديم جواب واضح واضحًا تمامًا، وإن تسربت منه وبصعوبة بعض الأفكار المشابهة لما طرحه مايكل شرمر في الاقتباس الماضي، بما يوحي أنه متفق في الحقيقة مع هذه الرؤية الجبرية، مع شعور بقدر من الحرج من التصريح بها.
 

كريستوفر هيشنز

أما كريستوفر هيتشنز فله جواب طريف على السؤال ولكنه معبر عن رؤيته إذ يقول في جواب سؤال: هل لديك إرادة حرة؟ ( ليس لدي اختيار آخر ).
 

دوكنز والإرادة الحرة

وقد عبر دوكنز عن تردده في مسألة الإرادة الحرة في مناظرته مع كبير أساقفة كانتربري روان وليم، ولكنه كان أكثر جرأة في حواره المسرحي مع لورنس كراوس، والذي أبدى فيه أن نظرته المادية للكون تحمله على الميل بأنه ليس ثمة شيء اسمه إرادة حرة، لكنه أكد على أنه لم يُعمل ذهنه كثيرًا في هذه القضية.
 
وبالعموم فدوكنز له عبارة شهيرة موحية في كتابه "نهر خارج من عدن" يقول فيها:

(الشفرة الوراثية لا تكترث ولا تدري، إنها كذلك فقط، ونحن نرقص وفق أنغامها).

فالمحرك للإنسان هي الجينة الأنانية التي تتطلب البقاء، ونحن ليس في وسعنا إلا الرقص وفق إيقاعها وأنغامها.

 

دانيل دينيت والرؤية التوافقية

أما دانيل دينيت، فله كتاب "تطور الحرية" قدم فيه رؤيته حيال هذه القضية، وهي رؤية مخالفة لرؤية هارس المتطرفة في إلغاء مفهوم حرية الإرادة بالكلية، وهي رؤية تم التعارف عليها في المجال الفلسفي بالتوافقية، وهي خيار وسيط بين الإرادة الحرة والجبرية المحضة، تعتقد أن بالإمكان الجمع بينهما دون تعارض، وهي رؤية تؤول في تقييمي إلى نوع من الجبرية الناعمة، أكثر من كونها تقول بإثبات إرادة حرة حقيقية.
 
وبالمناسبة فقد قدم سام هارس نظرة نقدية لها في كتابه "الإرادة الحرة" وعبر بصراحة عن مخالفته الشديدة لدانيل دينيت وفكرة التوافقية.
 

النظرة المادية للوجود

وما من شك أن النظرة المادية المحضة للوجود والحياة يمكن أن تفرز مثل هذا التصور حيال الإرادة الإنسانية، فالكون بكل ما فيه محكوم بقوانين مادية صارمة، والإنسان بعواطفه ومشاعره، وكيانه كله لا يستطيع الخروج عن قبضتها، بل اختياراته وإرادته ليست إلا تفاعل كيميائي محكوم في الدماغ، فلئن توهم أنه صاحب الاختيار فالاختيار مضبوط سلفًا في ضوء ذلك التفاعل.
 
وآثار وتداعيات مثل هذا التصور الجبري للإرادة الإنسانية كثيرة وخطيرة لما ترفعه من إشكالات أخلاقية، وأسئلة حول المسؤولية الفردية، فإذا كان المجرم مجبورًا على ما فعل فما هو المبرر الأخلاقي لمعاقبته، وإذا كان المحسن مجبورًا على إحسانه فما هو المبرر لمكافأته وشكره والثناء عليه. وما هو المبرر للامتعاض من وجود الشرور البشرية والكل عبارة عن روبوتات مبرمجة لتؤدي أعمالا محددة، لا تستطيع الانفكاك عنها.
 
بل ما هو مبرر الملحد في ضوء هذا التصور الجبري للدعوة والتبشير لإلحاده، فالمؤمن مجبور على إيمانه والملحد مجبور على إلحاده، فلما هذه الحماسة للدعوة للإلحاد وليس ثمة إرادة حقيقية يستطيع الإنسان أن يختار من خلالها.
 
والغريب فعلا هذا الحرص الشديد على إلغاء وهم الإله من الوجود، والتبشير بالمضامين الإلحادية هنا، والفتور الدعوي وخفوت الحماسة لإزالة الوهم الآخر -وهم حرية الإرادة البشرية- من حياة الناس وعقولهم.

 


 

المصدر:

  1. عبد الله بن صالح العجيري، ميليشيا الإلحاد، ص 157
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الإلحاد
اقرأ أيضا
الحداثة الداروينية | مرابط
اقتباسات وقطوف

الحداثة الداروينية


والحداثة الداروينية لها أثرها علي نسيج المجتمع وعلي منظوماته الحاكمة ولنذكر بعض الظواهر الاجتماعية السلبية المختلفة: تآكل الأسرة تراجع التواصل بين الناس الأمراض النفسية تزايد الإحساس بالاغتراب والوحدة والغربة ظهور الإنسان ذي البعد الواحد هيمنة النماذج الكمية والبيروقراطية علي الإنسان تزايد العنف والجريمة يعد قطاع السجون هو أسرع القطاعات توسعا في الاقتصاد الأمريكي

بقلم: عبد الوهاب المسيري
471
لماذا نحب الرسول الجزء الثالث | مرابط
تفريغات

لماذا نحب الرسول الجزء الثالث


آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهبت هذه الآثار كانت عندما كان الرسول صلى الله عليه وسلم حيا أو ما بقي منها مع الصحابة بعد موته لكن الآن آثاره صلى الله عليه وسلم فقدت ويصعب نسبتها إليه عليه السلام أي: بعض الناس يقولون: في تركيا هناك شعرة وسيف لكن ليس بمؤكد نسبتها له صلى الله عليه وسلم فلذلك لا يجوز التبرك بشيء منها بعد موته مادمنا غير متأكدين من أنها له عليه الصلاة والسلام

بقلم: محمد المنجد
721
هل يمكن أن نعيد رسم التاريخ الجزء الأول | مرابط
تاريخ فكر مقالات

هل يمكن أن نعيد رسم التاريخ الجزء الأول


في حياة الشعوب كثير من المنعطفات التي غيرت مسار التاريخ صعدت بها إلى الأعلى أو هبطت بها إلى الأسفل والتاريخ -في نهاية الأمر- ليس إلا رجل وموقف وعبر سلسلة من الرجال والمواقف يكتب التاريخ أحداثه لذا فنحن قادرون على رسم التاريخ وأن نورث لأبنائنا تاريخا خيرا من الذي ورثناه عن أجدادنا فلقد ورثنا عنهم من الخبرة مالم يتوفر لهم كما سنورث أبناءنا من الخبرات ما يجعلهم قادرين على أن يورثوا أولادهم تاريخا خيرا مما ورثوه منا كل ذلك شريطة أن يتولى رسم المسار رجال يؤمنون بالتعايش بين بني الإنسان فيتصرفون...

بقلم: راغب السرجاني
1289
مرآة الحياة الجاهلية يجب أن تلتمس في القرآن ج3 | مرابط
مناقشات

مرآة الحياة الجاهلية يجب أن تلتمس في القرآن ج3


تعتبر مقالات محمد الخضر حسين من أهم ما قدم في الرد على كتاب طه حسين في الشعر الجاهلي وهذه المقالات تفند جميع مزاعمه وترد عليها وتبين الخطأ أو ربما الأخطاء والمغالطات التي انطوت عليها نظريته التي قدمها فيما يخص الشعر الجاهلي وكيف أن هذه الأخطاء تفضي إلى ما بعدها وبين يديكم أحد أهم مقالاته في الرد على كتاب طه حسين حول موضوع الحياة الجاهلية وهل نلتمس ملامحها من القرآن أم من الشعر

بقلم: محمد الخضر حسين
724
مغالطة الإحراج الزائف | مرابط
تعزيز اليقين

مغالطة الإحراج الزائف


سألت مرة عددا من الطلاب الرائعين الذين أسعد بتدريسهم في الجامعة سؤالا وأردت أن يحددوا الجواب الصحيح: لأننا لا نرى بأعيننا نعيم القبر ولا عذابه فعندنا شخص يقول: أنا لا أؤمن بهذا لأنه يخالف العقل ونجد في مقابله شخصا آخر يقول: أنا أؤمن به ولو خالف العقل فأنت مع أي الرأيين في هذا؟.. فكانت الإجابة: نؤمن به ولو خالف العقل!

بقلم: د. فهد بن صالح العجلان
378
مصير الديانات أمام التقدم العلمي الجزء الأول | مرابط
فكر مقالات

مصير الديانات أمام التقدم العلمي الجزء الأول


بعدما وصلت الموجة العلمية كل العالم تقريبا والتحديثات قد طالت كل شيء في الحياة ظهرت بعض الأدعياء يقولون أن هذا العالم الجديد لا مكان للدين فيه بل ظهرت نظرية جديدة في الطرف المقابل مضمونها أن الأديان وإن كانت عريقة في القدم لكن تقدمها الزماني لا يكسبها صفة الثبات والخلود بل هو بالعكس يطبعها بطابع الشيخوخة والهرم وينذر بأن مصيرها إلى الاضمحلال والفناء وفي هذا المقال بجزئيه رد على هذه النظرية وتلك الأباطيل

بقلم: محمد عبد الله دراز
1932