في بداية الحديث عن الموقف من العلوم العقلية لا بد من التنبيه على أن مصطلح العلوم العقلية يُطلق في العرف على علوم مخصوصة، لها مسالك معروفة في دراسة الأمور العامة المتعلقة بالوجود والماهيات ونحوها، والمتعلقة بالعقائد والمعرفة.
فيدخل في العلوم العقلية في المعنى العرفي علم الفلسفة وعلم الكلام وعلم المنطق، ونحوها من العلوم.
وما تتضمنه هذه العلوم متنوع في حكمه ونوعه، وأصول ما يذكر فيها يرجع إلى أمور:
الأمر الأول: مواد مناقضة لأصول الشريعة، وتُعدُّ كفرًا مُخرجًا من الملة.
الأمر الثاني: مواد مخالفة للشريعة؛ إمَّا في الأدلة أو في المسائل، وتُعدُّ بدعةً وانحرافًا عن نهجها المستقيم.
الأمر الثالث: مواد لا تعلق لها مباشر بالشريعة، ولكنها خاطئة في نفسها؛ إما بدلالة العقل أو الحس أو غيره.
الأمر الرابع: مواد صحيحة في نفسها، ولكن فيها تطويل وتعب وقلة في الإفادة.
الأمر الخامس: أمور صحيحة صالحة للانتفاع والاعتبار.
والمواد الثلاث الأول كثيرة في علم الفلسفة والكلام، والمادة الرابعة والخامسة ظاهرة في علم المنطق.
وبناء على هذا فإن الموقف الشرعي من تلك العلوم العقلية -وخاصة علم الفلسفة والكلام- هو الذم والقبيح والتحريم؛ لأنها علوم متضمنة لمناقضة الشريعة أو مخالفة في كثير من موادها؛ إمَّا في الأدلة أو في المسائل.
ولأجل هذا؛ فإنه لا يجوز شرعًا أن يُحكم عليها بمدح مطلق، ولا بدعوة مطلقة لدراستها، ولا تُنشر الكتب المؤلفة فيها ولا تُروّج موادها بمسالك مطلقة، وإنما يوصى بها في حالات مخصوصة تغلب فيها جانب المصلحة على جانب المفسدة، كجانب النقد أو لطلاب العلم المتخصصين لمعرفة ما فيها من انحراف أو معرفة أثرها على مقتضيات النصوص الشرعية.
وهذا التقرير ليس فيه دعوة إلى الإعراض عن المجالات التي تدرسها تلك العلوم العقلية المبنية على أصول مخصوصة، فإن كثيرا من المجالات التي تتناولها تلك العلوم يمكن إقامتها على الأصول الشرعية والعقلية الصحيحة، ويظهر ذلك جليا فيما قرره ابن تيمية في الأمور العامة وفي قضايا المعرفة والاستدلال وفي قضايا الإلهيات والعقدية.
وقد كتبت قبل سنوات مقالا في الدعوة إلى الاهتمام بهذا الأمر، وهو بعنوان (المخزون الفلسفي في الإسلام وضرورة التنقيب (اضغط هنا).
وحاصل ما سبق أننا نفرق بين أمرين:
الأمر الأول: الموقف من العلوم العقلية المعهودة، فهذه يتعلق بها الذم من جهات عديدة.
الأمر الثاني: الموقف من دراسة المجالات التي تتناولها تلك العلوم العقلية، فكثير من تلك المجالات مفيدة، ويمكن إقامته على أصول شرعية وعقلية صحيحة.
وبهذا التفريق يظهر بجلاء أن البحث إنما هو فيما يسمى العلوم العقلية، وليس فيما تتناوله تلك العلوم من مجالات.
والكلام في هذا الموضوع وخاصة فيما يتعلق بأنواع المواد المتعلقة بتلك العلوم وتقويم ما ينسب إليها نفع يستدعي تفصيلا مطولا، وإنما القصد الآن البيان المختصر.