بين المحكم والمتشابه في القرآن الكريم

بين المحكم والمتشابه في القرآن الكريم | مرابط

الكاتب: عبد العزيز الطريفي

351 مشاهدة

تم النشر منذ سنة

وإحكام القرآن أصل، والتشابه عارض، عند كل عربي يفهم لغة الغرب التي أنزل عليها القرآن، وليست العربية المتأخرة التي دخلتها العجمة؛ فغيرت اللسان وبدّلته، فتسمّى عربية في مقابل العجمية، لا بالنسبة لفصاحتها وبيانها، وما زال اللسان العربي يضعف عند العامة والخاصة حتى استعجم كثير من القرآن على كثير من العرب.

والمحكم ضد المتشابه، وهو ما لا يحتمل في الشريعة إلا قولا ووجهًا سائغًا واحدًا، وعرّف أحمد المحكم: بأنه الذي ليس فيه اختلاف ومراده: ما استقلّ بالبيان بنفسه، فلم يحتج لغيره؛ فقد روى ابن أبي حاتم، وابن المنذر، والطبري، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس؛ قال: محكمات الكتاب: ناسخُه، وحلاله وحرامه، وحدوده وفرائضه، وما يؤمَن به ويُعمل به
وبنحو هذا قال عكرمه ومجاهد وقتادة وغيرهم.

والمتاشبه: ما تردد معناه بين معنيين أو أكثر بوجه سائغ.
روى ابن المنذر وغيره، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: المتشابهات: منسوخُه، ومقدمه ومؤخره، وأمثاله وأقسامه، وما يؤمَن به ولا يُعمل به

ما لا يُنتسخ من الوحي:

ويدخل النسخ الأحكام، ولا يدخل من الوحي المنزّل ثلاثة:

أولا: العقائد؛ لأنها إخبار عن الخالق وحقه، وهي سبب الإيجاد "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" يعني: يوحدوني ويطيعوني، ونسخها نسخ للحكمة الأولى من الخلق وإبطال لها؛ ولهذا تختلف شرائع الأنبياء، وتتفق عقائدهم وأصول عباداتهم لله، قال صلى الله عليه وسلم "والأنبياء إخوة لعلات؛ أمهاتهم شتى ودينهم واحد"، رواه البخاري..،

ثانيا: الآداب والأخلاق؛ لأن الإنسان فطر عليها، وهي صلته مع جنسه ونسخها تبديل لفطرة وإفساد لصلة الخلق؛ كالصدق والأمانة والوفاء بالعهد وإكرام الضيف والعفاف. فنسخ العقائد إفساد لصلة المخلوق بالخالق، ونسخ الأخلاق والآداب إفساد لصلة الخلق فيما بينهم.

ثالثًا: الأخبار؛ لأن نسخها تكذيب للمُخبِر؛ لذا كل ما يُخبِر به نبي من أنبياء الله، فلا بد أن يقع لا يُنسخ، والنبي يخبر عن ربه، ونسخ الأخبار تكذيب له سبحانه.
ويدخل في الأخبار أحوال السابقين واللاحقين؛ من أشراط الساعة وأحوال الخلق بعد موتهم من حياة البرزخ والبعث والنشور وأخبار الغيب؛ كالأرواح والجن والملائكة، وعمار السماء، وصفة السماوات وسمكها وغير ذلك..،

معنى المحكم والمتشابه في القرآن

وللإحكام والتشابه في القرآن معان متغايرة من بعض الوجوه؛ فقد وصف الله القرآن كله بالإحكام، ووصفه كله بالمتشابه، وقسمه إلى محكم ومتشابه كما في آية آل عمران هذه، فلما وصف الله كتابه كله بالإحكام قال "كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ" ولما وصفه كله بالمتشابه قال "اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ" والتشابه في هذه الآية هو في معنى الإحكام؛ لأن المراد بالمتشابه هنا هو مشابهة أحكام القرآن بعضها بعضا، فلا يناقض موضع موضعًا آخر، وهذا نفي للتعارض والتناقض والاختلاف فيه الحاصل في قول البشر "أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا"

فقوله "كِتَابًا مُّتَشَابِهًا" أي يشبه بعضه بعضًا، ويصدق بعضه بعضًا، ويدل بعضه على بعض؛ قاله سعيد بن جبير وقتادة والسدي وغيره.

وأما في الآيات فقد تكون متشابهة بعينها، وإذا انضمت إلى بقية الآيات في بابها أحكمت وبينت وزال تشابهها؛ لأن القرآن يشبه بعضه بعضا فلا يتناقض وهذا المراد في قوله "كِتَابًا مُّتَشَابِهًا"

أنواع المحكم والمتشابه:

وهذا هو الإحكام العام للقرآن، وهو المراد في قوله "كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ" يعني: أن آيات الكتاب أحكمت جميعا؛ فما لم يُحكم بنفسه منفردا، أحكم بآيات أخرى من الكتاب تزيل لبسه وما تشابه منه في عقل القارئ وظنّه؛ ولذا كان إحكام القرآن على نوعين:
إحكام عام في القرآن كله
وإحكام خاص في آيات معينة

والتشابه على نوعين:
تشابه عام في القرآن كله؛ يشبه بعضه بعضا، ويؤكد بعضه بعضا، ولا يوجد منه ما يناقض الآخر.
وتشابه خاص في آيات معينة

والتشابه العام من معاني الإحكام العام، والإحكام الخاص جزء من الإحكام العام.
والمتشابه الخاص يخالف المحكم الخاص، والمخالفة يُقضى بها للمحكم، وقد تكون كاملة بالنسخ التام أو مخالفة لبعضه بتقييده وتخصيصه.

ولا يترك إحكام القرآن إلا من في قلبه مرض سابق؛ ليأخذ بغيته ليمرّها على الناس، فيستر هواه بحجة من القرآن، فالهوى سابق في قلبه لم يوجده القرآن؛ ولذا قال تعالى "فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ"، ومن في قلوبهم زيغ هم المنافقون؛ فالمرض في قلوبهم مستقر قبل نظرهم في القرآن، فتعلقت بهم الشبهات، وأما القرآن فشفاء للمؤمنين "قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ" وزيادة غي للمنافقين "وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَىٰ رِجْسِهِمْ" لأن المؤمن يطلب المحكم فيشفيه، والمنافق يطلب المتشابه فيمرضه؛ قال الله عن المؤمنين "وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ ۖ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ ۙ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ" وقال عن المنافقين "فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ"

وأمراض القلوب بالشبهات تعدي كأمراض الأبدان بالعلل، فيجب الحذر من مجالسة أصحابها؛ ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ" إلى قوله "وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ" قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمى الله؛ فاحذرهم.

وقد جعل الله علم المتشابه عند الراسخين لا مجرد العالمين؛ فليس كل عالم راسخا، وإن كان كل راسخ عالما، والعالم الراسخ الذي يعلم المحكم والمتشابه؛ فيقصد بطلبها منه، والعالم غير الراسخ الذي يعلم المحكم لا المتشابه، فيُقصد في المحكمات دون المتشابهات؛ قال تعالى "وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا" فيرجع في فصل المتشابه إلى أهل الرسوخ في العلم، لا إلى مجرد وصف العلم.

وفي قوله تعالى "كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا" إشارة إلى أن القرآن لا يتناقض في الحقيقة، وربما يتناقض في الأذهان القاصرة، فيؤمنون بجميع القرآن، ويفصلون في متشابهه بمحكمه.

الحكمة من وجود المتشابه في القرآن

ووجود المتشابه في القرآن لا يناقي الحكمة من إنزاله، وهو الهداية والنور والبينة وإقامة الحجة على الخلق؛ فالله جعل في أصل الحكمة من الخلق ابتلاء الناس واختبارهم، والابتلاء على نوعين:
أولا: ابتلاء الأبدان بالآلام والأسقام، والجروح والقتل، وغيرها.
ثانيًا: ابتلاء الأذهان -وهي العقول والقلوب- بشهواتها ونزواتها وأطماعها.

وجعل لكل ابتلاء أسبابا تمكن له، ومن هذا ابتلاء الله للعقول بالمتشابهات ومدى ثبات النفوس وميلها مع وضوح المحكمات البينات؛ ليختبر الله الصادق من المنافق.


المصدر:
عبد العزيز الطريفي، التفسير والبيان لأحكام القرآن ص573

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الطريفي #النسخ #المحكم #المتشابه
اقرأ أيضا
قل ولا تقل: قاعدة الاستبدال | مرابط
لسانيات

قل ولا تقل: قاعدة الاستبدال


على الرغم من شيوع هذه القاعدة ومعرفة معظم المشتغلين والناطقين بالعربية بها فإن الخطأ فيها شائع جدا على مستوى الممارسة. والقاعدة هنا تقول إن باء الجر تدخل على المتروك لا على المأخوذ عند استخدام فعل التبديل بدل أو أي فعل من نفس مادته استبدل تبدل أبدل.. أو أي من مشتقات هذه الأفعال.

بقلم: محمود عبد الرازق جمعة
1044
فتنة النساء.. إصدار خاص | مرابط
المرأة

فتنة النساء.. إصدار خاص


بدأت أؤمن أن فتنة النساء بالنسبة للرجال ليست مقتصرة أبدا على الانجذاب الفطري لها بشكل محرم إذا لم تكن زوجة أو بشكل يؤدي إلى محرم إذا كانت زوجته ولكن يؤدي التعلق بها إلى حرام آخر في اكتساب المال أو عقوق الوالدين وغير ذلك.

بقلم: معتز عبد الرحمن
407
دلالة المخلوقات على الخالق | مرابط
تعزيز اليقين

دلالة المخلوقات على الخالق


إن كل شيء يدل على وجود الله تعالى إذ ما من شيء إلا وهو أثر من آثار قدرته سبحانه وما ثم إلا خالق ومخلوق والمخلوق يدل على خالقه فطرة وبداهة إذ ما من أثر إلا وله مؤثر كما اشتهر في قول الأعرابي الذي سئل: كيف عرفت ربك؟ فقال -بفطرته السليمة: البعرة تدل على البعير والأثر يدل على المسير أفسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج وجبال وبحار وأنهار أفلا تدل على السميع البصير؟

بقلم: سعود العريفي
381
قطاع طريق النصيحة | مرابط
فكر مقالات

قطاع طريق النصيحة


كما أنه لطرق الناس وأموالهم قطاع فللنصيحة قطاع طريق يعترضون طريقها ويمنعون خيرها وهم العقبة الكبرى في تخلف المصالح أن تتم أو تثبت وكثير من الناس إنما يقلع عن زلته حياء ألا يجد موافقا إن أقام عليها مع حبه لها وتمنيه العودة إليها فإن وجد من يفسد على الناصح نصحه فهذه نعمة النفس التي جاءت بلا مقدار

بقلم: عبد العزيز الطريفي
2487
قصور العقول عن إدراك مسألة القدر | مرابط
مقالات

قصور العقول عن إدراك مسألة القدر


وقصور عقول البشر سبب لإنكار كثير مما لا تدركه من أحكام الله وأداره فالله خلق عقل الإنسان وجعله كالوعاء يحوي به وجعل الأوعية مختلفة لم يجعل للأوعية طاقة باستيعاب كل شيء فإن منها ما لا يصلح لها ومنها ما يمكن أن يحتوي منه بقدر وما زاد فاض. وأصل الضلال: اغترار الإنسان بعقله وطلبه أن يحوي كل شيء به وبعض المعلومات بالنسبة للعقل كالمحيطات بالنسبة للأواني لو سكبت عليه طوته وضاع فيها وتحير.

بقلم: عبد العزيز الطريفي
302
فضل اللغة العربية | مرابط
تفريغات لسانيات

فضل اللغة العربية


ولما دخل الإسلام جزيرة العرب ألبس اللغة الثوب الجديد ثم بعد ذلك فتح الله الأمصار على يد المهاجرين والأنصار الذين رفعهم الله بتمسكهم بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم فحدث الجهاد مع الأعاجم ثم حصل السبي للعبيد والإماء فلما دخل الأعاجم بلاد الإسلام أصبحت اللغة العربية يحدث فيها الغلط واللحن فلما ظهر اللحن ابتدأ جهابذة اللغة والسنة والكتاب وقالوا: لا بد من حفظ كتاب ربنا وسنة نبينا ولا يكون ذلك إلا بالضوابط والقواعد النحوية

بقلم: محمد حسن عبد الغفار
505