وقصور عقول البشر سبب لإنكار كثير مما لا تدركه من أحكام الله وأٌداره؛ فالله خلق عقل الإنسان، وجعله كالوعاء، يحوي به، وجعل الأوعية مختلفة، لم يجعل للأوعية طاقة باستيعاب كل شيء، فإن منها ما لا يصلح لها، ومنها ما يمكن أن يحتوي منه بقدر، وما زاد فاض.
وأصل الضلال: اغترار الإنسان بعقله، وطلبه أن يحوي كل شيء به، وبعض المعلومات بالنسبة للعقل كالمحيطات بالنسبة للأواني، لو سكبت عليه، طوته وضاع فيها وتحيّر.
ومما يدخل في ذلك: مسألة القدر، وهي مسألة لا يقدر العقل على الإحاطة بها، حتى لو عرضت عليه من أولها إلى آخرها حكمةً وعلةً، حتى يجعل الله له عقلا يختلف عن عقله الذي هو عليه؛ فكما أنه لا يمكنه عد الرمل والنجوم بالحساب، ولا تأمّل شمس الظهيرة بالبصر، ولا تحسس النار بالجسد، وكذلك لا يحيط بمسألة القدر بالعقل والفكر، وقد جاء عن جعفر بن محمد، وأبي حنيفة: أن الناظر في القدر كالناظر في عين الشمس؛ كلما ازداد نظرا ازداد تحيرًا
ومن دخل فيه ولو أطال التأمل والتفكر، فلن يصل إلى شيء لم يرده الله؛ لأن الله أخفاه، ولا مجال للوصول إلى شيء من ذلك إلا بالقدر الذي يأذن الله فيه؛ وقال تعالى "لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ" فالواجب معه التسليم والانقياد.
ومن الإيمان بالله وتعظيمه: التسليم لما أخفاه، وعدم البحث عنه؛ فإنه لا يبحث إلا عما يمكن الوقوف عليه، والله أخبر عن عدم إمكان ذلك؛ فالتوقف إيمان وتسليم بخبره، والبحث والتنقيب شك أو تكذيب به
وفي ذلك يقول ابن عمر: شيء أراد الله عز وجل ألا يطلعكم عليه؛ فلا تريدوا من الله ما أبى عليكم
ولذا كان غير واحد من الصحابة والتابعين يسمى القدر "سر الله"، كما روي عن علي بن أبي طالب؛ قال: سر الله فلا تَكَلّفه.. ونحوه جاء عن طاوس ويحيى بن معاذ وروي مرفوعا ولا يصح؛ من حديث ابن عمر وأنس وعائشة وهكذا سماه غير واحد من الأئمة كالآجري، وابن عبد البر وغيرهما.
وكثير ممن يعجز عقله عن تأمل المسائل، ويتحيّر عن فهمها لا يبيئ الظن بعقله، وإنما يتهم المسألة بعدم انضباطها فيجحدها، أو يخرج بنتيجة خاطئة ليخرج من ضعف العقل واتهامه إلى الاغترار به.
وأما أهل الإيمان ورجاحة العقل، فيعرفون نقص العقل وكمال النقل؛ فيتوقفون عند ما ثبت به النص، وعجز عنه العقل، ويسلمون إيمانا بربهم وتسليما له.
والتسليم والتوقف هو أمر الله لعباده في المسائل التي لا يدركونها، ولا يمكنهم الإحاطة بها؛ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (يأتي الشيطان أحدكم، فيقول: من خلق كذا وكذا؟ حتى يقول من خلق ربك؟ فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله ولينتهِ) وفي رواية (فليقل: آمنت بالله ورسوله فإن ذلك يذهب عنه)
وفي الحديث أن رسول الله لم يمنعه من بحث خلق المخلوقات، ولكن منعه من بحث خلق الرب سبحانه؛ وذلك لأن المخلوقات تتشابه، وفالإيمان بخلق شيء يقويه خلق غيره من الكون، فلكل مخلوق مثال يشابهه أو يقارنه
ولكن لما كان الرب هو الخالق؛ ولا خالق سواه، فلا خالق له؛ ولهذا فقد أمره بالاستعاذة من الشيطان، وبالانتهاء عن مجرد التفكير في ذلك؛ لأن غاية العقل والإيمان بالأقيسة العقلية فقط، والله لا مثال له، ولا يشابهه شيء، ولا يتمكن العقل من إيجاد نتيجة متدرجة منتظمة لمن لا مثال له؛ لأن عقله سيتحير، وواجبه التوقف والتسليم والإيمان بالله.
المصدر:
عبد العزيز الطريفي، الخراسانية في شرح عقيدة الرازيين