قواعد السلف في مؤلفاتهم

قواعد السلف في مؤلفاتهم | مرابط

الكاتب: محمود شاكر

276 مشاهدة

تم النشر منذ سنة

أحبُّ أن يعلم من لم يكن يعلم، أن أسلافنا -رضي الله عنهم- وغفر لهم، منذ ألفوا كتبهم، وضعوا لها قواعد يعرفها أهل هذا العلم، ويجهلها من جنح عن أصولهم وعمى عليه طريقهم. فهم منذ بدأوا يكتبون أسسوا كتبهم على إسناد الأخبار إلى رواتها، وبَرئِوا من عهدة الرواية بهذا الإسناد، ولم يبالوا بعد ذلك أن يكون الخبرُ صحيحًا أو ضعيفًا أو زائدًا أو ناقصًا أو موضوعا مكذوبا؛ لأنهم كانو يعلمون حال الرُّواة ومنازلهم من الصدق والكذب، ومن الورَع والاستخفاف، ومن الأمانة والهوى.

وكأنهم أرادوا بهذا أن يجعلوا كتبهم في التاريخ وغير التاريخ سجلا لما قد قيل في زَمانهم وما قبل زمانهم، وما كان يقوله قومٌ، وما كان يقوله آخرون، مهما تعارض القولان أو اختلفا أو تناقضا. وتركوا للعلماء تمييز الحق من الباطل، والصدق من الكذب، على أساسهم المشهور، وهو معرفة الرجال الذين رووا هذه الأخبار أو تكذّبوها.

هذا الطبري مثلا (توفي سنة ٣١٠) يقول في فاتحة كتابه في التاريخ: "فما يكن في كتابى هذا من خبر ذكرناهُ عن بعض الماضين، مما يستنكره قارئه، أو يستشنعه سامعه، من أجل أنه لم يعرف له وجها صحيحًا، ولا معنى في الحقيقة، فليعلم أنه لم يُؤت في ذلك من قِبَلنا، وإنما أتى من بعض ناقليه إلينا، وإنما أدينا ذلك على نحو ما أدَّى إلينا".

ومن عرف كتابه وكتب القوم، علم يقينًا صدق ما يقول، فإنه يأتي بالخبر لا يصحُّ أبدًا، وبالخبر الصحيح الذي لا شك فيه، ولا يعرض لهما. بتصديق أو تكذيب، ثم تراه في موضع آخر قد احتاج إلى البيان عن حال هذين الخبرين، فعندئذ يميز لك ما هو صحيح عنده وما هو باطلٌ من هذين الخبرين. فهو كما قال، إنما يؤدّى إلى الناس ما أدَّى إليه. وكان الناسُ على عهدهم أهل دين وتقوى، لا يستحل امرؤ منهم -إلا من ضلَّ- أن يحتج في دين الله، ولا في تاريخ الناس والحكم عليهم، بخبر لا يدري أصدق قائله فيما روى أم كذب.

ثم جاء من بعدهم قوم خلطوا عامة الأخبار بلا إسناد إلى رواتها، فاجتمع الغث والسمين والصحيح والسقيم، والصادق والمكذوب. ولكن لم يزل دين الناس يعصمهم من شر هذا الخلط المضل، فأمسكوا ألسنتهم عن الخوض في المطاعن والمثالب بلا بينة ولا حجة. فلما جاء زماننا هذا، بَشِع الأمر وقبُح. فإن الناس قد هجروا أدب دينهم، ومروءة أسلافهم، وعلم كتبهم، واقتحموا بالجهالة على الظنون المردية، واستخفهم الهوى حتى أخذوا الباطل وعارضوا به الحق بلا تمحيص ولا رواية ولا فهم.

وشابهوا زمن هذه الحضارة الغالبة عليهم؛ فاجترؤا وتهوروا واستغلظوا معاني وألفاظًا يتقاذفونها في ألسنتهم وكتُبهم، وقد نفى الشيطان من قلوبهم كلّ معاني الوَرَع ومخافة العذاب يوم القيامة، حتى قذفوا بالغيب من مكانٍ بعيدٍ، واجترأوا على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأوهامهم وأهوائهم فأفحشوا القالة فيهم وفيمن تبعهمِ، بلا معرفة ولا تخوّفٍ، وربّ العالمين ينذرهم فيما يتلون من كتابه: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [سورة الأحزاب: ٥٨].

أفتراهم يحسبون أنَّ الله حرّم عليهم أعراض عبادِه الأحياءِ، وأباحَ لهم أعراض عباده الموتَى، بعد أن أفضوا إلى ربهم بأعمالهم وغيبهم وما قدَّموا من حسنات وسيئات؟! ألا فليعلموا أن الميت أولى بأن تكفَّ عنه ألسنة المفترين مِنَ الحيّ، فإنه لا يدفع عن نفسه، وليتقوا عذاب ربهم، فإنّ الذي لا يملك أن يدفع عن نفسه، يدفع عنه ربُّ العالمين الذي أحصى كل شيء خلَقه ثم يحكم بينهم بالعدل وهو العليم القدير.


المصدر:
جمهرة مقالات محمود شاكر

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#جمهرة-المقالات #محمود-شاكر
اقرأ أيضا
نشأة علم النحو وأهميته | مرابط
إنفوجرافيك لسانيات

نشأة علم النحو وأهميته


يأتي علم النحو على رأس علوم اللغة العربية فهو مفتاح كل شيء تقريبا ولن تستطيع أن تفهم المراد من العبارات والجمل إلا إذا كنت مدركا لأساسيات النحو العربي على الأقل فتغيير التشكيل وأواخر الكلمات قد يغير المعنى تماما أو يحرف المراد منه وبين يديكم تبسيط لنشأة النحو وأهميته من كلام العلماء

بقلم: أكاديمية زاد
724
من علامات الساعة: ضياع أمانة الدين ج1 | مرابط
تفريغات

من علامات الساعة: ضياع أمانة الدين ج1


إن الأمانة اسم عام لكل تكليف كلفناه ربنا تبارك وتعالى أو الرسول عليه الصلاة والسلام كما في قول الله عز وجل:إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولاالأحزاب:72 فالأمانة هي كلمة: لا إله إلا الله بتكاليفها هذه هي التي أشفقت السماوات والأرض والجبال عن حملها ومن علامات الساعة ضياع الأمانة وبين يديكم تفريغ لجزء من محاضرة للشيخ أبو إسحق الحويني يتحدث فيه عن ضياع الأمانة في زمننا

بقلم: أبو إسحق الحويني
724
مع القلوب الصخرية | مرابط
مقالات

مع القلوب الصخرية


يا أخي والله لقد قرأت كثيرا كثيرا في كتب الرقائق والإيمانيات والمواعظ وجربت كثيرا من الوسائل التي ذكروها وأصدقك القول أنني رأيتها محدودة الجدوى لا أنكر أن فيها فائدة لكن ليست الفائدة الفعلية التي كنت أتوقعها ووجدت العلاج الحقيقي الفعال الناجع المذهل في دواء واحد فقط دواء واحد لا غير وكلما استعملته رأيت الشفاء في نفسي وكلما ابتعدت عنه عادت لي أسقامي هذا العلاج هو بكل اختصار تدبر القرآن.

بقلم: إبراهيم السكران
328
لا يقبله العقل | مرابط
أباطيل وشبهات مقالات

لا يقبله العقل


تعد معارضة نصوص الوحي بالعقل واحدة من أعظم أبواب الانحراف وأحد مسببات الضلال الكبرى فإذا ما أورد نص شرعي على بعض الناس ولم يستوعبه عقله بادر قائلا: هذا الكلام لا يقبله العقل قاصدا رد دلالة ذلك النص والطعن فيه وفي المقال رد على هذه الشبهة وتفصيل لأصلها بأسلوب علمي دقيق

بقلم: عبد الله بن صالح العجيري وفهد بن صالح العجلان
2496
أحاديث المقاهي وإهدار الطاقات | مرابط
اقتباسات وقطوف

أحاديث المقاهي وإهدار الطاقات


مقتطف رائع لمالك بن نبي من كتاب شروط النهضة يرصد فيه حالة متكررة نراها دائما في مجتمعاتنا العربية ألا وهي الخطب الرنانة التي تلقى على المقاهي كثيرا ما نسمع هناك عبارات نطالب بحقوقنا يجب أن يتغير الواقع ويكون كذا وكذا كلها خطب ومقالات وأحاديث وجدالات رنانة ولكنها لا تفضي إلى أي شيء

بقلم: مالك بن نبي
2258
حجاب المرأة ولباسها في الإسلام | مرابط
فكر مقالات المرأة

حجاب المرأة ولباسها في الإسلام


لا يختلف العلماء في جميع المذاهب: أن المرأة يجب عليها ألا تلبس لباسا ملتصقا يصف جسمها ولا أن تلبس شفافا يبدي لون أو هيئة ما يجب عليها ستره من بدنها وهن المقصودات بقوله صلى الله عليه وسلم في أحد الصنفين من أهل النار: نساء كاسيات عاريات يعني: لا هي كاسية ولا هي عارية لشفوف لباسها ووصفه وفي المسند عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: كساني رسول الله صلى الله عليه وسلم قبطية كثيفة مما أهداها له دحية الكلبي فكسوتها امرأتي فقال: ما لك لم تلبس القبطية

بقلم: عبد العزيز الطريفي
811