من مناظرات الإمام الشافعي

من مناظرات الإمام الشافعي | مرابط

الكاتب: محمد المنجد

1088 مشاهدة

تم النشر منذ سنة

وبالنسبة للأخلاق: فإن الشافعي رحمه الله كانت أخلاقه عالية جدًا، وقال عنه ولده: ما سمعت أبي يناظر أحدًا قط فيرفع صوته، وكان من خلقه أنه يحب أن تكون الغلبة لخصمه، وكان يقول: "ما عرضت الحجة على أحد فقبلها إلا عظم في عيني، ولا عرضتها على أحد فردها إلا سقط من عيني".

ويقول: "ما ناظرت أحدًا قط على الغلبة -ما دخلت في مناظرة مع أحد لكي أتغلب عليه- وإنما لكي يتبين الحق". وكان يقول: "ما ناظرت أحدًا فأحببت أن يخطئ". وهذه مرتبة لا يصل إليها الإنسان بالسهولة مطلقًا. وقال: "ما ناظرت أحدًا قط إلا على النصيحة".

كثير من الشباب -الآن- الذين يدخلون في نقاشات فقهية، يكون قصد الواحد منهم أن يتغلب على الآخر، وأن يظهر خطأ الآخر، وأن يظهر صوابه وفضله، فأين هؤلاء من أخلاق الشافعي رحمه الله؟

يجب علينا أننا إذا دخلنا في مناقشات علمية أن يكون قصد الواحد منا ظهور الحق، ولا فرق أن يكون ظهر الحق منه أو من الآخر، هذا ما ينبغي أن تكون عليه أخلاق طلبة العلم، يقولالشافعي رحمه الله: "ما ناظرت أحدًا قط إلا أحببت أن يوفق ويسدد، وما ناظرت أحدًا إلا ولم أبالِ بيَّن الله الحق على لساني أو لسانه.

مناظرة حول الدعاء في الصلاة

كان الشافعي رحمه الله كان له مناظرات، فكان من مناظراته لمن كان يمنع الدعاء بشيء من خارج القرآن في الصلاة، كان بعض أهل العلم يرون أن الدعاء في الصلاة لابد أن يكون من القرآن: "رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ" [البقرة:201] وأنك إذا دعوت بشيء من خارج القرآن لا يجوز لك ذلك، فناظر الشافعي واحدًا من هؤلاء، وقال له: ماذا تقول في الصلاة بغير ما في القرآن؟ قال: تفسد صلاته، وإن دعا بما في القرآن لا تفسد.

قال: فقلت له: أرأيت إن قال: أطعمنا بقلًا وقثاءً وفومًا وعدسًا وبصلًا، ما هو الحكم؟ قال: تفسد صلاته، قال: أنت تقول بفسادها، وأنت تقول: يجوز أن تدعو بما في القرآن، قال الآخر: فماذا تقول أنت؟

قال الشافعي: ما يجوز أن يدعو به المرء في غير الصلاة جاز أن يدعو به في الصلاة؛ لأن المخاطب في ذلك ليست إلى الآدميين- المصلي إذا دعا لا يتكلم مع الآدميين وإنما يدعو ربه- وإنما الخبر أنه لا يصلح في الصلاة شيء من كلام الناس، هذا الذي يفسدها؛ أن يكلم الناس بعضهم بعضًا، وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم لقوم وسماهم بأسمائهم.

النبي صلى الله عليه وسلم قنت ودعا على أناس وسماهم بأسمائهم، وعلى عصية ورعل وذكوان، ودعا وقال: اللهم أنجي الوليد بن الوليد وغيره ممن دعا لهم النبي صلى الله عليه وسلم، فسماهم بأسمائهم، ونسبهم إلى قبائلهم.

وهذا كله يدل على أن المحرم من الكلام إنما هو كلام الناس بعضهم بعضًا في حوائجهم، فأما ما دعا به المرء ربه تبارك وتعالى وسأله إياه، فهذا لا أعلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من اختلف فيه.

والصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (وأما السجود فاجتهدوا فيه من الدعاء، فإنه قمن- أي: حري- أن يستجاب لكم) ولم يخص النبي صلى الله عليه وسلم دعاء دون دعاء، وكلما كان يجوز أن يسأل الرجل ربه في غير الصلاة، فهو جائز في الصلاة.

مناظرة الشافعي مع الرشيد

وكذلك من الأشياء التي حصلت له رحمه الله تعالى، لما دخل هو ورجل آخر على الرشيد ، فلما استويا بين يديه، قال: يا أبا عبد الله ! تسأل أو أسأل؟ قال: قلت: ذاك إليك، قال: فأخبرني عن صلاة الخوف أواجبة هي؟ قلت: نعم. قال ولم؟ فقلت: لقول الله عز وجل: "وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ" [النساء:102] فلتقم: هذا فعل أمر، فدل على أنها واجبة.

قال: وما تنكر من قائل قال لك: إنما أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم وهو فيهم، فلما زال عنهم النبي صلى الله عليه وسلم زالت تلك الصلاة: “وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ” قال: فقلت: وكذلك قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: "خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا" [التوبة:103] فلما أن زال عنهم النبي صلى الله عليه وسلم زالت عنهم الصدقة؟- لما ذهب النبي صلى الله عليه وسلم تذهب الزكاة- فقال: لا. قلت: وما الفرق بينهما، والنبي صلى الله عليه وسلم هو المأمور بهما جميعًا؟ قال: فسكت. أي: الرشيد.

مناظرة بين الشافعي وإسحاق بن راهويه

حصلت مناظرة بين الإمام الشافعي رحمه الله وإسحاق بن راهويه والإمام أحمد موجود يسمع في مسجد الخيف بـمنى، مناظرة مشهورة جدًا، وذلك أن الموضوع الذي أثير هو: ما حكم شراء بيوت مكة وبيعها وإجارتها؟

فكانت فتوى الشافعي الجواز، إسحاق بن راهويه يسأله، الشافعي يفتي بالجواز، فقلت: إي يرحمك الله، وجعلت أذكر له الحديث عن عائشة وعبد الرحمن وعمر وأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ومن كري بيوت مكة، وهو ساكت يسمع وأنا أسرد عليه، فلما فرغت سكت ساعة، وقال: يرحمك الله -الآن إسحاق يحتج بكلام بعض الصحابة على عدم جواز ذلك في مكة وهذه مسألة خلافية عند أهل العلم على أية حال

فقال الشافعي: يرحمك الله، أما علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (هل ترك لنا عقيل من رباع أو دار)؟ لأنه تصرف فيها قبل فتح مكة وباعها- قال: فوالله ما فهمت عنه ما أراد بها، قال إسحاق: أتأذن لي في الكلام؟ فقال: نعم. فقلت: حدثنا يزيد بن هارون، عن هشام، عن الحسن أنه لم يكن يرى ذلك، وأخبرنا أبو نعيم، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم أنه لم يكن يرى ذلك.

فقال الشافعي رحمه الله: أقول لك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت تقول: عطاء وطاوس وإبراهيم والحسن، هل لأحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة؟

ثم قال الشافعي مناظرًا إسحاق: يقول الله عز وجل: "لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ" [الحشر:8] المهاجرون من أين أخرجوا؟ من مكة ، نسب الدار إلى المالكين أو إلى غير المالكين؟

قال إسحاق: إلى المالكين، قال الشافعي: فقوله عز وجل أصدق الأقاويل، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من دخل دار أبي سفيان فهو آمن) فنسب رسول الله صلى الله عليه وسلم الدار إلى مالك أم إلى غير مالك؟

قال إسحاق: نسبها إلى مالكها.

فقال الشافعي: وقد اشترى عمر بن الخطاب دار الحجامين فأسكنها، وأيضًا عمر بن الخطاب اشترى دار صفوان ليجعلها سجنًا بـمكة فكونه اشترى دار صفوان فهذا يعني أن شراء بيوت مكة جائز، وذكر له جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم اشتروا دورًا في مكة وجماعة باعوها.

فقال إسحاق: يقول الله عز وجل: سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ أي: أنهم كلهم لهم حق العاكف والباد، فقال الشافعي: اقرأ أول الآية: "وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ" [الحج:25] قال الشافعي: والعكوف يكون في المسجد، ألا ترى إلى قوله: "طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ" [البقرة:125]؟ والعاكفون يكونون في المساجد، ألا ترى إلى قوله: “وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ” [البقرة:187]؟ فدل ذلك أن قوله عز وجل: سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ في المسجد خاص، فأما من ملك شيئًا فله أن يكري وأن يبيع.

هذه المسألة اختلف فيها أهل العلم، فبعضهم رأى جواز بيع بيوت مكة وشرائها وإجارتها، وبعضهم رأى منع ذلك كله، وتوسط الإمام أحمد فقال بجواز شراء وبيع البيوت في مكة ، وعدم جواز الإجارة.

والمسألة من المسائل التي فيها مبررات من قال بالمنع، مثل: إن مكة يفد إليها الناس من جميع الأنحاء، فالأصل أن الذي يسبق إلى مكان هو أحق به، لا نجيز التملك فيها؛ لأننا إذا أجزنا التملك ضيق الناس على الحجاج والعمار، فإذًا الذي يسبق إلى مكان هو أحق به، وليس هناك أجرة ولا تأجير، فإذا انتهت حاجته من مكة ذهب، وجاء غيره فخلفه فيه، وبالنسبة لـمنى ليس هناك خلاف، منى مناخ من سبق، فـمنى الذي يأتي أولًا يأخذ المكان لا شك في ذلك، لكنهم اختلفوا في مكة ، هل يجوز البيع والشراء والتأجير فيها أم لا؟ هذه مسألة طويلة، وذكر ابن كثير رحمه الله في كتابه في ترجمة الشافعي توسط أحمد رحمه الله بين الشافعي وإسحاق.

وأيضًا مما يدل على فقهه رحمه الله، ما قال له عبد الله بن محمد بن هارون الفريالي ، قال: وقفت بـمكة على حلقة عظيمة وفيها رجل، فسألت عنه، فقيل: هذا محمد بن إدريس الشافعي ، فسمعته يقول: سلوني عما شئتم، أخبركم بآية من كتاب الله، وسنةٍ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقول صحابي، فقلت في نفسي: إن هذا الرجل جريء، ثم قلت له: ما تقول في المحرم يقتل الزنبور؟ -الزنبور الذي يلسع، من أين تأتي للزنبور بآية وحديث؟- فقال الشافعي رحمه الله تعالى: قال الله تعالى: "وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا" [الحشر:7] وحدثنا سفيان بن عيينة، عن عبد الملك بن عمير، عن ربعي، عن حذيفة ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر ) وحدثنا سفيان بن عيينة عن مسعر عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب أن عمر رضي الله عنه [أمر المحرم بقتل الزنبور].

فأولًا أتى بالآية “وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ”. ما هو الذي أتى من الرسول؟ (اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر) وعمر أمر بقتل الزنبور، فهكذا أجاب رحمه الله تعالى.

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الشافعي
اقرأ أيضا
الخلل الذي وقع فيه كثير من المتكلمين في حقيقة التوحيد | مرابط
مناظرات مناقشات

الخلل الذي وقع فيه كثير من المتكلمين في حقيقة التوحيد


المتكلمون غلب عليهم الاشتعال بتفاصيل توحيد الربوبية والأسماء والصفات على توحيد الألوهية فذكرهم لما يتعلق به كثيرا جدا. ومن خلال هذا البيان يتضح لك أن المتكلمين لم يعقلوا توحيد الألوهية ولم ينكروه وإنما أغفلوا الاشتعال به

بقلم: د. سلطان بن عبد الرحمن العميري
402
مرآة الحياة الجاهلية يجب أن تلتمس في القرآن ج2 | مرابط
مناقشات

مرآة الحياة الجاهلية يجب أن تلتمس في القرآن ج2


تعتبر مقالات محمد الخضر حسين من أهم ما قدم في الرد على كتاب طه حسين في الشعر الجاهلي وهذه المقالات تفند جميع مزاعمه وترد عليها وتبين الخطأ أو ربما الأخطاء والمغالطات التي انطوت عليها نظريته التي قدمها فيما يخص الشعر الجاهلي وكيف أن هذه الأخطاء تفضي إلى ما بعدها وبين يديكم أحد أهم مقالاته في الرد على كتاب طه حسين حول موضوع الحياة الجاهلية وهل نلتمس ملامحها من القرآن أم من الشعر

بقلم: محمد الخضر حسين
603
في القرآن كفاية الجزء الأول | مرابط
أباطيل وشبهات مقالات

في القرآن كفاية الجزء الأول


في القرآن كفاية تأتي هذه الشبهة في مقولة تظهر صاحبها في صورة المكتفي بالقرآن مصدرا للحجة والاستدلال فإذا استدللت لحكم شرعي بدليل من السنة النبوية قذف بهذه المقولة في وجهك مدعيا كفاية القرآن في إقامة الدين دون الحاجة لمصدر آخر وقد يعضد صاحب هذه المقولة مقولته ببعض الأدلة القرآنية كمثل قوله تعالى: ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء أو قوله سبحانه: ما فرطنا في الكتاب من شيء

بقلم: عبد الله بن صالح العجيري وفهد بن صالح العجلان
2442
لماذا نصوم الجزء الرابع | مرابط
تفريغات

لماذا نصوم الجزء الرابع


أما التائهون يسهرون إلى نصف الليل على الباطل ثم يتسحرون وينامون فلا يستيقظون لصلاة الصبح أبدا فتفوتهم صلاة الصبح لكن أمثالكم ينامون بعد صلاة التراويح أربع ساعات أو خمس ساعات ثم يقومون فيتسحرون فإذا أذن الصبح توضئوا وصلوا

بقلم: أبو بكر الجزائري
707
المذاهب والفرق المعاصرة: القدرية ج2 | مرابط
تفريغات

المذاهب والفرق المعاصرة: القدرية ج2


أهل السنة والجماعة يؤمنون بالقدر إيمانا كاملا مفصلا وعقيدتهم في الإيمان بالقدر عقيدة واضحة وبينة وهم ينهون ويأمرون بالإمساك عن مسائل القدر إذا كان الخوض فيها بغير منهاج الشرع فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم والناس يتكلمون في القدر قال: فكأنما تفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب وقال: ما لكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض بهذا هلك من كان قبلكم وهذا حديث صحيح رواه الإمام أحمد في المسند بإسناد صحيح

بقلم: عبد الرحيم السلمي
443
سلسلة كيف تصبح عالما الدرس الخامس ج2 | مرابط
تفريغات

سلسلة كيف تصبح عالما الدرس الخامس ج2


وهذا عمر بن عبد العزيز رحمه الله كان يقول: العابد الذي يعبد الله على غير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح من أجل هذا قدم الصالحون العلماء ورفعوا قدرهم بصرف النظر عن النسب وعن الشكل وعن السن وعن القبيلة لا توجد اعتبارات لهذه الأشياء مطلقا في عرف الفاهمين العلماء هم أعلى الأمة لا سلطان ولا صاحب مال ولا أي شيء آخر أعلى من العلماء

بقلم: د راغب السرجاني
594