الشعر الجاهلي واللهجات ج2

الشعر الجاهلي واللهجات ج2 | مرابط

الكاتب: محمد الخضر حسين

689 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

لغة قريش ولهجتها

قال المؤلف في ص٣٣: «وهناك شيء بعيد الأثر لو أن لدينا أو لدى غيرنا من الوقت ما يمكننا من استقصائه وتفصيل القول فيه، وهو أن القرآن الذي تلي بلغة واحدة ولهجة واحدة هي لغة قريش ولهجتها لم يكد يتناوله القراء من القبائل المختلفة حتى كثرت قراءاته وتعددت اللهجات فيه وتباينت تباينًا كثيرًا.» ثم قال: «ولسنا نشير هنا إلى هذه القراءات التي تختلف فيما بينها اختلافًا كثيرًا في ضبط الحركات سواء كانت حركات بنية أو حركات إعراب. لسنا نشير إلى اختلاف القراء في نصب «الطير» في الآية: يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ أو رفعها، ولا إلى اختلافهم في ضم الفاء أو كسرها في الآية: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ ولا إلى اختلافهم في ضم الحاء أو كسرها في الآية: وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَّحْجُورًا ولا إلى اختلافهم في بناء الفعل للمجهول أو للمعلوم في الآية: غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ لا نشير إلى هذا النحو من اختلاف الروايات في القرآن فتلك مسألة معضلة نعرض لها ولما ينشأ عنها من النتائج إذا أتيح لنا أن ندرس تاريخ القرآن.»

الكتاب عنوانه «في الشعر الجاهلي»، ولكن مؤلفه أولع كثيرًا بوثبات فجائية يقع بها على الطعن في القرآن، فيضاهي قول الذين تساقطوا على عدائه والصد عن سبيله من قبل. هل من أدب الدرس أن يسوق المعلم بنفسه مسألة لم يضطره البحث إلى ذكرها ثم يقول لطلابه: تلك مسألة معضلة نعرض لها من بعد! وهل يليق بذي علم يؤلف في الشعر الجاهلي أن يكب على كتب الدعاة إلى غير الإسلام وينبشها ليستخرج من شبهها ما يلصقه بأذهان هذه الناشئة قبل أن تشتد في الدفاع عن الحقائق قناتها.

إنك لتجد أولئك الدعاة يتوسلون باختلاف القراءات إلى قذف القرآن بالاختلاف أو التحريف، وكذلك فعل المؤلف حيث نقر في القراءات ولم يبال أن تكون شاذة، والتقط منها بعض آيات بدا له أن في اختلاف قراءتها ما يلبس حقائق الإسلام بالريبة، فأوردها في نسق ورماها بالإعضال، وما هي بمعضلة على أحد، ولكن المؤلف يعجب بالشبهة أكثر من الحجة، ويؤثر لهو الحديث على الحكمة، والمسألة بحثها العلماء وقرروها على وجه خالص من كل شائبة، وهو إذا عرض لها ولما ينشأ عنها من النتائج لا يقول فيها إلا كما قال في الشعر الجاهلي. وأنتم تعلمون أنه لم يزد على أن نهب واضطرب، ثم افتخر وهجا.

جاء في السنة الصحيحة ما يثبت تعدد القراءات لعهد النبي صلى الله عليه وسلم ويشهد بأن تلك الوجوه كانت تتلقى بطريق الرواية عنه، ومن هذه الدلائل حديث الجامع الصحيح للإمام البخاري عن عمر بن الخطاب قال: «سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستمعت لقراءته فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكدت أساوره في الصلاة فتصبرت حتى سلم فلببته بردائه فقلت: من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ؟ قال: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: كذبت فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أقرأنيها على غير ما قرأت، فانطلقت به أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها، فقال صلى الله عليه وسلم: «أرسله.» اقرأ يا هشام، فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأ، فقال صلى الله عليه وسلم: «كذلك أنزلت.» ثم قال: «اقرأ يا عمر.» فقرأت القراءة التي أقرأني، فقال صلى الله عليه وسلم: «كذلك أنزلت.» ثم قال: «إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرأوا ما تيسر منه.» وفي الجامع الصحيح للإمام البخاري أيضًا: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أقرأني جبريل على حرف فراجعته فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف.»

فالحديث ناطق بتعدد القراءات وصريح في أن هذه القراءات المختلفة متلقاة من النبي صلى الله عليه وسلم وموقوفة على السماع. وليس في هذا ما يعثر في قانون المنطق، أو يضايق العقل في شبر من مجاله الفسيح، وهل يصعب على الذي يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر أن يفهم أن أحد أولئك الملائكة نزل على أحد هؤلاء الرسل بكتاب من تلك الكتب وبلغه بعض آياته على وجهين أو وجوه مختلفة في أوقات متعددة! واختلاف القراءات على نوعين:أولهما: اختلاف القراءتين في اللفظ مع اتفاقهما في المعنى، ومن هذا النوع ما يرجع إلى اختلاف اللغات كقراءتي: اهْدِنَا الصِّرَاطَبالصاد والسِّرَاطَ بالسين، إلى ما يشاكل هذا من نحو الإظهار والإدغام والمد والقصر وتحقيق الهمز وتخفيفه. والحكمة في هذا تيسير تلاوته على ذوي لغات مختلفة: «فلو أراد كل فريق من هؤلاء أن يزول عن لغته وما جرى عليه اعتياده طفلًا وناشئًا وكهلًا، اشتد ذلك عليه وعظمت المحنة فيه، ثم لم يمكنه ذلك إلا بعد رياضة للنفس طويلة، وتذليل للبيان وقطع للعادة، فأراد الله عز وجل بلطفه ورحمته أن يجعل لهم متسعًا في اللغات ومتصرفًا في الحركات.»(5)

ومن هذا النوع ما لا تختلف فيه اللغات وإنما هما وجهان أو هي وجوه تجري في الفصيح من الكلام نحو: وما عملت أيديهم وما عملته أيديهم وهذا النوع وارد على سنة العرب من صرف عنايتها إلى المعاني ونظرها إلى الألفاظ نظر الوسائل فلا ترى بأسًا في إيراد اللفظ على وجهين أو وجوه ما دام المعنى الذي يقصد به بالخطاب باقيًا في نظمه ومأخوذًا من جميع أطرافه، وفي هذا توسعة على القارئ وعدم قصره على حرف، ولا سيما حيث كان محجورًا عليه أن يغير الكلمة عن القرآن ويحيد بها عن وجهها المسموع.(6)

ثانيهما: اختلاف في اللفظ والمعنى في صحة المعنيين كليهما، وحكمة هذا أن تكون الآية بمنزلة آيتين وردتا لإفادة المعنيين جميعًا، كاختلاف قراءتي: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ بالألف وملك يوم الدين بغير ألف، فقد أفادت إحدى القراءتين أن الله مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ يتصرف فيه كيف شاء، وأفادت الأخرى أنه ملكه الذي يحكم فيه بما يريد.

أما اختلاف اللفظ والمعنى مع تضاد المعنيين فهذا لا أثر له في القرآن، قال أبو محمد بن قتيبة في مشكل القرآن: الاختلاف نوعان: اختلاف تغاير واختلاف تضاد، فاختلاف التضاد لا يجوز، ولست واجده بحمد الله في شيء من كتاب الله، واختلاف التغاير جائز. ثم ضرب لهذا النوع من الاختلاف أمثلة من الآيات، وأتى في بيان جوازه على ناحية أن كلًّا من المعنيين صحيح، وأن كل قراءة بمنزلة آية مستقلة، ولا جرم أن يكون هذا الاختلاف فنًّا من فنون الإيجاز الذي يسلكه القرآن في إرشاده وتعليمه.

والآيات التي سردها المؤلف، منها ما يرجع إلى اختلاف اللغات كآية: وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَّحْجُورًا ومنها ما يفيد معنيين كل منهما مستقيم كآية: مِّنْ أَنفُسِكُمْ ومنها ما جاء على وجهين كل منهما فصيحٌ عربيةً كآية: يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ أما آية: غُلِبَتِ الرُّومُ فنكتفي في الجواب عنها بأن قراءتها بالبناء للمعلوم شاذة، والشاذ ليس بقرآن، وما علينا إلا يكون له معنى مستقيم.

 

اختلاف القراءات

قال المؤلف في ص٣٤: «إنما نشير إلى اختلاف آخر في القراءات يقبله العقل ويسيغه النقل، وتقتضيه ضرورة اختلاف اللهجات بين قبائل العرب التي لم تستطع أن تغير حناجرها وألسنتها وشفاهها لتقرأ القرآن كما كان يتلوه النبي وعشيرته من قريش، فقرأته كما كانت تتكلم، فأمالت حيث لم تكن تميل قريش، ومدت حيث لم تكن تمد، وقصرت حيث لم تكن تقصر، وسكنت حيث لم تكن تسكن، وأدغمت أو أخفت أو نقلت حيث لم تكن تدغم ولا تخفي ولا تنقل. فهذا النوع من اختلاف اللهجات له أثره الطبيعي اللازم في الشعر في أوزانه وتقاطيعه وبحوره وقوافيه بوجه عام.»

كل نوع من اختلاف القراءات الثابتة يقبله العقل ويسيغه النقل، وقد أريناك أن ما لا يقبله العقل وهو اختلاف القراءتين المؤدي إلى تنافي المعنيين، غير موجود في القرآن، ولا يستطيع المؤلف وشركاؤه أن يظفروا له بمثل: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا وأما ما يقوله من أن لهذه اللهجات أثرها الطبيعي اللازم في أوزان الشعر وتقاطيعه وقوافيه فمقتضى إتقان البحث أن يضرب مُثُلًا من هذه اللهجات وترى طلابه بالجامعة كيف لا تجد في هذه الأوزان والقوافي ما يصلح لأن يكون مظهرًا لآثارها الطبيعية.

 

أوزان الشعر وبحوره

قال المؤلف في ص٣٤: «ولسنا نستطيع أن نفهم كيف استقامت أوزان الشعر وبحوره وقوافيه كما دونها الخليل لقبائل العرب كلها على ما كان بينها من تباين اللغات واختلاف اللهجات.»

لا يستطيع المؤلف أن يفهم كيف استقامت هذه الأوزان لقبائل العرب كلها مع تباين لغاتهم واختلاف لهجاتهم! وهذه الشبهة من فصيلة شبهة مرغليوث التي أوردها في مقالة إنكار الشعر الجاهلي بقوله: «إن أول من وضع هذه الأوزان الشعرية وادعى أنه انتزعها من أشعار القبائل العربية الخليل بن أحمد المتوفى سنة ١٧٠، وقد قام أحد معاصريه وألف كتابًا أبطل به عمل الخليل.»(7) وقد تعرض «أدور براونلش» في رده على مرغليوث لهذه الشبهة فقال: «وما ذكره مرغليوث من أن بعضهم نقض على الخليل صنعه في أوزان الشعر، فإنا بمراجعة كتاب الإرشاد نجد الذي ألف في النقض على الخليل لم يجد من العلماء قبولًا أو في الأقل لم يجد قبولًا من ياقوت وابن درستويه اللذين عدا «برزخا» كاذبًا وبهذا سقطت شبهة مرغليوث كأن لم تكن.»

أما شبهة المؤلف التي هي أخت شبهة مرغليوث أو ابنة عمها فتزاح من ساحة هذا البحث بأن الأوزان التي دونها الخليل ليست بالعدد القليل حتى يستبعد أن تكون أشعار هذه القبائل دائرة عليها، فالخليل جعل أصولها خمسة عشر وزنًا، وهي الطويل والمديد والبسيط والوافر والكامل والهزج والرجز والرمل والخفيف والمنسرح والسريع والمضارع والمقتضب والمجتث والمتقارب. وزاد عليها الأخفش وزنًا آخر يسمونه المتدارك أو الخبب.

فالمجموع ستة عشر وزنًا، وإذا لاحظت ما يذكرونه على أنه فروع لهذه الأصول مما يسمونه مجزوءًا ومشطورًا ومنهوكًا، ثم ما يدخلها من علل وزحافات جائزة أو مستحسنة، ارتفع حسابها إلى ما لا يضيق عن أي لغة أو لهجة عربية.

 

نظم القرآن

قال المؤلف في ص٣٥: «وإذا لم يكن نظم القرآن وهو ليس شعرًا ولا مقيدًا بما يتقيد به الشعر، قد استطاع أن يستقيم في الأداء لهذه القبائل، فكيف استطاع الشعر وهو مقيد بما تعلم من القيود، أن يستقيم لها، وكيف لم تحدث هذه اللهجات المتباينة آثارها في وزن الشعر وتقطيعه الموسيقي، أي كيف لم توجد صلة واضحة بين هذا الاختلاف في اللهجة وبين الأوزان الشعرية التي كانت تصطنعها القبائل؟»

إن كان المؤلف يكتب لأولي الألباب فأولو الألباب لا ينزلون إلى فهم ما يقوله إلا أن يأتي إلى الفوارق بين لهجات العرب، ويريهم كيف يأبى بعض هذه اللهجات أن يفرغ في الأوزان التي استقرأها الخليل. والفوارق التي ذكرها في القراءات مما تحتمله هذه الأوزان جميعًا، فإن أراد فوارق غيرها واعتذر بأنه لا يعرفها، فخير له أن يكتم هذا البحث حتى يقف عليها وتكون ملموسة له أو كالملموسة ثم يتحدث بها على بينة ويجد يومئذ من أولي الأبصار سامعًا وظهيرًا.

أورد المؤلف سؤالًا ملخصه: إن اللهجات استمرت قائمة بعد القرآن، وفي هذا العهد كانت القبائل تتعاطى الشعر، وإذا استقامت لهم أوزانه مع اختلاف اللهجات بعد الإسلام فما الذي يمنع من أن تستقيم لهم في العصر الجاهلي؟ ثم قال كالمجيب عن هذا السؤال في ص٣٥: «ولست أنكر أن اختلاف اللهجات كان حقيقة واقعة بعد الإسلام، ولست أنكر أن الشعر قد استقام للقبائل كلها رغم هذا الاختلاف. ولكني أظن أنك تنسى شيئًا يحسن ألا تنساه، وهو أن القبائل بعد الإسلام قد اتخذت للأدب لغة غير لغتها، وتقيدت في الأدب بقيود لم تكن لتتقيد بها لو كتبت أو شعرت في لغتها الخاصة، أي أن الإسلام قد فرض على العرب جميعًا لغة عامة واحدة وهي لغة قريش فليس غريبًا أن تتقيد هذه القبائل بهذه اللغة الجديدة في شعرها ونثرها في أدبها بوجه عام. لم يكن التميمي أو القيسي حين يقول الشعر في الإسلام يقوله بلغة تميم أو قيس ولهجتها.»

قال المؤلف فيما سلف:(8) «قبل أن يفرض القرآن على العرب لغة واحدة.» وقال هنا: «إن الإسلام قد فرض على العرب جميعًا لغة واحدة هي لغة قريش.» والخبير بحقائق الإسلام يعرف أن القرآن أو الإسلام لم يفرض على العرب لغة واحدة، واختلاف القراءات القائم على اختلاف اللهجات شاهد صدق على أن الإسلام لم يكلف القبائل بترك لهجاتها ولم يحملها على لغة «النبي وعشيرته من قريش».

والواقع أن الوحدة العربية التي استحكمت حلقاتها بهداية الإسلام، وكون أكثر القائمين بالدعوة إلى هذه الهداية والممثلين لسياستها ينطقون باللغة التي نزل بها القرآن، وكون القرآن أصبح متلوًّا بكل لسان، هذه الأسباب الثلاثة ذهبت بجانب عظيم من اختلاف اللهجات وأصبحت اللغة الجارية على ألسنة العرب تقارب لهجة القرآن، فإن أراد المؤلف بفرض القرآن وفرض الإسلام هذا المعنى، وأغضينا عن هذا التعبير الذي يوهم طلاب الجامعة أن الإسلام يفرض على الناس لغة واحدة، كان معنى جوابه أنه وُجِدَ سبب طبيعي لتوحيد تلك اللهجات أو تقاربها وهو واقعة الإسلام.

ونحن نعرف ما للإسلام من تأثير في تقارب اللهجات، وهذا لا يمنع من أن يكون سبب آخر طبيعي قد وُجِدَ قبل ظهور الإسلام فساق ذوي العقول المنتجة من هذه القبائل إلى أن يشتركوا في لغة يصوغون فيها الأشعار والخطب مسجعة أو مرسلة، وقد ذكرناك بسبب يصح أن يكون السائق إلى هذه اللغة الأدبية، وهو فصاحة لسان قريش، وتلك المجامع التي كانت تنعقد حوالي مكة وتؤمها القبائل للتفاخر بالأحساب أو التنافس في حلبة البيان.

 

 

ضرب المؤلف لذلك الجواب ثلاثة مُثُل:

أولها: أن الدوريين كانت لهم لهجة وأوزان دورية، ولما ظهرت أثينا على البلاد اليونانية عامة عدلوا عن لهجتهم وأوزانهم إلى اصطناع اللهجة والأوزان اليونانية والنثر الأتيكي.

ثانيها: أن لكل إقليم في فرنسا لغة ذات قوام خاص، ومع ذلك فأهل الإقليم إذا أرادوا أن يظهروا آثارًا أدبية يعدلون عن لغتهم الإقليمية إلى اللغة الفرنسية.

ثالثها: أن في مصر لهجات وأوزانًا مختلفة، ومع هذا فإن من ينظم الشعر الأدبي ويكتب النثر الأدبي يعدل عن لهجته الإقليمية إلى هذه اللغة لغة قريش ولهجتها. وقد أخذت المؤلف عند ضرب هذا المثل نشوة فاتح البلاد بعد حروب عنيفة فافتتحه بقوله، في ص٣٧: «وأنا أشعر بالحاجة إلى أن أضرب مثلًا آخر قد يدهش له الذين يدرسون الأدب العربي؛ لأنهم لم يتعودوا مثله من الباحثين عن تاريخ الأدب.»

لندع البحث في هذه الجملة من جهة صلتها بنفس كاتبها ودلالتها على ازدهائه بما يسميه رأيًا له وإن كان مطروحًا في كل سبيل، ولا يحتاج الأحداث في فهمه إلى تلقين، وإنما نعرض لبحثها من حيث صلتها بالمثل الذي ألقاها في صدره، فإن إهمال نقدها من هذا الوجه «قد يدهش له الذين يدرسون الأدب العربي؛ لأنهم لم يتعودوا مثله من» الناقدين للحديث الذي يتغنى صاحبه بمديحه قبل أن يصل إلى آذان قرائه.

هل من أحد يقرأ أو يستمع إلى من يقرأ، لا يدري أن اللهجة التي يقال فيها الشعر وتؤلف فيها الكتب غير اللهجة التي يتحاور بها الناس في شؤونهم الخاصة أو العامة! ومن ذا الذي يقرأ أو يسمع مقالًا أو إعلانًا في هذه الصحف السيارة، أو قصيدة لأحد أدباء العصر فلا يفرق بين لهجتها واللهجة التي يتحدث بها السوقة أو ينظم بها بعض الأميين ما يسمونه «زجلًا».

فإن قال المؤلف: إنهم يدركون هذا الفرق ولكنهم لا يستطيعون كما أستطيع ضربه مثلًا لحال العربية الفصحى مع بقية اللهجات بعد ظهور الإسلام، قلنا: إن ربط حال اللغة الفصحى في هذا العصر بحالها يوم ساد الإسلام، قد يحفل به الأطفال الذين لم يأخذوا في أذهانهم غير البديهيات، أما الذين يدرسون الأدب العربي فلا أحسبهم يحفلون به فضلًا عن أن يدهشوا له، فقد جالوا في نتائج عقول راقية، وألفوا من الآراء المستنبطة بحكمة وروية ما لا يُبقي لأمثال هذا الحديث في أعينهم قيمة ولا خطرًا.

ولعل المؤلف رأى بعض طلابه في الجامعة العتيقة يقابلون ما كان من نوع هذا الحديث بالتصدية، فتخيل أن كل من يسمع حديثًا كهذا تقع به الدهشة على وجه الأرض أنَّى كان قائمًا، ولم يستطع أن يكتم هذا الخيال فقال: «أضرب مثلًا آخر قد يدهش له الذين يدرسون الأدب العربي؛ لأنهم لم يتعودوا مثله من الباحثين عن تاريخ الأدب!»

وهذا الحديث المدهش — على سذاجته وعدم توقف استنباطه على قريحة جيدة — قد وقع على أُذن المؤلف ما يشابهه يوم تلي عليه مقال الدكتور مرغليوث المنشور في مجلة الجمعية الآسيوية حيث يقول: «نسلم أن سطوة الإسلام أرغمت قبائل جزيرة العرب على توحيد لغتهم بتقديمه مثالًا أدبيًّا لا يقبل الجدل في جودته وعلو شأنه وهو القرآن، ولهذا نظائر فإن فتوحات رومة عملت بإيطاليا وبلاد الغول وأسبانيا مثل ذلك، ولكن من الصعب قبول فكرة أن يكون قبل هذا العامل الحيوي لغة عامة لقبائل الجزيرة تختلف عن لغات المخطوطات وتشمل جميع الجزيرة.»

 


 

الإشارات المرجعية:

  1. مشكل القرآن لابن قتيبة.
  2. من أثر تعدد القراءات حفظ كثير من طرق البيان وضروب اللهجات وإن لم يكن القصد من القرآن تعليم اللغة وتقرير أساليب خطابها وفنون بيانها.
  3. الإرشاد (معجم الأدباء) ج٢، ص٣٦٦.
  4. ص٣٣.
  5. كذا في كتاب الشعر الجاهلي، وفي الأمالي لأبي علي القالي ج١ ص١٨٧: «اجتمع خمس جوار من العرب فقلن هلممن نصف خيل آبائنا …»
  6. كذا في كتاب الشعر الجاهلي، وفي أمالي القالي ج١ ص١٦: «قالت عجوز من العرب لثلاث بنات لها صفن ما تحببن من الأزواج …»

 

المصدر:

محمد الخضر حسين، نقض كتاب في الشعر الجاهلي، ص85

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#طه-حسين #في-الشعر-الجاهلي
اقرأ أيضا
كيف يكون هلاك الناس بالقرآن؟ | مرابط
تفريغات

كيف يكون هلاك الناس بالقرآن؟


ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: هلاك أمتى في ثنتي وذكر في أحد هذين الأمرين: الكتاب يعني القرآن فلما سأل النبي صلى الله عليه وسلم: كيف يكون هلاك الناس بالقرآن؟ قال: يقرأونه فيتأولونه على غير وجهه.. يتأولونه على غير وجهه ولذلك تجد في زماننا هذا أكثر من أي زمان قبلنا وفي الزمان القريب أكثر مما كان في الزمان الذي قبله إلى أن نصل إلى القرون الفاضلة.

بقلم: عبد السلام بن محمد الشويعر
439
عشرة أشياء ضائعة لا ينتفع بها | مرابط
اقتباسات وقطوف

عشرة أشياء ضائعة لا ينتفع بها


مقتطف هام من كتاب الفوائد لابن قيم الجوزية يضع بين يدينا عشرة أشياء ضائعة لا ينتفع بها العبد مهما بذل فيها من وقت وجهد وكدح ثم بعدما يذكرها يقف على أعظم الإضاعات التي قد يقع فيها العبد وهما إضاعة القلب وإضاعة الوقت

بقلم: ابن القيم
607
أثر الخلوات | مرابط
اقتباسات وقطوف

أثر الخلوات


إن للخلوة تأثيرات تبين في الجلوة كم من مؤمن بالله عز وجل يحترمه عند الخلوات فيترك ما يشتهي حذرا من عقابه أو رجاء لثوابه أو إجلالا له فيكون بذلك الفعل كأنه طرح عودا هنديا على مجمر فيفوح طيبه فيستنشقه الخلائق ولا يدرون أين هو.

بقلم: ابن الجوزي
430
مشهد السفينة واللجوء إلى الله | مرابط
مقالات

مشهد السفينة واللجوء إلى الله


هذه الصورة التي يكررها القرآن عن السفر بالسفن واليخوت انقلها بحذافيرها إلى وسيلة نقل مشابهة كالطائرة أو القطارات أو السيارات وتأمل كيف يكون الإنسان فيها قلقا وخصوصا إذا مر بظروف طبيعية كرياح تثير الاضطراب ثم إذا نزل على الأرض نسي استكانته وتضرعه وعزيمته على الاستقامة.. تذكر هذه الصورة التي نمر بها وأعد قراءة آية يونس وآية الإسراء السابقتين تنكشف لك من معاني الإيمان والتعلق بالله مالم يخطر ببالك..

بقلم: إبراهيم السكران
190
الأسس الفكرية لليبرالية: الفردية ج2 | مرابط
فكر مقالات الليبرالية

الأسس الفكرية لليبرالية: الفردية ج2


الفردية هي السمة الأساسية الأولى لعصر النهضة وهي من أهم أسس وأعمدة الليبرالية وقد ارتبطت الحرية بالفردية ارتباطا وثيقا فأصبحت الفردية تعني استقلال الفرد وحريته ولكن الفردية نفسها لها أكثر من مفهوم مثل المفهوم البراجماتي والمفهوم التقليدي وفي هذا المقال يستعرض لنا المؤلف المفهومين وكلام رواد الليبرالية حولهما

بقلم: د عبد الرحيم بن صمايل السلمي
2142
من علامات الساعة: ضياع أمانة الدين ج1 | مرابط
تفريغات

من علامات الساعة: ضياع أمانة الدين ج1


إن الأمانة اسم عام لكل تكليف كلفناه ربنا تبارك وتعالى أو الرسول عليه الصلاة والسلام كما في قول الله عز وجل:إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولاالأحزاب:72 فالأمانة هي كلمة: لا إله إلا الله بتكاليفها هذه هي التي أشفقت السماوات والأرض والجبال عن حملها ومن علامات الساعة ضياع الأمانة وبين يديكم تفريغ لجزء من محاضرة للشيخ أبو إسحق الحويني يتحدث فيه عن ضياع الأمانة في زمننا

بقلم: أبو إسحق الحويني
609