كان أبو حنيفة سيفًا على الدهرية، وكانوا ينتهزون الفرصة في قتله، فبينما هو يوما في موضع وحده هجموا عليه بسيوفهم وهمّوا بقتله، فقال لهم: أجيبوا عن هذه المسألة وافعوا ما شئتم.
قالوا: هات
قال: ما تقولون لمن قال لكم: رأيت سفينة مملوءة من الأثقال احتوشتها في لجة البحر أمواج ورياح مختلفة، وهي تجري مستوية ليس لها رائس ولا مدبر هل يجوز ذلك؟
قالوا: هذا شيء لا يعقله عاقل!
قال أبو حنيفة: يا سبحان الله، إذ لم يجز هذا فكيف قيام هذه الدنيا على اختلاف أحوالها وسعة أطرافها وتباين أكنافها من غير صانع ولا حافظ!
فبكوا واعترفوا بالحق
وهذه الدلالة مأخوذة من قوله تعالى "وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ" ومن قوله "وَلَقَد تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ" (1)
حُكي أن دهريًا جاء إلى هارون الرشيد، وقال: يا أمير المؤمنين قد اتفق علماء عصرك على أن للعالم صانعًا.. فمن كان فاضلًا من هؤلاء فمُره أن يحضر ها هنا حتى أبحث معه بين يديك، وأثبت أنه ليس للعالم صانعًا.
فأرسل هارون الرشيد إلى أبي حنيفة، وقال له: اعلم أنه قد جاء إلينا دهري، وهو يدّعي نفي الصانع، ويدعوك إلى المناظرة، فقال أبو حنيفة: أذهب بعد الظهر.
فجاء رسول الخليفة وأخبره بما قال أبو حنيفة، فأرسل إليه ثانيًا، فقام أبو حنيفة وأتى هارون الرشيد، فاستقبله هارون، وأجلسه في صدر المجلس، وقد اجتمع الأكابر والأعيان.
فقال الدهري: يا أبا حنيفة لِمَ أبطأت في مجيئك؟
فقال أبو حنيفة: قد حصل لي أمر عجيب، فلذلك أبطأت؛ وذلك أن بيتي وراء نهر دجلة، فخرجت من منزلي وجئت إلى جنب دجلة حتى أعبرها، فرأيت بجنب دجلة سفينة عتيقة محطمة قد تفكّكت ألواحها، فلما وقع بصري عليها اضطربت الألواح وتحرّكت واجتمعت، وتوصّل بعضها ببعض وصارت سفينة صحيحة كما كانت، بلا نجار ولا عمل عامل. فقعدت عليها وعبرت الماء وجئت ها هنا.
فقال الدهري: اسمعوا أيها الأعيان ما يقول إمامكم وأفضل زمانكم، فهل سمعتم كلامًا أكذب من هذا؟ كيف تصير السفينة المكسورة صحيحة بلا عمل نجار؟ فهذا كذب محض قد ظهر من أفضل علمائكم.
فقال أبو حنيفة: أيها الكافر المطلق، إذا لم تحصل السفينة بلا صانع ولا نجار، فكيف يجوز أن يحصل هذا العالم كلّه من غير مبدعٍ ولا صانعٍ؟ فعند ذلك أمر الرشيد بضرب عنق الدهري فقتلوه (2)
المصدر:
- أبو علي عمر السكوني، عيون المناظرات، ص214
- أنيس الجليس للسيوطي