الاستبدادان

الاستبدادان | مرابط

الكاتب: إبراهيم السكران

2337 مشاهدة

تم النشر منذ 3 سنوات

ما هو الاستبداد؟

نحن نردد دومًا كلمة (الاستبداد)، ونرميها بكل عبارات الذم والقدح والعيب، لكن هل تساءلنا قبل ذلك: ما هو الاستبداد؟
 
الاستبداد في معناه العام هو الخضوع لسلطة غير موضوعية، ويزيد الأمر أحيانًا إلى محاولة خلق المستندات والحيثيات التي تبرر إكراهات هذه الاستبداد.
 
وبناءً على ذلك فالاستبداد في حقيقته ليس نوعًا واحدًا كما يتصور الكثيرون، بل هو على مستويين: استبداد داخلي، واستبداد خارجي، ولكل نوعٍ من نوعي الاستبداد ضحاياه.
 

مستويات الاستبداد

فضحايا (الاستبداد الداخلي) يغالون في مفهوم طاعة ولاة الأمور فوق القدر الشرعي المأمور به، وينفرون من الاحتساب على الولاة والحكام، ويميلون للتفهم الشرعي لكل أمر يأمر به المسؤولون، ويبحثون في النصوص الشرعية أو التراث الإسلامي لتبرير وتسويغ أوامر المستبد، حتى لو كان بنوع من التطويع، ويتحدثون عن المستبد الداخلي بعبارات الانبهار والتفخيم مثل: طويل العمر، وحبيبنا المفدى، وسيدي فلان، ونحو ذلك، وكل ذلك نتيجة (انهيارهم النفسي) أمام نفوذ المستبد الداخلي.
 
 وضحايا (الاستبداد الخارجي) يميلون للتفهم الشرعي قدر الإمكان لثقافة الغرب المنتصر في السياسة والاجتماع والحكم، ويبحثون في النصوص الشرعية أو التراث الإسلامي لتبرير وتسويغ مفاهيم الثقافة الغربية، حتى لو كان بنوع من التطويع، ويتحدثون عن المستبد الخارجي بعبارات الانبهار والتفخيم مثل: المعجزة الغربية، الحضارة الغربية، ونحو ذلك، وكل ذلك نتيجة (انهيارهم النفسي) أمام نفوذ المستبد الخارجي.
 
وتجد ضحايا (المستبد الداخلي) لو قلت لهم أنتم تميلون لتطويع النصوص والتراث لأوامر المستبد الداخي؛ لغضبوا عليك، ورأوك جائرًا ظالمًا في الحكم والتقييم، ويرددون لك بأنهم لديهم نصوص وهم أقرب للشريعة منك.
 
وهكذا أيضًا: تجد ضحايا (المستبد الخارجي) لو قلت لهم أنتم تميلون لتطويع النصوص والتراث لثقافة المستبد الخارجي؛ لغضبوا عليك، ورأوك جائرًا ظالمًا في الحكم والتقييم، ويرددون لك بأنهم لديهم نصوص وهم أقرب للشريعة منك.

 

آلية تطويع النصوص الشرعية

 
لكن لو تساءلنا: ما هي الآلية الداخلية التي يتم من خلالها تطويع النصوص الشرعية لأفكار المستبد، سواءً المستبد الداخلي أو المستبد الخارجي؟
 
الواقع أن الأمر يتم على هذه الصورة: تجد كثيرًا من النصوص الشرعية تحتمل عدة دلالات نتيجة طبيعة بنيتها اللغوية (وهي قضية دلالية/سيميولوجية)، وعلماء المسلمين يتعاملون مع هذه الاحتمالات الدلالية بـ (منهج علمي) لتحديد الدلالة التي تعبر عن مراد الله، هذا هو المسار الطبيعي للعالم المستقل المتحرر من نوعي الاستبداد، أما الخانع لأحد نوعي الاستبداد فإنه لا يرجِّح بين هذه الاحتمالات الدلالية بمنهج علمي، وإنما ينتقي من هذه الدلالات ما يتوافق مع اتجاه المستبد الذي يخضع له، سواءً كان مستبدًا داخليًا أو خارجيًا، فصار المرجح في الاحتمالات الدلالية للنصوص ليس (المنهج العلمي) وإنما (هوى المستبد) الداخلي أو الخارجي.
 
 
والخنوع للمستبد الداخلي يكثر عند بعض المنتسبين للسلفية ممن يسميهم السلفيون (أدعياء السلفية)، بينما الخنوع للمستبد الخارجي يكثر عند بعض المنتسبين للثقافة المعاصرة.
 

هيمنة الثقافة الليبرالية

ونحن اليوم في عصر (الليبرالية)، ولحظة انتصار وهيمنة (النموذج الليبرالي الغربي)، ولذلك تغزونا مقولاتها المدججة بأقوى وسائل التأثير، وتفرض على تفكيرنا أولوية أسئلتها وإشكالياتها، وتزودنا بقوالب تشكّل تفكيرنا، وتمارس استبدادًا عقليًا ونفسيًا على كثير من المتطلعين للثقافة المعاصرة، فحين تقرأ كتاباتهم أو تسمع كلامهم لا تخطئ عينك تلك الهزيمة المضمرة بين حروفهم، وتشعر أحيانًا أن الكاتب يحاول أن يستقل، لكن ينهار مرة تلو مرة، ويظل تواقًا إلى مشابهة المنتصر في أفكاره، يشعر أنه الأقوى والأصح كلما شابهه.
 
وأحيانًا كثيرة يمارس الشخص هذه الهزيمة للمستبد الخارجي دون وعي، نتيجة انتشار مفاهيم المستبد الخارجي وتعملقها في تفاصيل أوعية المعرفة المعاصرة، فيتشربها من خلال الحوارات الفضائية، أو الرواية الحديثة، أو النص السينمائي، أو العمود الصحفي، أو التقرير الإخباري، الخ. دعنا نضرب أمثلة لهذا الاستبداد الخارجي، والخنوع الذي يعيشه الكثيرون لأفكار ومفاهيم وتصورات المستبد الخارجي:
 

نماذج محلية


تجد بعض الناس صارت أهم قضاياه هي (الموقف من المخالف) وتجد لديه تأزم حقيقي في هذا الموضوع، برغم أنه موضوع عادي جدًا خلال التراث الإسلامي، بكل ما فيه من نقد المخالف، وكان العلماء وأئمة السلف ينتقدون المخالف بكل وضوح وحسم، ولو سألته: لماذا صار الموقف من المخالف (أزمة) فقط في هذه اللحظة التأريخية التي انتصر فيها النموذج الليبرالي الذي يشيع روح المغالاة في الحرية؟ لربما كان هذا السؤال بالنسبة له مفتاحًا للتفكير المستقل في هذا الموضوع.
 
وتجد البعض الآخر صار يعتبر أن الحديث عن خطر الرافضة وبيان ضلالهم وتفنيد شبهاتهم (طائفية مذمومة)، حسنًا.. لقد كان أهل السنة طوال التاريخ يقولون في الرافضة ما لم يقل الدعاة المعاصرون مده ولا نصيفه، فلماذا صار الحديث عن ضلال الرافضة أزمة وطائفية في هذا العصر الذي انتصر فيه النموذج الغربي الليبرالي الذي يمنع المساس بالطوائف؟ أتمنى أن يكون هذا السؤال -أيضًا- مفتاحًا للتفكير خارج استبداد المستبد الخارجي.
 
وتجد بعض الناس يقول لك (انتقد الأشخاص لا الأفكار)، طيب.. ألم يكن السلف يا أخي الكريم ينتقدون الأشخاص والأفكار كلاهما، فلم يكن لدى السلف أصلًا هذا التمييز (إنقد الفكرة لا الشخص)!، ألا ترى أننا صرنا خاضعين لسحر النموذج الليبرالي الذي يغلو في حرية الأشخاص ويرفع حساسية الموضوع ؟
 
وبعض الناس صار لديه مشكلة مع (شريعة إنكار المنكر) لأنها تخالف الحرية التي تشربها من النموذج الليبرالي المهيمن، فتراه إذا شاهد أحدًا ينكر منكرًا قال: هذا إقصاء، أو هذه وصاية، الخ. وعبارة (إقصاء ووصاية) ليست مجرد تعبير أدبي، بقدر ما هي تحمل (ثقافة) تنبض بالليبرالية في داخلها.
 
ومن المقولات الليبرالية التي راجت بين كثير من المنتسبين للثقافة المعاصرة عبارة (تكلم لكن لا تمد يدك) وقريب منها عبارة (تنتهي حريتك حيث تبدأ حرية الآخرين)، فإذا سألته: لماذا يجوز أن تتكلم لكن لا يجوز أن تمد يدك؟ قال لك: حرية التعبير متاحة، لكن أن تمد يدك فهذا عدوان. حسنًا يا أخي الكريم.. فإذا كان الكلام عدوانًا على الله أو رسوله أو الصحابة أو أحد شرائع الإسلام الخ، فهل سيبقى الكلام أهون من اليد؟!
 
مثل هذه المقولات ليست مجرد آراء، بل هي (معايير) تجري في عروقها دماء الليبرالية الغربية، حيث تفرق بين الرأي والفعل، وتميل إلى فتح المجال للرأي إلى نهاية الطريق، بينما تميل إلى ضبط الفعل بالقوانين، وهذا طبعًا نسبي عندهم.
 

عقيدة المسلمين

لكن هل هذا التصور موجود عندنا نحن المسلمين؟ لا، طبعًا فنحن المسلمين نعتبر العدوان على الله ورسوله أعظم من العدوان على حق شخصي، لأن الله ورسوله أعظم في نفوسنا من كل أحد، بخلاف هذا الغربي المسكين الذي لا يعظم إلا نفسه، فالرأي المنحرف في ميزان الشريعة قد يكون أخطر من الفعل المنحرف، والعدوان بالرأي على الشريعة، قد يكون أعظم من العدوان بالفعل على المسلمين، وقد وضح هذا ابو العباس ابن تيمية حيث يقول:
 

"والمحاربة باللسان في باب الدين قد تكون أنكى من المحاربة باليد..، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقتل من كان يحاربه باللسان، مع استبقائه بعض من حاربه باليد..، وكذلك الإفساد قد يكون باليد، وقد يكون باللسان، وما يفسده اللسان من الأديان أضعاف ما تفسده اليد" (ابن تيمية، [الصارم المسلول، 3/735]، ت الحلواني وزميله).
 

فتأمل كيف جعل ابن تيمية عدوان الكلمة أضر على الشريعة من عدوان اليد في كثير من الأحيان، ثم قارن ذلك بالعبارة الليبرالية (تكلم لكن لا تمد يدك). وهكذا أيضًا تجد التأزمات الحديثة مع منظومة التشريعات المخالفة لغلو الحرية في الثقافة الليبرالية، مثل: عقوبة المرتد، وأحكام أهل الذمة، وجهاد الطلب، الخ.
 

التعامل مع ضحايا الاستبداد

ومع ذلك كله.. فكلا الشريحتان، أعني ضحايا الاستبداد الداخلي، وضحايا الاستبداد الخارجي؛ يحتاجان من دعاة الإسلام إلى الرفق والهدوء، وأن يوضحوا لضحايا الاستبدادين كيف يخرجون من هذا الخنوع الذي يعيشونه؟ وكيف يتنفسون الاستقلال الحقيقي المتكامل؟ وكيف يتحررون من كافة أشكال الاستبداد؟. بحيث لا يرضى المثقف المسلم بأن يكون رقيقًا لمستبد داخلي يشرعن أوامره الهرقلية، ولا رقيقًا لمستبد خارجي يشرعن ثقافته الليبرالية.
 
وما أكثر ما يكون ضحية الاستبداد غير واعٍ بحاله، يتوهم أنه مستقل وهو يرسف في الأصفاد منذ أزمان..
 
وأهم وسائل العلاج على الإطلاق: ضخ مفاهيم العزة والكرامة والإباء والشموخ وقيمة المسلم ونحو هذه المنظومة المفاهيمية، بحيث يتأبى من نشأ في مثل هذه الثقافة العزيزة الشامخة أن يخنع وينصاع لمستبد داخلي لا يراك أهلًا لأن تشارك في القرار، ويطلب منك أن تمد معاريضك فقط، أو مستبد خارجي لا يراك أهلًا لأن يكون لك منظومتك التشريعية الخاصة، فيهينك لكي تكون تبعًا له تؤمن بالحرية الليبرالية والديمقراطية وتؤول نصوص الله ورسوله لكي تتوافق مع ثقافته الغربية.

 


 

المصدر:

http://iswy.co/e11vdl

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#إبراهيم-السكران #الاستبداد
اقرأ أيضا
موقف شحرور من وجود الله | مرابط
فكر مقالات

موقف شحرور من وجود الله


يقول شحرور: الإيمان بالله عندي تسليم وأنا مسلم بوجود الله واليوم الآخر وهذه مسلمة والمسلمة هي أمر لا يمكن البرهان عليه علميا كما لا يمكن دحضه علميا ولهذا لا يجوز للملحد المنكر لوجود الله أن يقول: أنا ملحد لأن الإلحاد موقف علمي ولا يجوز للمؤمن بوجود الله في المقابل أن يقول: أنا مؤمن لأن الإيمان موقف علمي وعندي أن الإلحاد أو الإيمان خيار يختاره الشخص بنفسه ولنفسه وفي هذا المقال فحص وتمحيص لمسألة وجود الله عند شحرور

بقلم: يوسف سمرين
2708
التصور الإسلامي للنسوية: الجزء الثاني | مرابط
فكر مقالات النسوية

التصور الإسلامي للنسوية: الجزء الثاني


تستعرض المؤلفة في هذا المقال بعض القواعد والأسس والكليات والأصول الدينية التي فيها رد ضمني على منطلقات التيار النسوي ومرتكزاته وأعمدته الفلسفية والفكرية سنرى هنا كيف تعامل الإسلام مع المرأة وما هي صورة المرأة في الإسلام هل فعلا هناك ظلم واقع عليها أم لا وهل هناك دونية أو نظرة استعلاء من قبل الرجل للمرأة في الإسلام أم لا وغير ذلك من التساؤلات والمرتكزات النسوية

بقلم: د وضحى بنت مسفر القحطاني
2263
القيمة الاجتماعية لأفكار القرآن | مرابط
تعزيز اليقين مقالات

القيمة الاجتماعية لأفكار القرآن


إذا أردت أن تشهد العبقرية الاجتماعية للتشريع الإسلامي عليك أن تتوقف أمام أزمة الخمر في المجتمع العربي قبل وبعد الإسلام وترى كيف تم التدرج في تحريمها بداية من العامل النفسي وصولا إلى التحريم الصارم ثم تقارن كل هذا بمحاولة أمريكا في القرن الماضي للتغلب على أزمة الخمر في مجتمعها وترصد الفوارق الشاسعة بين الطريقتين وهذا بالضبط ما يقدمه المقال

بقلم: مالك بن نبي
2171
أبرز آراء النسوية الراديكالية: إعلان الحرب ضد الرجال | مرابط
مقالات النسوية

أبرز آراء النسوية الراديكالية: إعلان الحرب ضد الرجال


أعلنت الأنثوية حربا شعواء ضد الرجل ورفعت شعارات من قبيل الرجال طبقة معادية والحرب بين الجنسين بل وصل حد المطالبة بالقتال من أجل عالم بلا رجال ووصل الحد بالمناداة باستعمال القسوة والعنف مع الرجال إلى حد أن هناك منظمة أنثوية أمريكية معرفة بحركة تقطيع أوصال الرجال تنادي باستئصال شأفة الرجال في المجتمع

بقلم: مثنى أمين الكردستاني
2401
المعاصي في سجن الشيطان | مرابط
اقتباسات وقطوف

المعاصي في سجن الشيطان


ومن عقوبات الذنوب أن العاصي دائما في أسر شيطانه وسجن شهواته وقيود هواه فهو أسير مسجون مقيد ولا أسير أسوأ حالا من أسير أسره أعدى عدو له ولا سجن أضيق من سجن الهوى ولا قيد أصعب من قيد الشهوة فكيف يسير إلى الله والدار الآخرة قلب مأسور مسجون مقيد وكيف يخطو خطوة واحدة

بقلم: ابن القيم
750
الحسد يصد عن الحق | مرابط
اقتباسات وقطوف

الحسد يصد عن الحق


أحيانا يمتنع المخالف عن اتباع الحق ليس لوجود حجة عقلية أو دليل يجهله أو أي مانع خارجي يمنعه وإنما يرجع الأمر في النهاية إلى الحسد الداخلي الحسد هو الذي يدفعه إلى المكابرة وإلى صد الحق والابتعاد عنه وفي هذا المقتطف يتحدث الإمام ابن القيم عن الحسد وكيف أنه يمثل جسرا لترك الحق والصد عنه

بقلم: ابن قيم الجوزية
1901