هناك مشكلة في تاريخ الإنسانية لا تفتأ تواجهها وخاصة في هذه الأيام، تلك هي مشكلة الخمر. والحق أنه للمرة الأولى في التاريخ الإنساني وجهت هذه المشكلة في القرآن، وحُلّت بطريقة معينة، فكيف كان ذلك؟
التعامل الإسلامي مع مشكلة الخمر
ها هو ذا التخطيط النفسي والتشريعي لهذا القرار الذي حدث للمرة الأولى في تشريع أحد المجتمعات الإنسانية:
أولا: "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا"
وهنا وقفة أولى.
وثانيًا: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ"
وهذا هو الموقف الثانية.
ثالثًا: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ"
هذا هو المسلك الشرعي الذي اتبعه القرآن من أجل أن يواجه مشكلة الخمر الخطيرة ويحلها، فما هو أثر هذا التشريع؟
إن الإحصاء في البلاد الإسلامية، حتى المتدهورة منها، يدلنا على قلة تعاطي الخمر فيها، بينما تعاني الإنسانية منها -بكل أسف- في البلاد المتحضرة، فالعالم الإسلامي بوجه عام يجهل منذ ثلاثة عشر قرنا هذه النكبة، فكيف أحرز تحريم الخمر في القرآن هذا النجاح؟
إنه المنهج دون أدنى شك، ذلك الذي عرضناه عرضا تخطيطيا ينتهي بأمر شرعي صارم. والواقع أن النص الأول يثير آثام الخمر في الضمير المسلم فحسب، وقد كانت هذه هي الطريفة المتحفظة لإثارة المشكلة وتسجيلها بصورة ما في عداد الهموم الاجتماعية لمجتمع ناشئ، وبهذه الطريقة أمكن للمشكلة أن تشق طريقها في ضمير الصفوة المختارة في هذا المجتمع الذي يحكمه الدافع الخلقي.
فالموقف الأول سيكون إذن مرحلة (حضانة) ضرورية، هي المرحلة النفسية للمشكلة وعلى أساس هذا البناء الفاضل للضمير المسلم يقوم النص التحديدي في الآية الثانية "لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ"
فهنا تحديديا، ﻷنه لكيلا نكون سكارى خلال أوقات الصلوات الخمس، يجب ألا نقرب السكر أبدًا، فهو يهدف إلى أن يطهر مدمني الخمر تدريجيا، وإلى أن يرتب حظرًا خلقيًا، قبل أن يسن التحريم النهائي، وتوضع العقوبة المجازية لارتكاب الجرم المحرم.
وبهذه الطريقة تحاشى القرآن أن يثير في الوقت نفسه مشكلة اقتصادية هي مشكلة تجارة الخمر، إذ كانت هذه التجارة قد نمت واتسعت، حتى خلع عليها عرب الجاهلية ألقابا كثيرة يعينون بها مطالبهم من أنواع الخمور، ولقد ظلت الكلمة المشهورة لامرئ القيس، والتي قالها عندما أعلموه بموت أبيه، شاهدا تاريخيا على إسراف العرب قبل الإسلام في تعاطي الخمر، قال هذا الشاعر ساعتئذ "اليوم خمر وغدًا أمر"
ففي هذا الوسط الذي انتشر فيه شرب الخمر وتجارتها، أثار القرآن المشكلة، وكان من المصلحة أن يتدرج في تكييف الحالة الاقتصادية الجديدة وربما كان هذا هو الذي يعلل الموقف الثاني قبل التحريم النهائي.
التجربة الأمريكية في التعامل مع الخمر
ولعلنا نستطيع أن ندرك أهمية هذه الاعتبارات عن الظاهرة القرآنية لو لم يكن لدينا مثال آخر لتشريع إنساني نجعله أساسا لموازنة الخطة القانونية، فقد أثارت المشكلة بعد ذلك بثلاثة عشر قرنا من الزمان اهتمام المشرعين في أمة، لعلها أرقى الأمم حضارة، هي الولايات المتحدة الأمريكية، وسنضع هنا كما فعلنا قبل ذلك تخطيطا لخطوات هذا التشريع الذي رأى النور في أمريكا في صورة تعديل دستوري عام 1919م
فحوالي عام 1918م ثارت المشكلة في الرأي العام الأمريكي، وفي عام 1919م أدخل في الدستور الأمريكي تحت عنوان (التعديل الثامن عشر) وفي السنة نفسها أيد هذا التعديل بأمر حظر أطلق عليه التاريخ قانون "فولستد" وقد أعدت لتنفيذ هذا التحريم داخل الأراضي الأمريكية وسائل، هي:
1-الأسطور أجمعه لمراقبة الشواطئ
2-الطيران لمراقبة الجو
3-المراقبة العلمية
فماذا كان حل الموقف؟
فشل كامل لأمر الحظر، وسقوط قرره التعديل الدستوي الحادي والعشرون الذي صدق عليه الكونجرس عام 1933م .. وذلك هو الموجز التاريخي للمأسات التشريعية بأكملها، تلك التي سميت في تاريخة الأمة الأمريكية "عهد التحريم"
وبعد ففي ضوء القرآن يبدو الدين ظاهرة كونية تحكم فكر الإنسان وحضارته، كما تحكم الجاذيبة المادة، وتتحكم في تطورها. والدين على هذا يبدو وكأنه مطبوع في النظام الكوني، قانونا خاصا بالفكر، الذي يطوف في مدارات مختلفة، من الإسلام الموحد إلى أحط الوثنيات البدائية، حول مركز واحد، يخطف سناه الأبصار، وهو حافل بالأسرار.. إلى الأبد
المصدر:
- الظاهرة القرآنية، مالك بن نبي، ص 297