القيمة الاجتماعية لأفكار القرآن

القيمة الاجتماعية لأفكار القرآن | مرابط

الكاتب: مالك بن نبي

2100 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

هناك مشكلة في تاريخ الإنسانية لا تفتأ تواجهها وخاصة في هذه الأيام، تلك هي مشكلة الخمر. والحق أنه للمرة الأولى في التاريخ الإنساني وجهت هذه المشكلة في القرآن، وحُلّت بطريقة معينة، فكيف كان ذلك؟

 

التعامل الإسلامي مع مشكلة الخمر

 

ها هو ذا التخطيط النفسي والتشريعي لهذا القرار الذي حدث للمرة الأولى في تشريع أحد المجتمعات الإنسانية:

 

أولا: "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا"

وهنا وقفة أولى.

 

وثانيًا: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ"

وهذا هو الموقف الثانية.

 

ثالثًا: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ"

 

هذا هو المسلك الشرعي الذي اتبعه القرآن من أجل أن يواجه مشكلة الخمر الخطيرة ويحلها، فما هو أثر هذا التشريع؟

 

إن الإحصاء في البلاد الإسلامية، حتى المتدهورة منها، يدلنا على قلة تعاطي الخمر فيها، بينما تعاني الإنسانية منها -بكل أسف- في البلاد المتحضرة، فالعالم الإسلامي بوجه عام يجهل منذ ثلاثة عشر قرنا هذه النكبة، فكيف أحرز تحريم الخمر في القرآن هذا النجاح؟

 

إنه المنهج دون أدنى شك، ذلك الذي عرضناه عرضا تخطيطيا ينتهي بأمر شرعي صارم. والواقع أن النص الأول يثير آثام الخمر في الضمير المسلم فحسب، وقد كانت هذه هي الطريفة المتحفظة لإثارة المشكلة وتسجيلها بصورة ما في عداد الهموم الاجتماعية لمجتمع ناشئ، وبهذه الطريقة أمكن للمشكلة أن تشق طريقها في ضمير الصفوة المختارة في هذا المجتمع الذي يحكمه الدافع الخلقي.

 

فالموقف الأول سيكون إذن مرحلة (حضانة) ضرورية، هي المرحلة النفسية للمشكلة وعلى أساس هذا البناء الفاضل للضمير المسلم يقوم النص التحديدي في الآية الثانية "لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ"

 

فهنا تحديديا، ﻷنه لكيلا نكون سكارى خلال أوقات الصلوات الخمس، يجب ألا نقرب السكر أبدًا، فهو يهدف إلى أن يطهر مدمني الخمر تدريجيا، وإلى أن يرتب حظرًا خلقيًا، قبل أن يسن التحريم النهائي، وتوضع العقوبة المجازية لارتكاب الجرم المحرم.

 

وبهذه الطريقة تحاشى القرآن أن يثير في الوقت نفسه مشكلة اقتصادية هي مشكلة تجارة الخمر، إذ كانت هذه التجارة قد نمت واتسعت، حتى خلع عليها عرب الجاهلية ألقابا كثيرة يعينون بها مطالبهم من أنواع الخمور، ولقد ظلت الكلمة المشهورة لامرئ القيس، والتي قالها عندما أعلموه بموت أبيه، شاهدا تاريخيا على إسراف العرب قبل الإسلام في تعاطي الخمر، قال هذا الشاعر ساعتئذ "اليوم خمر وغدًا أمر"

 

ففي هذا الوسط الذي انتشر فيه شرب الخمر وتجارتها، أثار القرآن المشكلة، وكان من المصلحة أن يتدرج في تكييف الحالة الاقتصادية الجديدة وربما كان هذا هو الذي يعلل الموقف الثاني قبل التحريم النهائي.

 

التجربة الأمريكية في التعامل مع الخمر

 

ولعلنا نستطيع أن ندرك أهمية هذه الاعتبارات عن الظاهرة القرآنية لو لم يكن لدينا مثال آخر لتشريع إنساني نجعله أساسا لموازنة الخطة القانونية، فقد أثارت المشكلة بعد ذلك بثلاثة عشر قرنا من الزمان اهتمام المشرعين في أمة، لعلها أرقى الأمم حضارة، هي الولايات المتحدة الأمريكية، وسنضع هنا كما فعلنا قبل ذلك تخطيطا لخطوات هذا التشريع الذي رأى النور في أمريكا في صورة تعديل دستوري عام 1919م

 

فحوالي عام 1918م ثارت المشكلة في الرأي العام الأمريكي، وفي عام 1919م أدخل في الدستور الأمريكي تحت عنوان (التعديل الثامن عشر) وفي السنة نفسها أيد هذا التعديل بأمر حظر أطلق عليه التاريخ قانون "فولستد" وقد أعدت لتنفيذ هذا التحريم داخل الأراضي الأمريكية وسائل، هي:

 

1-الأسطور أجمعه لمراقبة الشواطئ
2-الطيران لمراقبة الجو
3-المراقبة العلمية

 

فماذا كان حل الموقف؟

 

فشل كامل لأمر الحظر، وسقوط قرره التعديل الدستوي الحادي والعشرون الذي صدق عليه الكونجرس عام 1933م .. وذلك هو الموجز التاريخي للمأسات التشريعية بأكملها، تلك التي سميت في تاريخة الأمة الأمريكية "عهد التحريم"

 

وبعد ففي ضوء القرآن يبدو الدين ظاهرة كونية تحكم فكر الإنسان وحضارته، كما تحكم الجاذيبة المادة، وتتحكم في تطورها. والدين على هذا يبدو وكأنه مطبوع في النظام الكوني، قانونا خاصا بالفكر، الذي يطوف في مدارات مختلفة، من الإسلام الموحد إلى أحط الوثنيات البدائية، حول مركز واحد، يخطف سناه الأبصار، وهو حافل بالأسرار.. إلى الأبد

 


 

المصدر:

  1. الظاهرة القرآنية، مالك بن نبي، ص 297
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#مالك-بن-نبي #إشكالية-الخمر
اقرأ أيضا
مطالعة في كتاب إسلام السوق لباتريك هايني | مرابط
فكر مناقشات

مطالعة في كتاب إسلام السوق لباتريك هايني


في عام 2005م نشر الباحث السويسري باتريك هايني رصدا لنمط جديد من التدين -بحسب رؤية الباحث- وذكر أن البحوث الغربية الحديثة لم تسلط الضوء عليه هذا النمط الجديد من التدين ذكر الباحث أن له منظومة عناصر وهي: مركزية الفردانية وبحث المتدين الجديد عن مشروعات شخصية وتمجيد التجارة والاستثمار والبزنس والاستغراق في أدبيات الفكر الإداري الأمريكي كالتنمية البشرية وتحقيق الذات وعلم النجاح والاستمتاع بالحياة ونحوها وغلبة النزعة الاستهلاكية والرفاه والاهتمام بالماركات في الزي ونحوه ومن ذلك تفريغ الحجاب من مض

بقلم: إبراهيم السكران
2019
ليس عندكم إلا ابن تيمية؟ | مرابط
أباطيل وشبهات

ليس عندكم إلا ابن تيمية؟


هنا إشكالية أجنبية عن مسألتنا أجدني مضطرا إلى معالجتها قبل الولوج لمناقشة شبهة تعارض العقل والنقل وهو إستطراد اضطراري لمعالجة إشكالية يكثر تداولها عند إستجلاب أي كاتب سلفي لابن تيمية رحمه الله في مثل هذه السياقات وتتلخص هذه الإشكالية في الإعتراض الشهير: أنتم ليس عندكم إلا ابن تيمية؟

بقلم: عبد الله العجيري
595
نشأة علم النحو وأهميته | مرابط
إنفوجرافيك لسانيات

نشأة علم النحو وأهميته


يأتي علم النحو على رأس علوم اللغة العربية فهو مفتاح كل شيء تقريبا ولن تستطيع أن تفهم المراد من العبارات والجمل إلا إذا كنت مدركا لأساسيات النحو العربي على الأقل فتغيير التشكيل وأواخر الكلمات قد يغير المعنى تماما أو يحرف المراد منه وبين يديكم تبسيط لنشأة النحو وأهميته من كلام العلماء

بقلم: أكاديمية زاد
569
نتن الملاحدة | مرابط
الإلحاد

نتن الملاحدة


وما شأن الملحدة إن تكفر تملأ صفحتها بصور عارية لها أو لنساء ورجال يفحشون ببعضهم البعض ولا تتحدث إلا بالإقذاع والزور على أمهات المؤمنين والإفك والبهتان على المحجبات والصالحين وتفح حقدا ولا تطيق صبرا أن تبيد حواضر الإسلام ويذل أهله

بقلم: عمرو عبد العزيز
393
استمداد المذاهب من خارج أهلها | مرابط
تعزيز اليقين فكر مقالات

استمداد المذاهب من خارج أهلها


يتصور البعض أن المذاهب الفقهية أسوار مغلقة أقرب إلى القنوات المتجاورة التي تسير بجنب بعضها لكنها لا تتمازج أي أنها كانت تجتهد وتفكر وتنتج داخل فضائها الفقهي الخاص فقط وهذا غير دقيق فهناك فقهاء يمكن تسميتهم الفقهاء العابرين للحدود وهم فقهاء أثروا على مذاهب أخرى تأثيرا جوهريا أوجزئيا وفي هذا المقال يناقش المؤلف هذه المسألة ويحلق بنا في فضاء الفقه الإسلامي

بقلم: إبراهيم السكران
1434
هل تؤمنين بالله حقا؟ | مرابط
المرأة

هل تؤمنين بالله حقا؟


إن المرأة التي تحرص على إبراز مفاتنها عبر منعطفات جسمها وحركة لحمها وتعصر غلائل ثوبها على بدنها إمعانا في استعراض مسالك عورتها وحجم وركها! وتفاصيل أنوثتها مقبلة ومدبرة تشتهي سماع كلمة ساقطة من شاب ساقط! أو كما قالت العرب: لا ترد يد لامس! لهي امرأة غبية حقا! إنها تختزل إنسانيتها في صورة حيوان!

بقلم: فريد الأنصاري
267