الغاية من الوجود

الغاية من الوجود | مرابط

الكاتب: أحمد يوسف السيد

2552 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

إذا كان كل شيء في هذا الكون -ابتداء من أصغر ذرة في جسم الإنسان مرورا بالمجرات، وانتهاء بما لا يزال يكتشف إلى اليوم في هذا الكون الفسيح- يدل على أنه ليس نتاج الصدفة، فإنه يدل -كذلك- على وجود الغاية وانتفاء العبثية وراء إيجاده.

وإثبات الغاية ونفي العبثية هو أمر زائد على مجرد نفي الصدفة والعشوائية؛ فإن نفي الصدفة يعني أن هناك سببا مناسبا وراء الشيء الذي حدث -فقط-، وأما نفي العبثية فيعني أن هذا السبب كان له حكمة وغاية وقصد في إيجاد ما أوجد وليس لمجرد العبث.

 

وإذا نظرت إلى هذا الكون العظيم، فستجد أن:

– إتقانه المذهل،

– وإحكامه المعجز،

– وجماله المدهش،

– وتناسقه العجيب،

– وسيره على قوانين منتظمة وثوابت كونية -أجبرت العلماء على اتساع أحداقهم اندهاشا من هذا التناهي في الدقة-،

 – وانضباطه في أدق الأشياء وأصغرها  -كالخلية وما فيها من عمل معجز، وما تحويه من المعلومات الوراثية الدقيقة،

– وغير ذلك مما لا ينتهي من شواهد الدقة في الكون والإنسان.

كل ذلك ينفي عند العاقل المتأمل فكرة العبثية وانعدام الغاية في إيجاده، فإن الأمر كما قال الله: {لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين} [الأنبياء:١٧]، فلماذا كل هذا الإتقان المخيف إذا كانت القضية مجرد لعب ولهو وعبث؟

{أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون (١١٥) فتعالى الله الملك الحق صلى الله عليه وسلم لا إلٰه إلا هو رب العرش الكريم (١١٦)}[المؤمنون: ١١٥-١١٦]

 

ما هذه الغاية العظيمة؟

فوجود الغاية والحكمة العظيمة ظاهر من خلال التأمل في المخلوقات واستعمال مبدأ (دلالة الأثر على المؤثر) ولكن السؤال: ما هي هذه الغاية العظيمة؟ وكيف نعرفها؟

إذا نحن أثبتنا وجود الخالق العظيم الحكيم، ثم أثبتنا بالدلائل والبراهين أنه أرسل رسلا وأنزل كتبا؛ ليبين للناس  ما يريد منهم -وسيأتي ذكر هذه البراهين إن شاء الله-؛ فإن البحث عن الجواب من خلال رسالة الله الخالق -نفسه- والاهتداء بالعلم الذي أنزله على رسله هو عين العقل ومقتضى الحكمة الصحيحة.
فإن الإنسان إذا وقف -أثناء رحلة بحثه عن هذا السؤال الكبير- على مصدر يهديه ويرشده، وثبت لديه أن هذا المصدر سبب كل معرفة، وأصل كل علم، وأن هذا المصدر هو سبب الوجود كله؛ فإن إعراضه عنه، وبحثه عن غيره لا يدل إلا على جهل أو استكبار.

إن الله سبحانه وتعالى كما جعل للناس علامات وقوانين يهتدون بها إلى طرق البر والبحر والجو، ويتفاعلون معها وينطلقون على ضوئها إلى آفاق مادية عظيمة، فإنه جعل للناس علامات يهتدون بها إلى الحقائق الغائية المعرفية  الكبرى التي أوجد الكون لأجلها.

فإلى أين يذهب الإنسان في الأودية الموحشة بعيدا عن أنوار الوحي الذي أنزله الله؛ لينير عقل الإنسان ويسكن روحه؟

لقد جرب الإنسان ركوب سفينة آرائه المحضة، وخوض بحار البحث عن حقائق الكون الكبرى دون استعانة بأي أدلة خارجية، فلم يصل إلى ما يشفي صدره من الجواب.

نعم؛ قد يتوصل بنظره العقلي الصحيح -إن سلم من المعارض وكان متجردا (وما أقل المتجردين)- إلى إثبات وجود  خالق لهذا الكون، وإلى بعض ما ينبغي أن يكون عليه من صفات، وإلى ضرورة انعدام العبثية وراء هذا الخلق، لكن: هل هذا كل شيء؟

 

وجود الغاية وانعدام العبثية

إننا إذا عرفنا ضرورة انعدام العبثية، وتأكدنا من وجود غاية عظيمة؛ فكيف السبيل إلى تحديد هذه الغاية؟
إن الإنسان يريد الوصول إلى معرفة تفصيلية بخالقه وخالق كل شيء، يريد أن يتعرف عليه، ويتواصل معه، إنه يشعر في نفسه بالتعظيم تجاهه، لكن يريد أن يعرف كيف يعظمه على الوجه الذي يحبه؟ يريد أن يمجده، ويثني عليه، إنه يريد من هذا الخالق العظيم جبر كسره، وتقوية ضعفه، وإنارة دربه.
إن الإنسان يريد أن يعرف مبدأه ومصيره، يريد أن يعرف ما يريده الخالق منه ، فهو يحتاج إلى بيان شاف ممن يعلم حقائق كل شيء، ويحيط بها سبحانه، يسهل عليه معرفة ما وراء المحسوس، ويكشف له جواب ما يقلق عقلهمن تساؤلات.

ولأن الخالق سبحانه كامل الصفات، فقد اقتضت حكمته ورحمته أن يبين للإنسان هذه الحقائق، وأن يكون بيانه لها عن طريق صفوة من البشر، بلغوا الغاية في الصدق والأمانة والتقى،
يختارهم الله بعلمه: {فالله أعلم حيث يجعل رسالته}_[الأنعام:١٢٤]، ويقيم الدلائل على صدق رسالتهم، وصحة نبوتهم.

 

القرآن الكريم

إن المتأمل في القرآن الكريم -الذي هو آخر رسالة ينزلها الله على عباده- سيجد أن حظا كبيرا من آياته تعرفنا بالله سبحانه، بل إن أعظم آية في هذا الكتاب العظيم إنما هي تعريف بالله -آية الكرسي-، وأعظم سورة في القرآن إنما هي حمد لله وثناء عليه وتوكل عليه واستعانة به -سورة الفاتحة-، وكذلك السورة التي ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها تعدل ثلث القرآن –الإخلاص- إنما هي تعريف بالله تعالى وتمجيد له.
قال سبحانه: "الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما" [الطلاق:١٢]

فهذه الرسالة الإلهية الخاتمة تعرف البشرية بعظمة وجلال وكمال خالقهم، كما أنها تعرفهم بأن إراداتهم الحرة محل لابتلاء الله لهم؛ ليعبدوه طوعا واختيارا، فيثيب مطيعهم بأعظم الثواب، ويعاقب عاصيهم بأشدالعقاب، فقال تعالى: {تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير (١) الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور}[الملك:١-٢] وقال سبحانه: {وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا}[هود:٧]. وقال سبحانه: {إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون}[يونس:٤].

ويبين الله تعالى في آيات كثيرة من كتابه أنه غني عن عباده، وأنه غير محتاج إليهم، وأن من اهتدى وأطاع فقد فاز وحصل الربح لنفسه، ومن ضل وابتعد فقد خسر وكان الوبال عليه.

ويذكر عباده أن وراء إيجاده لهم أمرا عظيما؛ من معرفة الحق والباطل والخير والشر، وما يتبع ذلك من انقسام الناس بينهما ثم الصراع بين الفريقين الذي يستخرج أحسن ما في الوجود من كمال مخلوق، وأسوأ ما فيه من الشر، وفي ذلك أعظم آية على كمال الله المتفرد الذي يخضع له أحسن ما في الوجود اختيارا.
قال الله تعالى: {وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين (١٦) لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين (١٧) بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون}[الأنبياء:١٦-١٧-١٨] وقال: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون(١١٥) فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم}[المؤمنون:١١٥-١١٦]

وقال تعالى: {أيحسب الإنسان أن يترك سدى}[القيامة:٣٦] قال الشافعي رحمه الله: السدى: الذي لا يؤمر ولا ينهى! وقال في غاية البيان: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}[الذاريات:٥٦]

وقال الله تعالى: "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين (١١٨) إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم" [هود:١١٨-١١٩].

 

إن الغاية من الوجود إذا، هي:

– معرفة الله العظيم.

– التقرب إليه اختيارا.

– إثابة المحسنين بأعظم النعيم.

– إيجاد الحق والباطل امتحانا واختبارا؛ لينتج عن ذلك اصطفاء أفضل المخلوقات وإبعاد أرذلهم ومعاقبتهم.

– ظهور آثار صفات الله سبحانه من العلم والخلق والحكمة والقدرة والعزة والرحمة …إلخ من غير احتياج لهم.

– هذا شيء مما ظهر لنا من الحكمة في ذلك، ولا يحيط أحد بحكمة الله علما، والله سبحانه لا يسأل عما يفعل، وهو الأعلم بتمام حكمته، ونحن نجتهد في فهم ما بينه لنا منها، وهو غني عنا وعن فهمنا وعبادتنا، سبحانه وتعالى.


المصدر:

أحمد بن يوسف السيد، كامل الصورة، ص19

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#كامل-الصورة #الغاية-من-الوجود
اقرأ أيضا
لماذا نصوم الجزء الأول | مرابط
تفريغات

لماذا نصوم الجزء الأول


الصيام من أركان الإسلام عبادة لا يفوتها أي مسلم العالم منهم والعامي ولكن كثيرا من المسلمين لا يعرفون لماذا نصوم وما هي حكمة الصيام وكيف نؤدي هذه العبادة على وجهها الصحيح وبين يديكم تفريغ لمحاضرة هامة لأبي بكر الجزائري يجيب فيها عن هذا السؤال: لماذا يصوم المسلمون

بقلم: أبو بكر الجزائري
875
من آداب المناظرة | مرابط
مناظرات

من آداب المناظرة


ولا يكن غرضك أن توهم نفسك أنك غالب أو توهم من حضرك ممن يغتر بك ويثق بحكمك أنك غالب وأنت بالحقيقة مغلوب فتكون خسيسا وضيعا جدا وسخيفا البتة وساقط الهمة

بقلم: ابن حزم
388
البحث عن مصدر القرآن الكريم ج2 | مرابط
أباطيل وشبهات تعزيز اليقين مقالات

البحث عن مصدر القرآن الكريم ج2


كان القرآن في مكة يقص على المسلمين من أنباء الرسل ما يثبت فؤادهم ويعدهم الأمن والنصر الذي كان لمن قبلهم ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد فلما هاجروا إلى المدينة فرارا بدينهم من الفتن ظنوا أنهم قد وجدوا مأمنهم في مهاجرهم ولكنهم ما لبثوا أن هاجمتهم الحروب المسلحة من كل جانب فانتقلوا من خوف إلى خوف أشد.

بقلم: محمد عبد الله دراز
344
خير الأمة العربية | مرابط
اقتباسات وقطوف

خير الأمة العربية


لست امرءا قانطا ولا متشائما ولا يائسا من خير هذه الأمة العربية بل لعلني أشد إيمانا بحقيقة جوهرها وطيب عنصرها وكرم غرائزها بل لعلني أشد إيغالا في الإيمان بأنها صائرة إلى السؤدد الأعظم والشرف السرى والغلبة الظاهرة إن شاء الله وأنها هي الأمة التي أرصدها بارئ النسم

بقلم: محمود شاكر
464
مراجعات نقدية للخطاب المدني الديمقراطي ج1 | مرابط
فكر مقالات الديمقراطية

مراجعات نقدية للخطاب المدني الديمقراطي ج1


من المقدمات المنهجية الأساسية التي ينبغي التنبه لها في البدء أن قضايا النهضة والإصلاح والتغيير يجب أن يكون منطلقها منطلقا إسلاميا شرعيا وإذا كان المنطلق غير إسلامي ولا شرعي فإنه لن يتحقق شيء من ثمراتها بمعناها الشامل والمشروع والمرضي لله تعالى وربما تتحقق بعض المكاسب الدنيوية والانتصارات المؤقتة لكنها ليست النهضة والإصلاح المطلوبة من المسلم

بقلم: الدكتور عبدالرحيم بن صمايل السلمي
1217
الفروق بين الجنسين | مرابط
أباطيل وشبهات تعزيز اليقين المرأة

الفروق بين الجنسين


ربما يكون التحدي الأكبر الذي يواجه الاعتراف بالفوارق بين الجنسين اليوم هو ميل المجتمعات الحديثة إلى قياس قيمة النساء اليوم بمقارنتهن بالرجال بدلا من مقارنتهن بأفضل النسخ الممكنة من أنفسهن أقصى إمكاناتهن الآثار الاجتماعية والنفسية والعاطفية السلبية لهذه المقارنة المضللة مروعة

بقلم: مجلة أوج
522