القواعد العشر في الدعوة إلى الله

القواعد العشر في الدعوة إلى الله | مرابط

الكاتب: فريد الأنصاري

227 مشاهدة

تم النشر منذ سنة

تبصرة: القواعد العشر في الدعوة إلى الله

١- {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ}.
٢- {ثُمَّ اسْتَقَامُوا}.
٣- {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا} عدها واحدة إلى قوله تعالى: {نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ}.
٤- {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ}.
٥- {وَعَمِلَ صَالِحًا}.
٦- {وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}.
٧- {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ}.
٨- {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}.
٩- {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}.
١٠- {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.

هذا هو الظاهر الجلي، ولكن يجوز أن تجد أكثر، فالقرآن بحر زاخر بالكنوز، لا يحصي معانيه إلا الله جل جلاله.

ربنا الله

أما القاعدة الأولى: فهي أن (قول: ربنا الله) إعلان للتوحيد. تدبر .. إنه (قول). وهذا شيء مهم في حد ذاته، (فقوله) ذلك إعلان له، ودعوة إليه، وترسيخ له في المجتمع. ألم تسمع قول النبي صلى الله عليه وسلم للذي سأله: أن يقول له في الإسلام شيئًا، لا يسأل عنه أحدًا بعده؛ فقال له صلى الله عليه وسلم: «قل آمنت بالله فاستقم»، وفي رواية أخرى: «ثم استقم». هكذا (قل) تصريحًا لا تلميحًا، إعلانًا وإشهارًا لا تورية وتقية، {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل:١٠٦].

فإنما أصل الدين إعلان توحيد الله، ورفع راية (لا إله إلا الله). فارفعها يا صاح عاليًا عاليًا، ارفعها فوق كل راية؛ حتى لا تظهر فوقها راية، {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه} [الأنفال:٣٩]. قل: (آمنت بالله) حيثما حللت وارتحلت! قلها في كل مكان .. أعلن تدينك ولا تخفيه، أشهر سلوكك الإسلامي، وانتماءك الحضاري، وصبغتك الربانية، وكونك من أمة محمد صلى الله عليه وسلم! عش بهذا المنطق، وبهذا الشعور واعتز به، ولا تخجل! {إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الزخرف:٤٣]، إنه مبعث الفخر إذا افتخرت الأمم بتفاهاتها المادية، وخزعبلاتها الفكرية، هذا دين رب الكون كله فاعتز به، {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [المنافقون:٨].

{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ}، تلك هي القاعدة الأولى، فاحفظها بوجدانك، فقد جعلها الله أول شرط الفلاح، فاعرف ربك وعرف به، على ما فصلنا في البلاغ الثاني من هذا الكتاب، تكن قد قلت: ربنا الله.

الاستقامة

وأما القاعدة الثانية: فهي الاستقامة على قولك ربنا الله .. {ثُمَّ اسْتَقَامُوا}؛ أي الالتزام بما أقررت، والوفاء بما شهدت به على نفسك، وشهد به عليك الله، والملائكة، والناس أجمعون. ذلك صراط مستقيم أقررت به، فاستقم عليه عقيدةً وسلوكًا، ظاهرًا وباطنًا، خوفًا ورجاء؛ تكن من الصادقين. ذلك أن الاستقامة على توحيد الله -معرفةً وتعريفًا- في ربوبيته وألوهيته، وما تفرع عن هذه وتلك، من معان رفيعة سامية، كعبادته تعالى بما له من أسماء حسنى وصفات عُلَى، إثباتًا لها، ودعاءً بها، وسيرًا إليه في أنوارها .. كل ذلك وما في معناه من مقتضياته يجعلك مسلمًا حقًّا، ويحقق وعد الله فيك من الأمن في الدنيا والآخرة. وبيانه كما يلي:

التبشير وعدم التنفير

القاعدة الثالثة: التبشير وعدم التنفير، وذلك ببناء الكلام في الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ على قصد تحبيب العباد في رب العباد. إذ على ذلك ينبني مفهوم الخوف والرجاء. انظر كيف بشر الله من استقام على ذلك بالجنة وبالولاية الربانية الحقة، والنجاة من غضبه وعذابه. إنه شعور جميل جدًّا. شعور بالأمن الروحي، والسلام الوجداني، يفيض بالقلب المؤمن الصادق. إن العبد ليجد جمال الكرم الإلهي في نفسه، ونور رحمته ينبعث من صدقه، في توجهه وسيره إلى الله، مع خوفه من زوال ذلك؛ مما ينشط حركة سيره، وسرعة إقباله على ربه رغبًا ورهبًا. فـ (البشرى) هي أعظم ما يحب الإنسان أن يسمع في حياته. وهي أرفع منازل الدعوة إلى الله، وأرقاها غاية ووسيلة. إلا أنه معلوم شرعًا وعقلًا؛ أن البشرى لا تتحقق؛ إلا إذا لابسها خوف عدم حصول المرتجى.

فالتخويف أساس لتحقيق التبشير؛ ولذلك قلما ذكر الترغيب في القرآن إلا وذكر معه الترهيب. فهما حقيقتان متلازمتان. إلا أن ضابط ذلك وجماعهما هو التحبيب. أي لا يجوز أن يُفَرِّط المرء في أحدهما، أو يُفْرِط؛ بما يؤدي إلى تنفير النفس عن المقصود، وتيئيسها من الله والعياذ بالله. بل يجب أن يكون التخويف على قدر ما يحبب العباد في رب العباد، فهاهنا ميزان من الحكمة قل من يحسنه من الناس؛ ولذلك قال ابن القيم رحمه الله في عبارة جامعة: (ويندرج الخوف والرجاء في الحب).

فاجعل التبشير بالخير في الدنيا والآخرة جوهر خطابك للناس، واجعل النذارة له مصدقة؛ حتى لا تتواكل الأنفس، وتتراخى عن أداء حق الله. واقصد إلى تعريف الخلق بالله فإنهم إن عرفوه حقًّا أحبوه؛ فتعلقوا بعبادته آنئذ خوفًا وطمعًا. ففي الصحيحين: «أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذًا وأبا موسى إلى اليمن؛ قال: يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا»، وفي صحيح مسلم: أن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه قال: بَعَثَنِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وَمُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ. فَقَالَ «ادْعُوَا النّاسَ، وَبَشّرَا وَلاَ تُنَفّرَا، وَيَسّرَا وَلاَ تُعَسّرَا».

ومن ألطف النصوص في هذا المعنى ما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله لما قضى الخلق كتب عنده فوق عرشه: إن رحمتي سبقت غضبي». فهذا رب العالمين يعلمنا أن نجعل خطاب الرحمة سابقًا في دعوتنا، ونجعل لذلك النذارة خادمة للبشارة؛ لأن الكل مشمول بقصد المحبة. وما أجمل وصف الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، في ذلك، وهو سيد الدعاة إليه: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة:١٢٨]، فأشد الناس خوفًا من الله هو أشدهم محبة له. بهذا المنطق وجب أن تبني خطابك الدعوي يا صاح، فما تفرد النذير في موطن من الكتاب والسنة إلا لحكمة خاصة.

الدعوة إلى الله

القاعدة الرابعة: الدعوة إلى الله لا إلى ذات الهيآت والمنظمات. تدبر قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ} [فصلت:٣٣]، فهو أولًا متفرع عن (القول) الأول: {قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ} وفي سياقه. فإعلان التوحيد بالتعرف على الله والتعريف به، أمر متضمن لما نحن فيه: (قول الدعوة إلى الله) فليس الداعي الحق إلى الله إلا معرفًا به؛ ولذلك كان هذا أحسن ما يعلنه العبد في طريق عبادة الله في الأرض: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا ...} [فصلت:٣٣].

ثم هو (دعوة إلى الله) على غرار قوله في سياق آخر مما سبق بيانه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:١٠٨]، فهي دعوة إلى (الله) جل جلاله وجماله، توحيدًا وتفريدًا وتجريدًا؛ رغبة ورهبة .. فتدبر .. ! لا ضير أن تنظم عملك ضمن أي تنظيم دعوي، ما دامت أصوله العقدية سليمة، وما دام منهجه الدعوي مستقيمًا على الكتاب والسنة، ولكن احذر أن يختلط عليك الأمر، فتدعو الناس إلى التنظيم بدل دعوتهم إلى الله، فتكون قد اتخذت التنظيم آنئذ وثنًا يعبد من دون الله الواحد القهار.

اجعل الله غايتك على كل حال. واتخذه هدفًا لدعوتك: تتعرف عليه وتعرف به؛ تكن أحسن القائلين في الدين. اجعل تنظيمك أو جماعتك خادمة لله، ولا تجعل الله خادمًا لتنظيمك أو جماعتك، واحذر! فهذا منزلق قلما يسلم منه أحد من المتحزبين. فتدبر .. ! تلك لطيفة من لطائف قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} [فصلت:٣٣]، وقد فصلنا الكلام في هذا المعنى بكتابنا (البيان الدعوي)، معززًا بأدلته الوافية هناك، فارجع إليه إن شئت، والله الهادي إلى الحق، ولا حق سواه.

العمل الصالح

القاعدة الخامسة: في أن العمل الصالح أساس الدعوة إلى الله، وعلى رأسه الصلاة. ولذلك قال: {وَعَمِلَ صَالِحًا} عطفًا على إحسان القول. فلا قول حسن إلا إذا انبنى على عمل صالح، ثم انبثق عنه عمل صالح. فويل لمن ناقضت أفعاله ما أظهر للناس من أقواله. إن الاستقامة التي اشترطت على الذين قالوا ربنا الله هي هنا قد سيقت مساقًا دعويًّا ظاهرًا، بمعنى أنه يجب أن تنتبه إلى أن الداعي إلى الله يدعو بقوله وبفعله، كما أن المفتي يفتي الناس بقوله وبفعله شاء أم أبى. فسلوكه الفعلي مناط اتباع، تلك سنة الله في الخلق. فاجعل عملك صالحًا حتى تكون به مصلحًا؛ ويأجرك الله مرتين.

الانتماء لكل مسلم

القاعدة السادسة: إعلان الانتماء لكل المسلمين، والحرص على عدم تفريق وحدتهم العامة. {وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} فـ (من) هذه تفيد التبعيض كما هو معلوم عند اللغويين. والمعنى أنك واحد من المسلمين، جزء من كل. فالدعوة إلى الله هي دعوة إلى الله، وانتماء عام لكل المسلمين. وفي ذلك راحة من مضايق الهيئات والجماعات، فما أجمل أن تجيب أيها الداعي إلى الله إذا سئلت: (من أي جماعة أنت؟) فتقول: (من المسلمين)! ذلك الحق من رب العالمين، {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يونس:٣٢].

الحسنة والسيئة

القاعدة السابعة: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ}، هذا مبدأ ثابت من مبادئ القرآن، فاثبت عليه، لا يستوي الخير والشر، لا يستوي الحق والباطل، لا يستوي المعروف والمنكر، لا يستوي الكلام الطيب والكلام الخبيث. ونتيجة ذلك دعويًّا: لا تستوي الدعوة إلى الله بالتي هي أحسن، والدعوة إليه بالتي هي أخشن. لا يستوي في ميزان الله من يقرب الناس من الله ويعرفهم بجماله وجلاله، ومن ينفرهم عنه ويجهلهم بقدره، وإن ظن أنه بذلك يحسن صنعًا، فلا تغتر به! هذا كتاب ربنا واضح في المسألة وضوح الشمس في رابعة النهار. وتلك سنة نبينا قاطعة بأن المنهج الدعوي الإسلامي إنما هو ما اتسم بالحلم والأناة، والتيسير على الناس في طريق تعريفهم بحقوق ربهم. ذلك هو الحق الثابت أبدًا: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ}.

دفع الشر بالخير

القاعدة الثامنة: دفع الشر بالخير. وهي تفسير للقاعدة السابقة، وبيان لها، وتحقيق خاص لمناطها العام: £ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}، فالعلاقة بين القاعدتين، هي العلاقة بين المبدأ الكلي والتطبيق الجزئي، كما العلاقة بين المطلق والمقيد، وذلك مثلًا حيث يواجهك الخصوم في الدعوة إلى الله من أهلك وعشيرتك، أو حكومتك، أو يحاصرونك؛ فاقتد برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تلتفت إلى غيره.

إياك أن تغلبك الرغبة الجامحة في الانتقام؛ لا يستفزنك تحرشهم، ولا يثيرنك جهلهم وعنتهم، خاصة وأن مناط الأحكام في الدعوة في هذا الزمان غالب أمره أنه يتنزل في بلاد المسلمين، ويخاطب من يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله. فكيف تنزع إلى العنف الجاهلي؟ حاشا الجهاد في سبيل الله فهو ذروة سنام الإسلام، إنك إن تفقد منهج القرآن، وتخطئ سنة الرسول صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله؛ تفقد صفة الداعي إلى الخير. والله أمرك أن تدعو إلى الخير، كما بينت لنا الآية قبل: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} [آل عمران:١٠٤]، وتفقد صفة الداعي إلى الله، فلا تكون داعية إلا إلى نفسك.

حذار من التشنج، حذار من الغضب لنفسك. ما دمت قد جعلت نفسك لله فاجعل الكل لله، ولا تتحرك في الدعوة إليه تعالى إلا بما تقدر أنه لله. {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:٣٤]. تلك مقدمة مسلمة في منهج الله، نتيجتها واضحة حاسمة، هي: {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:٣٤].

تلك هي الحكمة المذكورة بوضوح في قوله تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل:١٢٥]. عجيب كم ضل كثير من الدعاة -مع الأسف- عن منهج الله؛ لما هجروا القرآن إلى غيره من الأهواء، مستجيبين لردود الأفعال. ألا ما أوضح القرآن، لو يبصرون .. {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} [القمر:١٧]، ولكن الضلال عمى.

اقرأ مرة أخرى .. وتدبر: {اِدْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:٣٤]، ذلك هو الأصل في المنهج الدعوي، وما سواه جزئي حادث، ولكل حادث حديث. وإنما الغاية عندنا في هذا الكتاب تقعيد الأصول.

الصبر

القاعدة التاسعة: في الصبر على الأخذ بالمنهج القرآني. ذلك أنه يحمل النفس في معاشرة الناس على ما تكره، من تحمل الأذى في الله، ودفع الشر بالخير، ودفع الجَهَلَةِ بالحكمة والموعظة الحسنة، ودفع العداء بالتي هي أحسن. كل ذلك شديد على النفس؛ لأنها جبلت على محبة ذاتها، والانتقام لها؛ ولذلك قال في القاعدة التالية: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:٣٥]، فدرب نفسك على الصبر حيث يجب الصبر، وعلمها كيف تكبح جماحها؛ حتى لا ترد الجهل بالجهل، والشر بالشر؛ فتزيغ عن الصراط المستقيم.

الحذر من الشيطان

القاعدة العاشرة: الحذر من الشيطان. وهاهنا لطيفة من اللطائف، ذلك أن بعض المسلمين قد يغيب عنه في فتنة الانغماس الاجتماعي؛ أن الشر من الشيطان. حقيقة كبرى قد تنسى .. اذكر هذا جيدًا وجدد إيمانك به. إن الشيطان الملعون خلق من خلق الله، بل هو شر خلق الله، خلقه لحكمة الابتلاء، إنه ليس وهمًا ولا خيالًا، إنه حقيقة، إنه يسعى لتضليل عباد الله، وأنت واحد ممن يستهدفه الشيطان بغوايته، وكل الناس معرض له. فتدبر ..

يجب أن تعرف الشيطان وحيله الخبيثة، فالمؤمن الكيس الفطن هو من يسأل عن الشر مخافة أن يلحقه، فاسأل عنه حتى تعرفه. فإنك إن تجهل به تقع في أحابيله. والله عز وجل عرفنا به في غير ما آية من القرآن، فقال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:٢٧].

وقال عز وجل في وجوب اتخاذ الشيطان عدوًّا: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:٦]، وقال: {لَّعَنَهُ اللهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا. وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا. يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا. أُوْلَئِكَ مَاوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا} [النساء:١١٨ - ١٢١].

اعرف عدوك تنتصر عليه!

اعرف الشيطان؛ حتى تعرف طبيعة العلاقة بينه وبين المسلم عمومًا، وبينه وبين الداعية إلى الله خصوصًا. إنك إذ تدعو إلى الله تقوم بهدم ما بناه إبليس اللعين؛ فتزداد عداوته لك أضعافًا مضاعفة، ولكنك إن اعتصمت بالله واستعذت به لن يصل إليك، فلا سلطان له على عباد الله الصالحين.

إن أسهل ما يمكن أن يزرعه في قلبك هو أن يشغلك بالحسن دون الأحسن، فإذا استجبت له نزل بك دركة، فدركة؛ حتى يجعلك من الغاوين، ومن هنا قال عز وجل من بعد ما أرسى قواعد المنهج الدعوي: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت:٣٦]، لقد كان السياق في الحض على الصبر، والثبات على منهج الدفع بالتي هي أحسن، وعدم الاستجابة لاستفزاز خصوم الدعوة: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}، فقال بعد ذلك مباشرة: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.

فجاءت القاعدة العاشرة في الاستعاذة من نزغ إبليس اللعين؛ خاتمة للقواعد العشر، في المنهج القرآني للدعوة؛ حتى يستشعر الإنسان استقامة ما هو عليه من صراط، وصواب ما سار عليه من سبيل، وأنه ماض في ذلك على بصيرة يدعو إلى الله. فمهما حصل من اختلال طارئ، أو ابتلاء سابق؛ فاثبت على منهجك لا تغير ولا تبدل، ما دمت تنهل من القرآن، كتاب الله رب العالمين. وكلما ألقى الشيطان في روعك من الوساوس ما ألقى؛ {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.

تلك بلاغات القرآن العملية التي رسمها الله لعباده صراطًا مستقيمًا، فما بقي الآن إلا ضابطها العام، وقانونها الكلي؛ لضمان توقيعها في واقع الحياة بصورة نموذجية؛ سيرًا إلى الله وسلوكًا إليه تعالى، وهو البلاغ السادس.


المصدر:
فريد الأنصاري، بلاغ الرسالة القرآنية ص131

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الدعوة-إلى-الله
اقرأ أيضا
سلسلة كيف تصبح عالما الدرس الخامس ج4 | مرابط
تفريغات

سلسلة كيف تصبح عالما الدرس الخامس ج4


وهذا سعيد بن المسيب رحمه الله سيد التابعين كان يقول: كنت أرحل للحديث الواحد الليالي والأيام هناك مجموعة كثيرة من الناس عاصرت الصحابة لكن ليس كل الناس علماء وليس كل الناس سعيد بن المسيب رحمه الله والإمام البخاري تعلم على يد ألف شيخ سافر إليهم إلى مختلف البلدان في العالم الإسلامي في ذلك الوقت من أجل العلم

بقلم: د راغب السرجاني
576
ماذا تعملين يا سيدتي؟ | مرابط
فكر

ماذا تعملين يا سيدتي؟


بالتدريج نعرف أن هذه الزوجة المسكينة التي لم تفعل شيئا من منظور مادي بسيط فعلت الكثير من منظور إنساني أكثر تركيبا ولكنها استبطنت الخطاب المعرفي المادي ولذا فعليها أن تخرج من المنزل فورا حتى تعمل أي حتى تتقاضى أجرا فتستعيد احترامها لنفسها. قد يفسد الأطفال وقد تنهار الأسرة وتضيع خصوصية الحضارة فالأم هي التي تعلم الأطفال الحضارة والقيم ولكن هذه أمور ثانوية.

بقلم: عبد الوهاب المسيري
404
نصيحة ابن تيمية: لا تجعل قلبك كالإسفنجة | مرابط
اقتباسات وقطوف

نصيحة ابن تيمية: لا تجعل قلبك كالإسفنجة


وقال لي شيخ الإسلام رضي الله عنه وقد جعلت أورد عليه إيرادا بعد إيراد: لا تجعل قلبك للإيرادات والشبهات مثل السفنجة فيتشربها فلا ينضح إلا بها ولكن اجعله كالزجاجة المصمتة تمر الشبهات بظاهرها ولا تستقر فيها فيراها بصفائه ويدفعها بصلابته وإلا فإذا أشربت قلبك كل شبهة تمر عليك صار مقرا للشبهات أو كما قال فما أعلم أني انتفعت بوصية في دفع الشبهات كانتفاعي بذلك.

بقلم: ابن القيم
308
الإلحاد ورد الإنسان إلى البهيمية | مرابط
الإلحاد

الإلحاد ورد الإنسان إلى البهيمية


لقد ترك الملاحدة للداروينتة صياغة صورة حقيقة الإنسان وصناعة مراحل تاريخه وهو أمر يظهر بوضوح في جميع أدبياتهم عند مناقشة قضايا نظرية المعرفة والقيم ومعنى الحياة والفكاك عن ذلك -إلحاديا- محال لأن رفض الداروينية أو أي صورة أخرى من صور التطور العشوائي للكائنات الحية

بقلم: د سامي عامري
496
أصل العلم | مرابط
اقتباسات وقطوف

أصل العلم


وثمة أمر ينبغي أن يدرك وهو أن الله جل وعلا كما أنه أوجد الذوات وهذه المخلوقات من عدم فكذلك الله جل وعلا أوجد كثيرا من المعلومات للإنسان من عدم وكثير من الناس يظن أنه إذا ألف بين معلومات ينطق بها ويتكلم بها فإنه يظن أنه قد جاء بشيء من المعلومات من عدم وذلك من الخطأ المحض فلا يمكن للإنسان أن يوجد معلوما أو يوجد فكرة في عقله لم يسبق إليها

بقلم: عبد العزيز الطريفي
423
سد الذرائع في باب الاختلاط | مرابط
مقالات

سد الذرائع في باب الاختلاط


وقد كان من سنة النبي صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه التمييز بين الرجال والنساء والمتأهلين والعزاب فكان المندوب في الصلاة أن يكون الرجال في مقدم المسجد والنساء في مؤخره وقال النبي صلى الله عليه وسلم: خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها.

بقلم: ابن تيمية
329