الليبرالية السعودية والتأسيس المأزوم ج1

الليبرالية السعودية والتأسيس المأزوم ج1 | مرابط

الكاتب: سلطان العميري

1482 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

نظرة عامة على التيار الليبرالي

يلحظ المراقب للحالة الفكرية في الداخل السعودي نشاطا مكثفا للتيار الليبرالي، فقد أخد بكل ما أوتيه من قوة يعرض نفسه للناس في محافل كثيرة، ويبدو بأصوات متعددة، ويظهر في أشكال مختلفة، باحثا بكل ذلك عن موطئ قدم يبني عليه مشروعه الفكري والاجتماعي.
 
وقد تناول عدد من المثقفين مخرجات التيار الليبرالي بالتوصيف والتمحيص والنقد، وجاء هذا المقال ليتناوله من جهة معرفية بحتة، وليحاكمه إلى الشروط التي يجب توفرها في كل مشروع ناضج منتِج، وليقارنه بالمشاريع التي استطاعت أن تقدم للمجتمعات حلولا حقيقية تخرجها مما تعانيه من أزمات، وتعيشه من إشكاليات.
 
وإذا حاول المراقب أن يتعاطى مع التيار اللبيرالي السعودي بهدوء وأن يتعامل مع منتجه الفكري والثقافي بمهنية في التحليل وإتقان في التوصيف.. ليتعرف على مقدار ما يمتلكه من مؤهلات معرفية وفكرية وسلوكية تؤهله للعيش والنمو في الحالة السعودية.. سيخلص منذ المرحلة الأولى من التحليل إلى نتيجة مفادها: أن التيار الليبرالي يعاني من أعراض مرضية حادة تحول بينه وبين أن يكون مشروعا رائدا أو مخلصا أو ملبيا لحاجيات العقل الواعي الذي يميل إلى الانضباط في الاستدلال والعمق في التحليل والاتساق مع المبادئ واحترام القيم وتعظيم التمسك بها.
 
فالمراقب الواعي إذا تجول في مخرجات التيار الليبرالي وسار في جنباته ووقف على أبرز محطاته التي برز فيها للعيان، وسلط الأضواء على مرتكزاته المعرفية، تصيبه الدهشة بسبب ما يراه من الفقر الشديد في مؤهلات النمو الصحي، وبسبب ما يلحظه من الهشاشة الكبيرة في مرتكزات شرعية وجوده في الساحة الفكرية.
 
وسيكتشف أن الليبرالية السعودية تعاني من أزمة فكرية ومنهجية عميقة، أزمة في المصطلح، وأزمة في الخلفيات الفلسفية، وأزمة في السلوكيات اليومية، وأزمة في الالتزام بالقيم، وأزمة في الاتساق مع المبادئ، وأزمة في الاطراد، وأزمة في التوافق بين أسس الليبرالية وبين قطعيات الشريعة الإسلامية.
 
وقد استفحلت تلك الأعراض حتى وصلت إلى حالة مهلكة خرجت عن السيطرة، وتسببت في إنهاك جسده ووصوله إلى حالة مرضية خطيرة، وأضحت تلك الأعراض معوقات حقيقية للحيلولة دون نموه بشكل صحي.
وحتى لا تكون هذه النتيجة مخالفة للواقع، أو متصفة بالاستعجال والتهور، أوالتسرع في استخلاص النتائج، فإنا سنبرز أعقد تلك الأزمات التي اتصف بها التيار الليبرالي، وتسببت في تشوه صورته وتعرقل مسيرته، وسنمارس معها التحليل المنبسط والتفكيك المسترسل والهادئ حتى نتحقق من صدق تلك النتيجة.

 

الأزمة الأولى: إشكالية التأسيس:

تبدى التيار الليبرالي وهو يحمل اسما نشأ في بيئة مختلفة وتربى في محاضن فكرية مغايرة، ومع هذا فهو يعاني في أصله من اضطراب وقلق في انضباط مفهومه، ومصاب بغموض شديد في تحديد مقصوده، ومشبع بمضامين فكرية وفلسفية تتقاطع مع الإسلام تقاطعا ظاهرا.
 
فليس خافيا على أحد من المثقفين أن الليبرالية نشأت أول ما نشأت في الفكر الغربي تحت ظروف فكرية واجتماعية محددة وفي أحوال دينية خاصة، وقد تضمنت في حالتها الغربية مبادئ أساسية لا تنفصل عنها، كمبدأ الحرية المطلقة ومبدأ الفردية ومبدأ العقلانية، حتى غدت من المتلازمات في ذهنية القارئ.
 
وهي بهذه المبادئ تتضمن القول بنسبية الحقيقة وتدعو إلى العلمانية وفصل الدين عن الحياة السياسية والاقتصادية وغيرها، وتقرر المساواة بين الأديان وحرية التنقل بينها، وتسمح بحرية مزاولة المحرمات القطعية في الشريعة، وتقطع الأخلاق والمبادئ عن الأساسات المرجعية لها سواء الدينية أو غيرها، وتعتقد أن الحرية المطلقة هي المبدأ والمنتهى والباعث والهدف والأصل والنتيجة في حياة الإنسان.
 
ولما كانت الليبرالية الغربية بهذه الصورة حدث انفصام نكد في التيار الليبرالي السعودي، فقد انقسم في موقفه من حالة الليبرالية الغربية إلى قسمين ظاهرين:
 
القسم الأول: من لم يبد الإنكار لتلك المضامين، وقرر ما تقوله الليبرالية الغربية من أنها الانفلات المطلق والحرية الكاملة،والتحرر من كل قيد، وكرر بعض منتجاتها، كالقول بنسبية الحقيقة وتاريخية الأحكام الشرعية، والانفتاح الكلي لدلالات النصوص وقابليتها لكل التأويلات.
وفي ضمن هذا القسم ظهرت لنا الليبرالية في مظاهر شاذة جدا، ومقالات شنيعة، وصلت إلى درجة إنكار وجود الإله، والاستخفاف بالنبي والاستهزاء الفاضح بالإسلام ووصفه بكل ذميمه، كل هذا ظهر تحت مسمى "شبكة الليبرالية السعودية".
 
القسم الثاني: من ادعى الخصوصية السعودية في مفهوم الليبرالية، وأخذ يقول بأن الليبرالية السعودية تتميز عن غيرها في كل شيء، حتى في المفهوم نفسه، ورفعوا شعار "الليبرالية السعودية ليس كمثلها ليبرالية".
 
فقد أدرك هذا القسم فضاعة ما تؤدي إليه الليبرالية في نسختها الغربية الأصلية من مناقضة للإسلام وأصوله، فاضطر إلى أن يمارس نوعا من التهذيب ويجري عمليات تجميلية عديدة؛ حتى يتخلص من الموروث الغربي لها، ويتوصل إلى نسخة مخففة جدا، فأبقى على المبادئ الأساسية لليبرالية، وأخذ يبحث عما يمكن أن يوافقها في النصوص الشرعية، وغدونا نسمع بأن الليبرالية تعد من صميم الإسلام؛ لأن الإسلام يحفظ للفرد حريته ويحترم له علقه.
 
وهذه العمليات التجميلية للمنتجات الغربية ليست جديدة على الساحة العربية، فقد مورست من قبل في الدعوة إلى الحداثة والدعوة إلى البنيوية وغيرها من المناهج النقدية الغربية، وقوبلت بإنكار شديد من قبَل عدد من كبار المفكرين العرب، وعدوا ذلك تشويها وتحريفا مغلفا.
 
وها هو الحال يتكرر في الليبرالية السعودية، فيبدوا أن عمليات التجميل لم ترض كثيرا من كبار المثقفين، فأنكروا دعوى الخصوص السعودية ووصفوها بالخدعة والأكذوبة، ووصفوا من مارسها بأنهم أدعياء ومتسولون.
 
وقد أبدى بعض المراقبين تحفظا من جهة أخرى، وهي أن الليبرالية السعودية ادعت الخصوصية، ولم تبين لنا معالم تلك الخصوصية ولا الحواجز الفاصلة بينها وبين النسخة الأصلية، ولا القيم التي تقوم عليها ولا الأسس الفكرية التي تستند إليها، وإنما غاية ما ذكروه ممارسات يومية مشتتة يجمعها وصف واحد وهو المضادة للتوجه الشرعي في السعودية.
فغدت الليبرالية السعودية بدون أسوار ولا أبواب يدخل فيها كل من يريد.
 
وبهذا كله ازدادت الليبرالية غموضا إلى غموضها وقلقا إلى قلقها واضطرابا إلى اضطرابها، مما يؤكد مدى الأزمة التي تعاني منها في بناء مشروعها وعمق الإشكالية التأسيسية التي أصيبت بها منذ اللحظة الأولى من ولادتها، وهذا كله كانت له أبعاد كثيرة في كيفية توصيفها وفي منهجية تصنيفها.
 
 


 

المصدر:

http://www.saaid.net/mktarat/almani/90.htm

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الليبرالية #السعودية
اقرأ أيضا
الحركة العلمية في عهد عمر بن عبدالعزيز والدولة الأموية | مرابط
تاريخ

الحركة العلمية في عهد عمر بن عبدالعزيز والدولة الأموية


نشطت المدارس العلمية في مكة والمدينة والبصرة والكوفة والشام ومصر وغيرها وأشرف الصحابة الكرام على تعليم وتربية الناس فيها واستطاعت تلك المدارس أن تخرج كوادر علمية وفقهية ودعوية متميزة كما أثرت المدارس العلمية والفقهية في المناطق المفتوحة وشكلت جيلا من التابعين نقلوا إلى الأمة علم الصحابة وأصبحوا من ضمن سلسلة السند التي نقلت للأمة كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ويرجع الفضل في نقل ما تلقاه الصحابة من علم من الرسول بالدرجة الأولى -بعد الله- إلى مؤسسي المدارس العلمية بمكة والمدينة والبص...

بقلم: د علي الصلابي
1204
الابتلاء بالشدة والضر | مرابط
اقتباسات وقطوف

الابتلاء بالشدة والضر


فمن تمام نعمة الله على عباده المؤمنين أن ينزل بهم الشدة والضر وما يلجئهم إلى توحيده فيدعونه مخلصين له الدين ويرجونه لا يرجون أحدا سواه وتتعلق قلوبهم به لا بغيره فيحصل له من التوكل عليه والإنابة إليه وحلاوة الإيمان

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
458
الافتتان بالزخارف والألوان | مرابط
أباطيل وشبهات فكر

الافتتان بالزخارف والألوان


من المظاهر السيئة الخادعة الآن كثرة الصفحات التي تنشر سجاد الصلاة المصليات المزخرفة وال 3d وتروج ذلك بإنك تكون مميز في الصلاة! وهذا خداع وباطل ولا ينبغي .. فإن الصلاة قصد خالص لله والواحد منا مع عدم كل هذا ولا يستطيع أن يخشع ويركز في صلاته من كثرة المشاغل والشواغل والقواطع التي حوله .. فهل يأتي إنسان عاقل إلى موضع صلاته فيشوشه على نفسه؟!

بقلم: محمد حشمت
390
الشيوعية والإسلام | مرابط
فكر مقالات

الشيوعية والإسلام


إن عداوة الشيوعية للإسلام عداوات متكررة وليست بعداوة واحدة فإنها تعاديه معاداة الخوف من منافسته في تنظيم المجتمع على قواعده وأحكامه وتعاديه معاداة الحاكم الروسي للمحكوم المطموع في ماله واستقلاله وتعاديه أخيرا معاداة الشعور بالخطر والإفلاس على أثر إخفاق التجارب الماركسية واحدة بعد الأخرى خلال السنوات الأخيرة

بقلم: عباس محمود العقاد
2245
تحويل القبلة وكشف الأوراق | مرابط
تعزيز اليقين فكر مقالات

تحويل القبلة وكشف الأوراق


في أحداث السيرة النبوية مواقف صنعها الله عز وجل لتكون اختبارا لأفراد الجماعة المسلمة فيمحص الصفوف وينفي عنها الخبث كما يكشف بها سبحانه وتعالى أوراق أعداء الأمة من منافقين ومشركين وذلك لكي تنشأ هذه الأمة نقية خالصة لله عز وجل خاضعة لأمره سبحانه دون شك أو ارتياب ومن هذه المواقف الجليلة والفاصلة في تاريخ الأمة حادث تحويل القبلة من بيت المقدس إلى المسجد الحرام في النصف من شعبان من العام الثاني للهجرة

بقلم: راغب السرجاني
2174
شبهة: هل يقدر الله أن يخلق صخرة لا يمكنه حملها | مرابط
أباطيل وشبهات الإلحاد

شبهة: هل يقدر الله أن يخلق صخرة لا يمكنه حملها


من الشبهات السخيفة التي يروجها بعض الملاحدة يقولون: هل يستطيع الله أن يخلق صخرة ضخمة لا يستطيع حملها والهدف من السؤال هو الإيقاع بالمسلم بين شقي الرحى فإن قال نعم يستطيع كان ذلك من نواقض كمال الله تعالى وإن قال لا يستطيع كان ذلك من النواقض أيضا ولكن الإجابة السليمة على هذا السؤال سنعرفها في المقال لنقف على الإشكاليات والأخطاء الموجودة في السؤال نفسه وما الرد عليها

بقلم: مجموعة كتاب
4273