مرت الشيعة الرافضة في نشأتها بعدة مراحل، حتى أصبحت فرقة مستقلة متميزة بعقيدتها واسمها عن سائر فرق الأمة.
ويمكن إبراز ذلك من خلال أربع مراحل رئيسية:
المرحلة الأولى:
دعوة عبد الله بن سبأ إلى ما دعا إليه من الأصول التي انبنت عليها عقيدة الرافضة؛ كدعوته لعقيدة الرجعة، وإحداثه القول بالوصية لعلي، رضي الله عنه، والطعن في الخلفاء السابقين لعلي في الخلافة، وقد ساعد ابن سبأ في ترويج فكره الضال البعيد عن روح الإسلام أمران:
1- اختيار ابن سبأ البيئة المناسبة لدعوته؛ حيث بثّ دعوته في بلدان مصر، والعراق، بعد أن أكثر التنقل بين هذه الأمصار كما في كلام الطبري (1)، فنشأت هذه الدعوة في مجتمعات لم تتمكن من فهم الإسلام الفهم الصحيح، وتترسخ أقدامها في العلم الشرعي والفقه بين الله تعالى؛ وذلك لقرب عهدها بالإسلام، فإن تلك الأمصار إنما فُتحت في عهد عمر رضي الله عنه، هذا بالإضافة إلى بُعدها عن مجتمع الصحابة في الحجاز وعدم التفقه والتتلمذ والتربية على أيديهم.
2- أن ابن سبأ مع اختياره لدعوته تلك المجتمعات، فإنه زيادة في المكر والخديعة أحاط دعوته بستار من التكتم والسرية، فلم تكن دعوته موجهة لكل أحد، وإنما لمن علم أنهم أهل لقبولها من جهلة الناس، وأصحاب الأغراض الخبيثة ممن لم يدخلوا في الإسلام إلا كيدًا لأهله، بعد أن قوضت جيوش الإسلام عروش ملوكهم، ومزقت ممالكهم، وقد تقدم كلام الطبري السابق عن ابن سبأ: فبث دعاته وكاتب من كان استفسده في الأمصار، وكاتبوه، ودعوا في السر إلى ما عليه رأيهم (2)، يقول في سياق وصفهم: وأوسعوا في الأرض إذاعة، وهم يريدون غير ما يظهرون (3)
المرحلة الثانية:
إظهار هذا المعتقد والتصريح به، وذلك بعد مقتل عثمان، رضي الله عنه، وانشغال الصحابة رضوان الله عليهم بإخماد الفتنة التي حصلت بمقتله، فوجد هؤلاء الضُّلّال متنفسًا في تلك الظروف، وقويت تلك العقائد الفاسدة في نفوسهم، إلا أنه مع كل ذلك بقيت هذه العقائد محصورة في طائفة مخصوصة ممن أصلهم ابن سبأ، وليست لهم شوكة ولا كلمة مسموعة عند أحد سوى من ابتلي بمصيبتهم في مقتل عثمان، رضي الله عنه، وشاركهم في دمه من الخوارج المارقين.
ومما يدل على ذلك ما نقله الطبري: وتكلم ابن السوداء، فقال: يا قوم إن عزكم في خلطة الناس فصانعوهم (4)، وهذا القول لا يقوله صاحب شوكة ومنعة، ومع هذا فإنه لا ينكر دور هؤلاء السبئية وقتلة عثمان في إشعال نار الحرب بين الصحابة؛ بل ذلك مقرر عند أهل التحقيق للفتنة وأحداثها، يقول ابن حزم مقررًا ذلك: وبرهان ذلك أنهم اجتمعوا ولم يقتتلوا ولا تحاربوا، فلما كان الليل عرف قتلة عثمان الإراعة والتدبير عليهم، فبيتوا عسكر طلحة والزبير، وبذلوا السيوف فيهم، فدفع القوم عن أنفسهم (5)
المرحلة الثالثة:
اشتداد أمرهم وقوتهم واجتماعهم تحت قيادة واحدة، وذلك بعد مقتل الحسين، رضي الله عنه؛ للأخذ بثأر الحسين والانتقام له من أعدائه، يقول الطبري في حوادث سنة أربع وستين للهجرة: وفي هذه السنة تحركت الشيعة بالكوفة، وأعدوا الاجتماع بالنخيلة سنة خمس وستين للمسير لأهل الشام للطلب بدم الحسين بن علي، وتكاتبوا في ذلك.
وكان مبدأ أمرهم ما ذكره الطبري من رواية عبد الله بن عوف بن الأحمر الأزدي، أنه قال: لما قتل الحسين بن علي ورجع ابن زياد من معسكره بالنخيلة، فدخل الكوفة، تلاقت الشيعة بالتلاوم والتندم، ورأت أنها قد أخطأت خطأ كبيرًا بدعائهم الحسين إلى النصرة وتركهم إجابته، وقتله إلى جانبهم دون أن ينصروه، ورأوا أنه لا يُغسل عارهم والإثم عنهم في مقتله إلا بقتل من قتله، أو القتل فيه، ففزعوا بالكوفة إلى خمسة نفر من رءوس الشيعة؛ إلى سليمان بن صُرد الخزاعي، وكانت له صحبة مع النبي، صلى الله عليه وسلم، وإلى المسيب بن نجبة الفزاري، وكان من أصحاب علي وخيارهم، وإلى عبد الله بن سعد بن نفيل الأزدي، وإلى عبد الله بن وائل التيمي، وإلى رفاعة بن شداد البجلي.
ثم إن هؤلاء الخمسة اجتمعوا في منزل سليمان بن صُرد، وكانوا من خيار أصحاب علي، ومعهم أناس من الشيعة وخيارهم ووجوههم(7)، وكان هذا الاجتماع عاما يشمل كافة الشيعة، وقد اجتمع إلى سليمان بن صرد نحو من سبعة عشر ألفًا، ثم لم تعجب سليمان قلتهم، فأرسل حكيم بن منقذ فنادى في الكوفة، وخرج الناس معهم فكانوا قريبًا من عشرين ألفًا(8)، ثم إنه في هذه الأثناء قدم المختار بن أبي عبيد الثقفي إلى الكوفة، فوجد الشيعة التفت على سليمان بن صرد، وعظموه تعظيمًا زائدًا، وهم معدون للحرب.
فلما استقر المختار عندهم بالكوفة دعا إلى إمامة المهدي محمد بن علي بن أبي طالب، وهو محمد ابن الحنفية، ولقبه بالمهدي، فاتبعه على ذلك كثير من الشيعة، وفارقوا سليمان بن صرد، وصارت الشيعة فرقتين؛ الجمهور منهم مع سليمان يريدون الخروج على الناس؛ ليأخذوا بثأر الحسين، وفرقة أخرى مع المختار يريدون الخروج للدعوة إلى إمامة محمد ابن الحنفية، وذلك عن غير أمر ابن الحنفية، وإنما يتقولون عليه؛ ليروجوا على الناس به، وليتوصلوا إلى أغراضهم الفاسدة (9)
فكان هذا بداية اجتماع الشيعة، ثم يذكر المؤرخون خروج سليمان بن صرد بمن كان معه من الشيعة إلى الشام، فالتقوا مع أهل الشام عند عين تسمى عين الوردة، واقتتلوا قتالا عظيما لمدة ثلاثة أيام
يقول ابن كثير، رحمه الله: لم يرَ الشيب والمرد مثله، لا يحجز بينهم إلا أوقات الصلوات إلى الله (10) ثم انتهى القتال بينهم بقتل سليمان بن صرد، رحمه الله، وكثير من أصحابه، وهزيمتهم، ودعوة من بقي من أصحابه إلى الكوفة (11)، وأما المختار بن أبي عبيد الثقفي فلما رجع من بقي من جيش سليمان إلى الكوفة، أخبروه بما كان من أمرهم وما حل بهم، فترحم على سليمان ومن كان قتل معه، وقال: وبعد، فأنا الأمير المأمون، قاتل الجبارين والمفسدين إن شاء الله، فأعدوا واستعدوا وأبشروا (12)
يقول ابن كثير، رحمه الله، وقد كان قبل قدومهم أخبر الناس بهلاكهم عن وحيه الذي كان يأتي إليه من الشيطان، فإنه قد كان يأتي شيطانا فيوحي إليه قريبًا مما كان يوحي شيطان مسليمة له (13) ثم إن المختار بعث الأمر إلى النواحي والبلدان، والرساتيق من أرض العراق، وخراسان وعقد الألوية والرايات.. ثم شرع المختار بتتبع قتلة الحسين من شريف ووضيع فيقتله (14)
المرحلة الرابعة:
انشقاق الشيعة الرافضة عن الزيدية وباقي فرق الشيعة، وتميزها بمسمّاها وعقيدتها، وكان ذلك على وجه التحديد في سنة إحدى وعشرين ومائة، عندما خرج زيد بن علي بن الحسين علي هشام بن عبد الملك (15)، فأظهر بعض ما كان في جيشه من الشيعة الطعن على أبي بكر وعمر فمنعهم من ذلك، وأنكر عليهم فرفضوه؛ فسموا بالرافضة، وسميت الطائفة الباقية معه بالزيدية (16)
يقول ابن تيمية، رحمه الله: إن أول ما عرف لفظ الرافضة في الإسلام عند خروج زيد بن علي في أوائل المائة الثانية، فسئل عن أبي بكر وعمر، رضي الله عنهما، فتولاهما، فرفضه قوم فسموا الرافضة (17)، وقال: ومن زمن خروج زيد افترقت الشيعة إلى رافضة وزيدية، فإنه لما سئل عن أبي بكر وعمر فترحم عليهما رفضه القول، فقال لهم: رفضتموني، فسموا رافضة؛ لرفضهم إياه وسمى من لم يرفضه من الشيعة زيديًا؛ لانتسابهم إليه (18)، ومنذ ذلك التاريخ وتميزت الرافضة عن باقي فرق الشيعة فأصبحت فرقة مستقلة باسمها ومعتقدها (19) والله تعالى أعلم.
الإشارات المرجعية:
- تاريخ الطبري 347/5
- المصدر السابق
- المصدر السابق 348/5
- المصدر السابق 526/5
- الفصل في الملل والنحل والأهواء 239/4
- تاريخ الطبري 487/6
- تاريخ الطبري 510/6
- البداية والنهاية 254/8
- المصدر نفسه
- البداية والنهاية 257/8
- المصدر نفسه
- المصدر نفسه 258/8
- المصدر نفسه 257/8
- المصدر نفسه 271/8
- تاريخ الطبري 160/7
- الانتصار للصحب والآل، ص47
- مجموع الفتاوى 36/13
- منهاج السنة 35/1الانتصار للصحب والآل ص48
المصدر:
- د. علي محمد الصلابي، فكر الخوارج والشيعة في ميزان أهل السنة والجماعة، ص106