المصلحة بين الشريعة الإسلامية والعقلية العلمانية

المصلحة بين الشريعة الإسلامية والعقلية العلمانية | مرابط

الكاتب: أحمد عبد السلام

248 مشاهدة

تم النشر منذ سنة

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد،
فإن استناد العلمانيين فيما يرونه من أطروحات إصلاحية إلى المصلحة وتحقيقها أمر لا يخفى، بل الأمر كله عندهم قائم على ذلك، فإن تحقيق المنفعة الفردية والمجتمعية وتنظيم تبادل المنافع هو نقطة الابتداء والانتهاء في الفكر العلماني والليبرالي.

ومن الأمور التي يستندون إليها في المجتمعات الإسلامية لترويج هذه الفكرة؛ أن مراعاة المصالح وبناء الأحكام عليها أمر قررته الشريعة، حتى اشتهرت أقوالٌ في ذلك منها قول ابن تيمية رحمه الله "والشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها".

وهذا الذي قرره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وغيره من العلماء حق لا مراء فيه، ولكن التمويه الحاصل هو أن كلمة "المصلحة" كلمة نسبية تختلف باختلاف المنهج العقدي والأيديولوجي، فالمصلحة التي قررها الشرع وأمر بتحصيليها ليست هي المصلحة التي يقررها العقل العلماني، فلكلٍ من المصلحتين سماتها التي تميزها عن الأخرى إلى درجة التناقض وليس مجرد التمايز.

محدودية المصلحة العلمانية

فالمصلحة عند العلمانيين محدودة زمنًا ونوعًا.

فمحدودية الزمن تتمثل في انحصار المصالح عندهم في مصالح الدنيا فقط، فمصلحة الفرد والمجتمع تنحصر عندهم في توفير الحياة الرغدة التي تمكن الإنسان من أن يتمتع بحياته من غير أن ينغص عليه ألم الحرمان هذه الحياة، وأما محدوديتها نوعا فهي انحصار هذه المصالح في المصالح المادية فقط وهذا أمر طبيعي لمن انقطع نظره عند الحياة الدنيا وعن الحياة الآخرة.

ومن مظاهر هذه السمة أن ما يحقق المصالح المعنوية الروحية ((كالدين)) يُتناول تناول الوسائل لا المقاصد، ليصب في نهاية المطاف في تحصيل المصالح المادية وتكميلها.

يقول بنتام "يجب أن يكون سير الديانة موافقًا لمقتضى المنفعة، فالديانة باعتبارها مؤثرًا تتركب من عقاب وجزاء، فعقابها يجب أن يكون موجها ضد الأعمال المضرة بالهيئة الاجتماعية فقط، وجزاؤها يكون موقوفًا على الأعمال التي تنفعها فقط، وهذه هي القاعدة الأولية، والطريقة الوحيدة في الحكم على سير الديانة هي النظر إليها من جهة الخير السياسي في الأمة فقط وما عدا ذلك لا يلتفت إليه". 

إذن فالدين عندهم ليس إلا فرعا عن المصلحة ووسيلة من وسائل تحقيقها، فعلى المجتمع أن يحدد مصلحته أولًا ثم ينظر ما موقف الدين منها، فإن وافقها فعليه أن يبررها وأن يعمل على إقناع الناس بها ودفعهم في اتجاهها، وإن كانت هذه المصالح مصادمة للدين من كل وجه؛ فعلى الدين أن يتنحى جانبا ويكتفي بمقعد المشاهد وكأن الأمر لا يعنيه. 

وإليك هذه الأمثلة من واقعنا المعاصر؛ فمثلا إذا ما قرر المجتمع أن المخدرات تضره ولا تنفعه، أو أن الظلم الواقع على المرأة بمنعها من الميراث يجب أن يرفع، أو أن الخلع سيسهم في حل مشكلات قطاع كبير من النساء، فحينئذ يجب على الدين أن يبرز لتوعية المجتمع ضد المخدرات وبيان تحريمها، وبيان حرمة منع المرأة من حقها في الميراث، وبيان مشروعية الخلع وأنه من دين الله، ويصير حينها تدخل الدين في السياسة والتشريع والأمور العامة واجبا بَلْهَ مشروعا، فعلى الدين أن يقوم بدوره في تنظيم الحياة وعلى رجال الدين أن يخرجوا من عزلتهم لقيادة المجتمع.

أما إذا ما قرر المجتمع أن بيع الخمور وإقامة الحانات والمراقص أمر مفيد لأنه يشجع على السياحة ويدعم الاقتصاد، وأن المرأة من حقها أن تكون قاضية، وأن التعامل بالربا من مصلحة البلاد، بينما يرفض الدين ذلك كله رفضًا تاما، فحينئذ يصير تدخل الدين في الأمور العامة هيمنة لرجال الدين على الحياة وعودة بالبلاد إلى عصور الظلام، فما شأن الدين بالسياحة؟ وما شأن الدين بالاقتصاد؟ وما شأن الدين بالسياسة؟!!

اتساع المصلحة الإسلامية

أما المصلحة في الإسلام فتتسم بالاتساع زمنا ونوعا.

يقول العز بن عبد السلام رحمه الله وهو يعرف المصالح والمفاسد "المصالح أربعة أنواع: اللذات وأسبابها، والأفراح وأسبابها، والمفاسد أربعة أنواع: الآلام وأسبابها، والغموم وأسبابها، وهي منقسمة إلى دنيوية وأخروية". اهـ

فالاتساع الزمني هو مراعاة مصالح الدنيا والآخرة معا، فالإسلام لم يجعل غاية العبد دنياه كما أنه لم يزهده في الدنيا بحيث يهجرها ويترهبن تاركا إياها خربة تعطلت فيها كل مظاهر الجبلة الإنسانية، بل توسط الإسلام بين الحالين وجمع بين مصالح الدارين، من غير أن يتوهم ذلك التناقض الذي اختلقه البعض فلجأ إلى ترجيح مصالح الآخرة فقط فصار راهبًا، أو ترجيح مصالح الدنيا فقط فصار علمانيًا دنيويًا، وفي ذلك يقول البوطي:
"ميزان المصالح في الشريعة الإسلامية مضبوط بحياتي الدنيا والآخرة معًا، بل النظرة إلى مصالح الدنيا محكومة بسلامة مصالح الآخرة، ومن ثم فلا مجال لاضطرابها بين اختلاف الميول والأحاسيس".اهـ.

وهذا الجمع الذي ذكرناه هو الذي قررته أدلة القرآن والسنة ووضعته ميزانه في مثل قول الله تعالى "وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ".

وفي مثل دعاء النبي صلى الله عليه وسلم "اللهم أصلح لى دينى الذى هو عصمة أمرى وأصلح لى دنياى التى فيها معاشى وأصلح لى آخرتى التى فيها معادى".

يقول العز بن عبدالسلام "وقد علمنا من موارد الشرع ومصادره أن مطلوب الشرع إنما هو مصالح العباد في دينهم ودنياهم" ويقول ابن القيم "فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد".

وأما الاتساع النوعي الذي تتسم به المصلحة في الإسلام؛ فهو اتساعها لتشمل المصالح الروحية والمادية معًا، فالإسلام يراعي الغرائز التي جبل الله عليها الإنسان لضمان بقائه وتكاثره ولضمان إعمار الأرض، ولكنه يعلم أبنائه أن مراعاة هذه الغرائز ليست هي المتعة الكبرى واللذة الحقيقية، بل المتعة واللذة والراحة والطمأنينة والسعادة الحقيقية تتحقق بمراعاة حاجات الروح، والتي تتلخص في كلمة واحدة بعث لأجلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي "التزكية"، قال الله تعالى "لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ".

الاطمئنان والسعادة

وتزكية النفس تكون بإشباع حاجات الروح عن طريق وصلها بخالقها جل في علاه، بالإيمان به وبالتزام أوامره واجتناب نواهيه وذكره وتلاوة كلامه وتدبره، فالمؤمن يسعى في الدنيا ويعمرها ويعمل على إصلاحها إلى قيام الساعة، ولكن عينه في أثناء ذلك كله شاخصة إلى السماء وقلبه معلق بالآخرة وروحه محلقة حول العرش حيث تأنس بقربها من رب العالمين، وهو يعلم أن الدنيا ما هي إلا مطية إلى وطنه الأول الذي أخرج منه وهو الجنة، فهو لا يسمح لملاذ الدنيا أن تأسره ولا لشهواتها أن تفتنه عن الطريق الموصلة إليها، وبالرغم من عناء مقاومة هذه الشهوات، وألم مجاهدة سحرها البراق الذي استعبد الكثيرين، يجد المؤمن لذة الروح واطمئنان القلب الذي يفتقده متبعوا الشهوات والملذات. 

قال سبحانه وهو يبين حال الفريقين: "اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاء وَيَقَدِرُ وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ" يبين الله أن رزق العبد من الدنيا وملاذها مقسوم محسوم ثم ينعي على أولئك الماديين الذين فرحوا بالدنيا وشغلتهم ملاذها عن الآخرة مع أن الدنيا بكل متعها بالنسبة للآخرة ليست إلا متعة قليلة سرعان ما تفنى وتتلاشى.

ثم يقول سبحانه: "وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ" وهذا استغراق منهم في المادية حيث أصبحت المادة غايتهم ومعيارهم ومرجعهم الأوحد لا يعقلون إلا إياها ولا يؤمنون إلا بها، فهم لا يؤمنون إلا إذا جائتهم آية يرونها بأعينهم ويلمسونها بأيديهم، فيجيبهم رب العالمين "قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ" يقول السيد قطب رحمه الله:
إن الرد على طلبهم آية خارقة، أن الآيات ليست هي التي تقود الناس إلى الإيمان، فللإيمان دواعيه الأصيلة في النفوس، وأسبابه المؤدية إليه من فعل هذه النفوس.

"قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ" فاللّه يهدي من ينيبون إليه ... 
ثم يرسم صورة شفيفة للقلوب المؤمنة، في جو من الطمأنينة والأنس والبشاشة والسلام،
"الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ" 

تطمئن بإحساسها بالصلة باللّه، والأنس بجواره، والأمن في جانبه وفي حماه، تطمئن من قلق الوحدة، وحيرة الطريق، بإدراك الحكمة في الخلق والمبدأ والمصير، وتطمئن بالشعور بالحماية من كل اعتداء ومن كل ضر ومن كل شر إلا بما يشاء، مع الرضى بالابتلاء والصبر على البلاء، وتطمئن برحمته في الهداية والرزق والستر في الدنيا والآخرة.
“أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ”

ذلك الاطمئنان بذكر اللّه في قلوب المؤمنين حقيقة عميقة يعرفها الذين خالطت بشاشة الإيمان قلوبهم، فاتصلت باللّه، يعرفونها، ولا يملكون بالكلمات أن ينقلوها إلى الآخرين الذين لم يعرفوها، لأنها لا تنقل بالكلمات، إنما تسري في القلب فيستروحها ويهش لها ويندى بها ويستريح إليها ويستشعر الطمأنينة والسلام، ويحس أنه في هذا الوجود ليس مفردا بلا أنيس، فكل ما حوله صديق، إذ كل ما حوله من صنع اللّه الذي هو في حماه.

مفهوم الشقاء

وليس أشقى على وجه هذه الأرض ممن يحرمون طمأنينة الأنس إلى اللّه، ليس أشقى ممن ينطلق في هذه الأرض مبتوت الصلة بما حوله في الكون، لأنه انفصم من العروة الوثقى التي تربطه بما حوله في اللّه خالق الكون، ليس أشقى ممن يعيش لا يدري لم جاء؟ ولم يذهب؟ ولم يعاني ما يعاني في الحياة؟ ليس أشقى ممن يسير في الأرض يوجس من كل شيء خيفة لأنه لا يستشعر الصلة الخفية بينه وبين كل شيء في هذا الوجود.

ليس أشقى في الحياة ممن يشق طريقه فريدا وحيدا شاردا في فلاة، عليه أن يكافح وحده بلا ناصر ولا هاد ولا معين.
وإن هناك لَلحظات في الحياة لا يصمد لها بشر إلا أن يكون مرتكنا إلى اللّه، مطمئنا إلى حماه، مهما أوتي من القوة والثبات والصلابة والاعتداد .. ففي الحياة لحظات تعصف بهذا كله، فلا يصمد لها إلا المطمئنون باللّه.
"أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ"…

هؤلاء المنيبون إلى اللّه، المطمئنون بذكر اللّه، يحسن اللّه مآبهم عنده، كما أحسنوا الإنابة إليه وكما أحسنوا العمل في الحياة. 
"الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ" اهـ.

يتبين لنا من العرض السابق أن المصلحة الشرعية هي المصلحة التي تحقق السعادة في الآخرة والدنيا معًا، وللروح والجسد معًا.
ثم تأتي خاصية من أهم خصائص المصلحة الشرعية وهي أنها تراعي الأولويات وترتبها الأهم فالمهم، وهذا المبدأ -أعني ترتيب الأولويات- موجود في العقل العلماني بلاشك بل وفي كل العقول، ولكن الاختلاف هو في الترتيب نفسه.

أقسام المصالح

فالمصالح في الشرع تنقسم باعتبار آثارها في قوام الأمة مجموعا وأفرادا إلى ثلاثة أقسام كما هو معلوم: ضرورية وحاجية وتحسينية.

والمصالح الضرورية حصرها العلماء في ضروريات خمسة، قال فيها الغزالي"وتحريم تفويت هذا الأصول الخمسة يستحيل أن لا تشتمل عليه ملة ولا شريعة أريد بها إصلاح الخلق"اهـ. وهذه المصالح هي: (حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال)، وهي على هذا الترتيب محل اتفاق من العلماء.

وقد استدل العلماء على هذا الترتيب بأدلة منها:
أن الأمر بالجهاد في سبيل الله مع ما فيه من تغرير بالنفوس يدل على أن مصلحة حفظ الدين مقدمة على مصلحة حفظ النفس.
وتجويز تناول المسكر عند غلبة ظن الوقوع في الهلاك، يدل على أن حفظ النفس مقدم على حفظ العقل.
واشتراط الفقهاء ألا يتسبب جلد الزاني في إتلاف عضو له أو ذهاب لبعض حواسه، أو فقدان قواه العقلية، يدل على أن حفظ العقل مقدم على حفظ النسل.

والنهي عن التكسب من الزنى في مثل قوله تعالى "ولاَ تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا"، يدل على أن حفظ النسل مقدم على حفظ المال.

وفائدة الترتيب هي ترجيح المصلحة المتقدمة على المتأخرة عند تعارضهما كما في المثال الاستدلالي السابق. 

فإذا ما وجدت أن البعض يعترض على حكم شرعي ثابت حيث يرى أنه يفوت مصلحةً ما مستدلًا بأن هذه المصلحة مقصودةٌ شرعًا كحفظ المال مثلًا، فاعلم أن الجواب عن ذلك ليس بنفي هذه المصلحة وإنكارها كونًا، فإن الله خاطب المؤمنين خطابًا موضوعيًا عقليًا ليقتنعوا بحرمة الخمر والميسر فذكر أن فيهما ضررًا ومنفعة، ومفاسد ومصالح، ولكنه بين أن المفاسد فيهما أكبر من المصالح، وسر ذلك أن المفاسد فيهما ترجع إلى تفويت مصلحة حفظ الدين بالدرجة الأولى.

كما قال سبحانه "إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ" بينما المصلحة المرجوة من الخمر والميسر ترجع إلى حفظ المال، وحفظ الدين متمثلا في الآية في حفظ العلاقة بين المؤمنين وخالقهم بالذكر والصلاة، وبين المؤمنين وبعضهم البعض بسد أسباب العداوة والبغضاء مقدم على حفظ المال بلا أدنى شك.

إذن فالجواب يكون بإثبات هذه المصلحة في منزلة متأخرة عن تلك المصلحة التي غلبها عليها الشرع لا في إنكارها، ثم بيان أن الشرع إنما أهدرها مراعاة لمصلحة أرجح منها، وعلى من يخالفه أن يحدد إذا ما كانت أولوياته تتوافق مع أولويات الشرع أم لا، ليدرك سبب عدم فهمه لوجه المصلحة في تصرفات الشارع.

ولله در الإمام ابن عاشور إذ يقول “قد جاءت الشريعة بمقاصد تنفي كثيرا من الأحوال التي اعتبرها العقلاء في بعض الأزمان مصالح وتثبت عوضا عنها مصالح أرجح منها، نعم إن مقصد الشارع لا يجوز أن يكون غير مصلحة، ولكنه ليس يلزم أن يكون مقصودا منه كل مصلحة”

المباينة بين المصلحتين

ومثال على ما نحن فيه؛ قضية بيع الخمور وسياحة العري والانحلال، فإن قطاعا من المتمسكين بها يستندون في ذلك إلى المصلحة المرجوة من هذه الأمور وهي المال الذي تدره على البلاد، ويرون في منعها تفويتا لهذه المصلحة وإضرارا بالاقتصاد، فسبيل رد ذلك انطلاقا من بناء الأحكام على المصالح أن نقول: إن المصلحة الشرعية تخالف المصلحة التي تدركها عقولكم من أوجه:

أولها: أن المصلحة الشرعية تجمع بين مصالح الدنيا والآخرة، وقد ذم الله من باع آخرته بدنياه فقال "أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآَخِرَةِ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ" وتجارة الخمور وسياحة العري وإن حققت لنا مصالح دنيوية فإنها ستهدر مصالح الآخرة "وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى"، فهي إذن ليست مصلحة بالمفهوم الشرعي.

ثانيها: أن المصلحة الشرعية تجمع بين المصالح المادية والمصالح الروحية التي ركنها وعمادها إرضاء الله جل وعلا وهذه على التحقيق أعظم مصلحة في حياة المؤمن، وتجارة الخمر وسياحة العري وإن حققت لنا مصالح مادية فإنها ستهدر المصالح الروحية، فهي إذن ليست مصلحة بالمفهوم الشرعي.

ثالثها: سلمنا أن فيها مصلحة فإن هناك مصالح تتعارض معها بحيث لا يمكن الجمع بينهما، فتحصيل إحداها يستوجب تفويت الأخرى، وهي مصلحة حفظ الدين وحفظ العقل.

فـأيهما نقدم الدين أم المال؟! العقل أم المال؟!
إن أي إنسان صحيح العقل سليم الفطرة سيهدر المادة في سبيل الحفاظ على الروح، وسيهدر الدنيا في سبيل الحفاظ على الآخرة، وسيهدر المال في سبيل الحفاظ على دينه وعقله وقيم مجتمعه وكرامته وماء وجهه.

ولله در حسان بن ثابت رضي الله عنه إذ قال:
 أصون عرضي بمالي لا أدنسه ... لا بارك الله بعد العرض في المال  
أحتال للمال إن أوْدَى فأجمعه ... ولست للعرض أن أوْدَى بمحتال

وخلاصة القول:
إن المصلحة التي يدركها العقل العلماني ليست هي المصلحة التي جاء بتحصيلها وحفظها الشرع وبالتالي فلا يصح الاستدلال بها علينا. 
فالمصلحة العلمانية مصلحة دنيوية مادية فقط ولازم ذلك أن يكون الدين وحفظه ورعايته خارج دائرة المصالح المستهدفة بل هو تابع لها وفرع عنها يتحاكم إليها بحيث يجب عليه أن يتشكل ويتغير لملائمتها.

أما المصلحة الشرعية فهي مصلحة الدين والدنيا، والآخرة والأولى، والروح والمادة، والدين فيها أول المصالح المرعية وأولاها كما تقتضي طبيعة العبودية، وعليه فكل المصالح الأخرى فرع عن الدين بحيث يحددها ولا تحدده، فهو أصلها ومنبعها ومعيارها ومنه تستمد مشروعيتها، وهذا لا يدركه إلا من التزم شعار العبودية لله وجعل الآخرة همه والجنة هدفه والدنيا وسيلته، لا من جعل الدنيا سقفه وغايته، وجعل من عقله سيدًا لا سيد له، ومشرعا لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه، ثم يحسب أنه على شيئ وأنه من المصلحين.

وأخيرا فإن رؤية الحق حقًا والباطل باطلًا هداية، والهداية هبة، والمقام مقام اصطفاء، "أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ".
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#المصلحة
اقرأ أيضا
الدين والعبادة | مرابط
اقتباسات وقطوف

الدين والعبادة


مقتطف ماتع لشيخ الإسلام ابن تيمية من رسالة العبودية يتحدث فيها عن المعنى الحقيقي للعبادة وكيف أنها تستلزم الحب والذل في آن واحد وكذلك يشملهما معنى الدين وما هو المعنى العام للدين ومراحل أو درجات الحب وجدير بالمسلمين أن يدركوا هذه المعاني جيدا حتى تصفى عبادتهم لله

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
2084
هذا مخالف للعلم الجزء الأول | مرابط
أباطيل وشبهات تعزيز اليقين مقالات

هذا مخالف للعلم الجزء الأول


من المقولات التي شاع استعمالها في العصر الحديث والتي أدت بكثير من الناس إلى معارضة جملة من الأخبار الشرعية دعوى مخالفتها للعلم المعاصر فهي مقولة تشابه إلى حد ما مقولة لا يقبله العقل لكن الفرق أن طرف المعارضة هنا هو العلم بدلا من العقل وفي هذا المقال مناقشة دقيقة لهذا القول ولمذهب أصحابه

بقلم: عبد الله بن صالح العجيري وفهد بن صالح العجلان
2023
مشكلة إطلاق البصر | مرابط
مقالات

مشكلة إطلاق البصر


كم من امرأة أطلقت نظرها وقلبها وخيالها على رجال فأفسدت حياتها مع زوجها وإن لم تكن متزوجة فهو ضرر عظيم أيضا حيث يشغل تفكيرها بما لا ينفع ويشتت عقلها وربما أدخلها في مشاهدة الحرام ويجعلها تطلب صورة مثالية متخيلة لزوج المستقبل تفسد عليها اختيارها لمن يتقدم لها وهذا حصل كثيرا

بقلم: حسين عبد الرازق
212
اللغة العربية ودعوات العامية | مرابط
لسانيات

اللغة العربية ودعوات العامية


إذن اللغة العربية هي لغة متخطية للحدود التاريخية والجغرافية والقومية بل والحدود الزمكانية إن صح التعبير فهي لغة كلام الله المنزه المنزل من فوق سبع سموات وهي لغة أهل الجنة.. فكيف لا تكون الحرب عليها بهذه الضراوة؟! بكلتا النقطتين يتبين لنا ملمح مهم من ملامح الإعجاز القرآني بخلاف الإعجاز اللغوي والعلمي والتشريعي وما إلى ذلك.. ألا وهو صيانة هذه الأمة والحفاظ على وحدتها ووجودها إلى قيام الساعة..

بقلم: عمرو كامل
403
أحاديث المقاهي وإهدار الطاقات | مرابط
اقتباسات وقطوف

أحاديث المقاهي وإهدار الطاقات


مقتطف رائع لمالك بن نبي من كتاب شروط النهضة يرصد فيه حالة متكررة نراها دائما في مجتمعاتنا العربية ألا وهي الخطب الرنانة التي تلقى على المقاهي كثيرا ما نسمع هناك عبارات نطالب بحقوقنا يجب أن يتغير الواقع ويكون كذا وكذا كلها خطب ومقالات وأحاديث وجدالات رنانة ولكنها لا تفضي إلى أي شيء

بقلم: مالك بن نبي
2148
حجج من كذبوا الرسل | مرابط
اقتباسات وقطوف

حجج من كذبوا الرسل


عامة من كذبوا الرسل لم يقدموا حججا حقيقية يقبلها العقل أو يتصورها وإنما كانت تحيط بهم الشهوات والأهواء والتي لا تستقيم مع الاستجابة لدعوات الرسل ومن هنا بدأت المناجزة وجرتهم شهواتهم إلى طريق عداوة الدين وأهله وهذا مقتطف لشيخ الإسلام ابن تيمية من كتاب الإيمان يدور حول هذا الأمر

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
1935