الوقت

الوقت | مرابط

الكاتب: مالك بن نبي

2406 مشاهدة

تم النشر منذ 3 سنوات

"ما من يوم ينشق فجره إلا وينادي، يا ابن آدم أنا خلق جديد: وعلى عملك شهيد فاغتنم مني فإني لا أعود إلى يوم القيامة"

 

الزمن نهر قديم يعبر العالم منذ الأزل.

 

فهو يمر خلال المدن، يغذي نشاطها بطاقته الأبدية، أو يذلل نومها بأنشودة الساعات التي تذهب هباء، وهو يتدفق على السواء في أرض كل شعب، ومجال كل فرد، بفيض من الساعات اليومية التي لا تغيض، ولكنه في مجال ما يصير ثروة، وفي مجال آخر يتحول عدما. فهو يمرق خلال الحياة، ويصب في التاريخ تلك القيم التي منحها له ما أنجز فيه من أعمال.
 
ولكنه نهر صامت، حتى إننا ننساه أحيانا، وتنسى الحضارات، وفي ساعات الغفلة أو نشوة الحظ قيمته التي لا تعوض. ومع ذلك ففي ساعات الخطر في التاريخ، تمتزج قيمة الزمن بغريزة المحافظة على البقاء، إذا استيقظت، ففي هذه الساعات التي تحدث فيها انتفاضات الشعوب، لا يقوم الوقت بالمال، كما ينتفي عنه معنى العدم؛ إنه يصبح جوهر الحياة الذي لا يُقدّر.
 
وحينما لا يكون الوقت من أجل الإثراء أو تحصيل النعم الفانية أعني حينما يكون لازما للمحافظة على البقاء، أو لتحقيق الخلود، والانتصار على الأخطار، يسمع الناس فجأة صوت الساعات الهاربة، ويدركون قيمتها التي لا تعوض، ففي هذه الساعات، لا تهم الناس الثروة أو السعادة أو الألم، وإنما الساعات نفسها، فيتحدثون حيئذ عن ساعات العمل؛ أعني العملة الوحيدة المطلقة التي لا تبطل، ولا تُسترد إذا ضاعت: إن العملة الذهبية يمكن أن تضيع، وأن يجدها المرء بعد ضياعها، ولكن لا تستطيع أي قوة في العالم أن تحطم دقيقة، ولا أن تستعيدها إذا مضت.
 

الوقت في العالم العربي والإسلامي

 

وحظ الشعب العربي والإسلامي من الساعات كحظ أي شعب متحضر، ولكن... عندما يدق الناقوس مناديا الرجال والنساء والأطفال إلى مجال العمل، في البلاد المتحضرة.. أين يذهب الشعب الإسلامي؟ تلكم هي المسألة المؤلمة.
 
فنحن في العالم الإسلامي نعرف شيئًا يسمى الوقت.. ولكنه الوقت الذي ينتهي إلى عدم، ﻷننا لا ندرك معناه، ولا تجزئته الفنية. ﻷننا لا ندرك قيمة أجزائه من ساعة ودقيقة وثانية، ولسنا نعرف إلى الآن فكرة الزمن الذي يتصل اتصالا وثيقًا بالتاريخ، مع أن فلكيًا عربيًا مسلمًا هو "أبو الحسن المراكشي" يعتبر أول من أدرك هذه الفكرة الوثيقة الصلة بنهضة العلم المادي في عصرنا.
 
وبتحديد فكرة الزمن، يتحدد معنى التأثير والإنتاج، وهو معنى الحياة الحاضرة الذي ينقصنا. هذا المعنى الذي لم نكسبه بعد، هو مفهوم الزمن الداخل في تكوين الفكرة والنشاط، في تكوين المعاني والأشياء.
 
فالحياة والتاريخ الخاضعان للتوقيت كان وما يزال يفوتنا قطارهما، فنحن في حاجة ملحة إلى توقيت دقيق، وخطوات واسعة لكي نعوض تأخرنا.
 
وإنما يكون ذلك بتحديد المنطقة التي ترويها ساعات معينة من الساعات الأربع والعشرين التي تمر على أرضنا يوميًا. إن وقتنا الزاحف صوب التاريخ لا يجب أن يضيع هباء؛ كما يمر الماء من ساقية خربة، ولا شك أن التربية هي الوسيلة الضرورية التي تعلم الشعب العربي الإسلامي تماما قيمة هذا الأمر، ولكن بأية وسيلة تربوية؟
 
إن من الصعب أن يسمع شعب ثرثار الصوت الصامت لخطى الوقت الهارب.. ومع ذلك فكل علم له مرحلته التجريبية التي تتصف بالاحتمال والمحاولة، وهما يسبقان ضرورة الفكرة الواضحة التي يستخلصها العقل في المرحلة التالية.
 
فينبغي أن نحدد التجربة المطابقة لمقتضى الحال لكي نعلم المسلم علم الزمن، فنعلم الطفل والمرأة والرجل تخصيص نصف ساعة يوميا لأداء واجب معين، فإذا خصص كل فرد هذا الجزء من يومه في تنفيذ مهمة منتظمة وفعالة فسوف يكون لديه في نهاية العام حصيلة هائلة من ساعات العمل لمصحلة الحياة الإسلامية في جميع أشكالها العقلية والخلقية والفنية والاقتصادية والمنزلية.
 
وسيثبت هذا (النصف ساعة) عمليا فكرة الزمن في العقل الإسلامي، أي في أسلوب الحياة في المجتمع، وفي سلوك أفراده، فإذا استغل الوقت هكذا فلم يضع سدى ولم يمر كسولًا في حقلنا، فسترتفع كمية حصادنا العقلي واليدوي والروحي، وهذه هي الحضارة.
 

تجربة ألمانيا

 

ولا بد لنا في خاتمة هذا المقال أن نورد تجربة قريبة منا، وواقعة تحت أنظارنا، وهي أيضًا في متناول المقاييس العملية، هذه التجربة هي ما حدث في ألمانيا عقب الحرب العالمية الثانية، تلك الحرب التي خلفت وراءها ألمانيا عام 1945 قاعا صفصفًا، حطمت فيها كل جهاز للإنتاج، ولم تبق لها من شيء تقيم على أساسه بناء نهضتها، وفوق ذلك فقد تركتها لتصرف شؤونها تحت احتلال أربع دول، فلما بدأ النشاط يسري في نفس الشعب الألماني في مستهل سنة 1948، كان ساعتئذ في نقطة الصفر من حيث المقومات الاقتصادية الموجودة لديه.
 
واليوم، وبعد عشر سنوات تقريبًا نرى معرض ألمانيا يفتح أبوابه بالقاهرة في شهر مارس 1957 فتذهلنا المعجزة، إذ ينبعث شعب من الموت والدمار، وينشيء الصناعات الضخمة، التي شهدناها. ولو أننا حللنا تلك المعجزة لوجدنا فيها عوامل شتى لا سبيل إلى إنكارها، من بينها الاقتصاد في الجهاز الإداري، وفي التكاليف الإدارية، فقد أصبح كثير من أعمال الحكومة يقوم به أفراد الشعب كواجب عليهم، ولكن العامل المهم من هذه العوامل جميعها، هو: الزمن.
 
فقد فرضت الحكومة عام 1948 على الشعب الألماني كله، نساء وأطفالا ورجالا، التطوع يوميا ساعتين، يؤديها كل فرد زيادة على عمله اليومي وبالمجان، من أجل الصالح العام فقط. ولقد سمي هذا التجنيد العام Roboter Arbeit وهو العمل للمصلحة العامة.
 
فهذه المعجزة الاجتماعية التي أتت بها ألمانيا، قد كان للزمن في إخراجها حظ موفور، ويمكننا أن ندرك قيمة الوقت مباشرة في عودة الحياة الاجتماعية والاقتصادية لشعب لم يبق لديه من الوسائل إثر الحرب الثانية إلا العناصر الثلاثة: الإنسان، والتراب، والزمن.
 
وهنالك، حيث تهدد الصحراء وجودنا، وحيث لا نملك في أيدينا سوى هذه العناصر الثلاثة، سيرى العالم ازدهار حياتنا من جديد، هنالك حيث يخيم الجهل والفقر سيشهد الناس سيطرة الصناعة والفن، والعلم والرفاهية.

 


 

المصدر:

  1. شروط النهضة، مالك بن نبي، ص 139
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#مالك-بن-نبي #الوقت #شروط-النهضة
اقرأ أيضا
مبنى الدين على قاعدتين: الذكر والشكر | مرابط
اقتباسات وقطوف

مبنى الدين على قاعدتين: الذكر والشكر


مقتطف لابن القيم من كتاب الفوائد يذكر فيه قاعدتين جليلتين في دين الإسلام ألا وهما الذكر والشكر قال تعالى فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون ويفصل لنا الحديث عنهما وما جاء فيهما في كتاب الله المحكم وفي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم

بقلم: ابن القيم
1053
العلمانية هي الحل | مرابط
فكر مقالات العالمانية

العلمانية هي الحل


العلمانية هي الحل تظهر هذه العبارة حينا وتخفت في حين آخر بحسب حالة النفور المجتمعية من العلمانية فإذا ارتفعت حدة النفور في مجتمع معين لانتشار الوعي بحقيقة الفكرة العلمانية وما فيها من رفض للدين وعداء له انسحبت هذه العبارة من المشهد وضعف تداولها فإذا خفت حدة النفور المجتمعي طفت هذه المقولة إلى السطح

بقلم: عبد الله بن صالح العجيري وفهد بن صالح العجلان
898
مغالطة يوثيفرو ضد دلالة الأخلاق والقيم على ضرورة وجود الله | مرابط
أباطيل وشبهات تعزيز اليقين فكر مقالات

مغالطة يوثيفرو ضد دلالة الأخلاق والقيم على ضرورة وجود الله


من أشهر الاعتراضات التي يوردها الملاحدة على دليل القيم والمبادئ ما يسمى معضلة يوثيفرو euthyphro وهو رجل من اليونان نسبت إليه المعضلة وقد كانت نتيجة حوار بينه وبين سقراط وكان يرى أن مصدر الأخلاق يرجع إلى الإله فقال له سقراط: هل الأخلاق حسنة لأن الله يريدها أم أن الله أرادها لأنها حسنة

بقلم: سلطان العميري
1233
التسليم موقف عقلاني | مرابط
أباطيل وشبهات تعزيز اليقين مقالات

التسليم موقف عقلاني


المسلم مطالب بالتسليم للأوامر الشرعية كلها طالما ثبت صحتها عنده وليس هناك مجال للاختيار أو عدم الاستجابة ولكن يبقى السؤال: هل هذا التسليم مبني على لاشيء هل هو موقف قائم على العمى المطلق أو هي استجابة تخلو من إعمال العقل الإجابة هي: لا ليس الأمر كذلك كما يدعي أعداء الدين وإنما التسليم الشرعي للنص مبني على أصول عقلية وعلمية يبينها المؤلف في هذا المقال الماتع

بقلم: عبد الله بن صالح العجيري
2151
تضخيم الألم | مرابط
اقتباسات وقطوف

تضخيم الألم


هذه العملية عبارة عن حالة شعورية تعتريك عند وقوعك في مشكلة تجعلك تؤمن أن ما حدث لك أكبر من قدرتك على التحمل فتشعر بالعجز والانهيار عند حدوث المشكلة وتصف المشكلة بألفاظ مبالغ فيها لا تساوي حجمها الحقيقي

بقلم: د إسماعيل عرفة
746
توهم معارضة الأحاديث الصحيحة لما هو أرجح منها | مرابط
أباطيل وشبهات تعزيز اليقين مقالات

توهم معارضة الأحاديث الصحيحة لما هو أرجح منها


من بين آلاف الأحاديث الصحيحة التي لم يتعرض لها المشككون في السنة بالإنكار أو الاعتراض نجد أن نسبة النصوص التي أثاروا شبهات حولها لا تكاد تتجاوز 2 من مجموعها ولكنهم يجعلون هذه النسبة الضئيلة سببا في إسقاط ما بقي من الأحاديث الصحيحة وسبب استشكالهم لهذه الأحاديث يعود إلى اعتقادهم أنها تعارض ما هو أرجح منها ثبوتا أو دلالة فيتوهمون تعارضها مع القرآن أو مع سنة أصح منها أو مع العقل أو مع الحس والتجربة أو مع الذوق والأخلاق ثم يردونها بسبب هذا التوهم من المعارضة ويتجاوزون القدر المشكل إلى ما وراءه و...

بقلم: أحمد يوسف السيد
1343