بكاء النبي صلى الله عليه وسلم

بكاء النبي صلى الله عليه وسلم | مرابط

الكاتب: نبيل العوضي

369 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

 

عيون حمراء تختلف عن العيون الحمراء التي تسهر على الذنوب والمحرمات، فهناك عيونٌ حمراء تتعاطى المخدرات.. عيون حمراء تسهر في المعاكسات.. عيونٌ حمراء بكت لفراق عشيقها أو محبوبها، أو فراق صديقها.. عيونٌ حمراء لكنها لم تبك لله عز وجل، فلن نتكلم عن هذا كله في هذه الليلة، لكن سوف نتكلم هذه الليلة عن عيونٍ حمراء بكت لكنها بكت لله عز وجل، بكت لكن ليس لأجل الدنيا، سوف نتكلم عن أغلى بكاء على وجه هذه الأرض، وأغلى من دمعت عينه، فهي أغلى الدموع، وأغلى البكاء، إنه بكاء النبي عليه الصلاة والسلام.

 

بكى المصطفى عليه الصلاة والسلام، لكن لمَ بكى؟ وكيف بكى؟ وإن دل هذا الأمر على شيء فإنما يدل على أن النبي عليه الصلاة والسلام أعظم الناس خلقًا، وأكثرهم رحمة، حتى قال أثناء بكائه لما سأله سعد بن عبادة : (أتبكي يا رسول الله؟! قال: نعم. هذه رحمة، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء) وكان الصحابة والتابعون يبكون، ولكن لا يظهرون بكاءهم، أحدهم عشرون سنة يبكي على وسادته عند زوجته لا تعلم عنه زوجته.

 

أيوب السختياني رحمه الله كان إذا جلس في المجلس، وغلبته عيناه تظاهر أنه مصاب بالزكام، فإذا غلبته عيناه قام وخرج، حتى لا يعلم عنه أحد. وكان الشخص منهم يقوم في الصف فتسيل دموعه ولا يعلم الذي بجنبه أنه يبكي، بكاءٌ لله لا لغيره، ولهذا يتفاجئون إذا رأوا غيرهم يبكي، البكاء عندهم بالسر، البكاء بالخلوات.

 

وفي الحديث الصحيح: (أن النبي عليه الصلاة والسلام أرسلت له ابنة من بناته أن ابنًا لي يحتضر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للرسول: اذهب إليها وقل لها: لله ما أخذ، ولله ما أعطى، وكل شيءٍ عنده بقدر، فلتصبر ولتحتسب، فأرسلت إليه تقسم عليه أن يأتي، فذهب النبي صلى الله عليه وسلم، فلما حضر، رفع إليه الصبي الرضيع ونفسه تقعقع -يسمع صوت احتضاره، احتضار من؟ ابن ابنته رضي الله عنها- فأخذه النبي عليه الصلاة والسلام، فدمعت عيناه، فقال له سعد بن عبادة وكان جالسًا: ما هذا يا رسول الله؟! قال: هذه رحمة، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء).

 

قال ابن القيم رحمه الله وهو يجمع بين فعل بعض الناس لما يأتيه خبر موت ابنه، أو حبيبه، أو صاحبه فيبتسم، فيقال له: لم تبتسم؟ قال: رضا بقدر الله عز وجل، يقول ابن القيم : إن النبي صلى الله عليه وسلم أعظم، لِمَ؟ لأنه جمع بين صفتين، صفة الرضا وصفة الرحمة: (وإنما يرحم الله من عباده الرحماء).. "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ" [الأنبياء:107] فوصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه رحمة.

 

يومًا من الأيام سمع أن ابنة من بناته ماتت، فغسلت، وكفنت، وذهب النبي صلى الله عليه وسلم مع الصحابة ليصلي عليها، يقول الصحابي: فرأيته بعد الصلاة جالسًا عند قبرها يبكي عليه الصلاة والسلام، فقال للصحابة: (أيكم لم يقارف الليلة؟ -أي: أيكم لم يجامع زوجته الليلة؟- فقام أبو طلحة فقال: أنا يا رسول الله! قال: انزل فادفنها) يقول: فنـزل في قبرها والنبي جالسٌ عند القبر يبكي عليه الصلاة والسلام.

 

يقول أنس : (ذهبنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فدخل على ابنه إبراهيم -وكان يحبه حبًا جمًا- يقول: دخل عليه فضمه، وقبله، وشمه عليه الصلاة والسلام، ثم خرج، وبعد فترة من الزمن رجع النبي صلى الله عليه وسلم مرةً أخرى إلى ابنه، فإذا هو يحتضر، فإذا النبي عليه الصلاة والسلام يرفعه فتدمع عيناه ويبكي، فقال عبد الرحمن بن عوف : ما هذا يا رسول الله! فقال عليه الصلاة والسلام: إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون، وإنا لله وإنا إليه راجعون) "الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ" [البقرة:156].

 

انظروا إلى قلبه الرحيم عليه الصلاة والسلام، يدخل عليه يومًا من الأيام الأقرع بن حابس ، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الحسن والحسين ابني علي ، وكان يحبهما حبًا جما، بل كان أحيانًا يداعبهما عليه الصلاة والسلام، ويومًا من الأيام كان ساجدًا، فرقى الحسن على ظهره عليه الصلاة والسلام، فلم يرفع رأسه من سجوده؛ لأجل أن الحسن قد رقى على ظهره.

 

فرآه الأقرع يقبل الحسن ، فقال الأقرع بن حابس : (والله إن لي عشرة من الولد ما قبلت أحدًا منهم، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أو أملك لك أن نزع الله الرحمة من قلبك) ما فيك رحمة، ماذا أصنع لك؟! "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ" [الأنبياء:107].

 

ليس فقط لأولاده؛ بل يومًا من الأيام سمع أن سعد بن عبادة يحتضر رضي الله عنه، وهو صحابي جليل، فذهب النبي صلى الله عليه وسلم يزوره، فلما دخل وجد عند سعد بن عبادة أهله، ووجد خدمه، فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (أقضى -يعني مات- قالوا: لا يا رسول الله!) إلى الآن ما مات، يقول الصحابي: فإذا بالنبي عليه الصلاة والسلام يبكي، يبكي على من؟ يبكي على صاحبه الذي يحتضر.. يبكي على أخيه.. يبكي على من يحبه، قال: (فإذا النبي يبكي، فنظر الصحابة إليه، فبكى الصحابة جميعًا حوله -كل الصحابة بكوا وهم ينظرون إلى هذا المنظر- ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام: إن الله عز وجل لا يعذب بدمع العين، ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا، وأشار إلى لسانه) من يجزع.. من يصرخ.. من ينوح.. من يلطم.. هذا الذي يعذب الله عليه، قال: (يعذب بهذا -وأشار بلسانه- أو يرحم، إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه).. "مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ" [الفتح:29].

 

يومًا من الأيام قرأ عليه الصلاة والسلام آيات، انظر! ماذا قرأ وانظر ماذا صنع بأبي هو وأمي، والمصيبة أن بعض الناس اليوم يستحي إذا أظهر سنته عليه الصلاة والسلام، وربما يخجل أن يتظاهر بسنته، وبعضهم لا يعرف شيئًا عن حياته عليه الصلاة والسلام، انظر! ماذا كان يفعل لأمته.

 

يومًا من الأيام قرأ آيتين من القرآن، ثم بكى، قرأ قول الله عز وجل على لسان إبراهيم: "رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ" [إبراهيم:36] وقرأ قول الله عز وجل: "إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" [المائدة:118] فرفع يديه إلى السماء وأخذ يبكي، وقال: (اللهم أمتي أمتي، اللهم أمتي أمتي، فقال الله لجبريل: يا جبريل! -والله أعلم جل وعلا- اذهب إلى محمد فسله: ما الذي يبكيك؟ فذهب جبريل يسأل النبي عليه الصلاة والسلام، فقال: أمتي -يبكي على أمته- فرجع جبريل إلى الله عز وجل فأخبره الخبر، فقال الله عز وجل لجبريل: يا جبريل! اذهب إلى محمد فأخبره أنا سنرضيك في أمتك).

أسمعتم بحديث الشفاعة؟

 

حديث الشفاعة الطويل الذي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم يأتيه الناس بعد أن ذهبوا إلى آدم، ونوح، وإلى إبراهيم، وموسى، وعيسى كلٌ منهم يقول: (نفسي نفسي، فيأتون إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فيقول: أنا لها، أنا لها، فيذهب إلى الله عز وجل فيخر ساجدًا، فيلهمه الله تسابيح وتحاميد لم يعرفها في الدنيا، ثم يقول الله عز وجل له: يا محمد! ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع، فيرفع رأسه إلى الله جل وعلا، فيقول: اللهم أمتي أمتي) ينتظرهم عند الحوض فيأتي أصحابه فيشربون من الحوض، ويستقبلهم محمد عليه الصلاة والسلام، فتأتي الملائكة تذود بعض الناس -تبعد بعضهم- فيقول لهم: ( أصحابي أصحابي -تمنعون أمتي؟- فيقولون له: يا محمد! لا تدري ماذا أحدثوا بعدك ) بدلوا سنتك، وتجاهلوا شرعك، لم يحكموا بهديك، هجروا سنتك وهديك يا محمد!

 

لو عاش بيننا اليوم النبي عليه الصلاة والسلام ماذا سيقول؟ وماذا سيفعل؟

 

هل تعلمون أن بعض الناس من رمضان إلى اليوم ما قرأ القرآن مرةً واحدة، وما ختم القرآن مرةً واحدة؟ والنبي عليه الصلاة والسلام يشتكي إلى الله: "وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا" [الفرقان:30] يشتكي إلى الله أن أمته هجرت القرآن.

ماذا يصنع النبي عليه الصلاة والسلام لو كان الآن بيننا؟ ماذا يفعل وهو يرى الألف مليون مسلم يحكمون بغير هديه ويستنون بغير سنته، إلا من رحم ربي في هذه الأمة؟ ماذا يصنع اليوم لو يرى في بعض بلاد المسلمين توزع وتباع كتب، ينال فيها من المصطفى عليه الصلاة والسلام؟

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#البكاء
اقرأ أيضا
من يمتلك الحقيقة | مرابط
تعزيز اليقين مقالات

من يمتلك الحقيقة


بين النبي صلى الله عليه وسلم للناس ما يجب عليهم اعتقاده كما بين لهم ما يجب عليهم عمله أو تركه ولم يجعل الله تعالى أمور الاعتقاد موكولة للآراء فإنها لا تجمع على شيء في قضايا الاعتقاد ألسنا نرى أن استحسانات بعض الناس قادتهم إلى عبادة الفأر و البقر والحجر والشمس والقمر كما أن آراء أخرى جعلت أصحابها يعتقدون أن دفع الضر مرتبط بخيط يحيط معصم الإنسان

بقلم: أحمد يوسف السيد
2008
مكانة المرأة في الإسلام | مرابط
تعزيز اليقين فكر مقالات المرأة

مكانة المرأة في الإسلام


روى الترمذي في سننه من حديث أم عمارة - رضي الله عنها - أنها أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: ما أرى كل شيء إلا للرجال وما أرى النساء يذكرن بشيء فنزلت هذه الآية: إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما الأحزاب: 35

بقلم: د أمين بن عبدالله الشقاوي
1590
لماذا الاحتفال بغير أعيادنا ليس أمرا شكليا؟ | مرابط
مقالات

لماذا الاحتفال بغير أعيادنا ليس أمرا شكليا؟


انظر كيف حرص النبي صلى الله عليه وسلم على قطع عادات الجاهلية ووجه عنايته لها.. فالقصد لم يكن مجرد إحداث قطيعة مع شعائر الماضي بل بناء نظام اجتماعي جديد للأمة وما كان هذا ليحدث لولا القطيعة مع شعائر الماضي وعاداته وأعرافه! قطعا هذا الأمر ثقيل على النفس لضغط الداعي الاجتماعي لذلك لا تملك زمامه إلا النفوس القوية

بقلم: محمد وفيق زين العابدين
244
أبرز آراء النسوية الراديكالية: رفض الأسرة والزواج | مرابط
مقالات النسوية

أبرز آراء النسوية الراديكالية: رفض الأسرة والزواج


كرد فعل لوضع المرأة في الغرب وكرد فعل لقوانين الأحوال الشخصية المسيحية القاسية وكرد فعل لقسوة الرجال وعنفهم وكتحقيق للرغبة الجنسانية المستشرية في الغرب وابتغاء للفردية وعدم التقيد وهروبا من أعباء البيت ومسؤوليات الأسرة واعتقادا بأن الأسرة قيد وعبء ولا ضرورة لها وتصنف المرأة في درجة أدنى واحتجاجا على حصر دور المرأة في الإنجاب والأمومة دون غيرها من الأدواركل هذه الأمور أدت ببعض أجنحة هذه الحركة إلى السعي للتخلص من الأسرة والزواج

بقلم: مثنى أمين الكردستاني
1864
ماذا تركت لأجلي؟ | مرابط
مقالات

ماذا تركت لأجلي؟


ويقول الشاب التائب: لأجلك ربي تركت رفقاء الطيش وطريق الهوى وآثرت طريق العفاف والهدى وصبرت على مقاومة كل وسائل الجذب والإغراء حتى صرت بين الشباب غريبا في مظهري ومخبري. وتقول أمة الله: لأجلك ربي تركت التبرج والزينة التي أحب وخالفت بيئتي المتحررة التي فيها نشأت ونالني فيك السخرية والأذى.

بقلم: د. جمال الباشا
313
فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم | مرابط
اقتباسات وقطوف

فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم


مقتطف ماتع من كتاب شفاء العليل لابن قيم الجوزية يعلق فيه على قول الله تعالى فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم ويبين لنا كيف أن من عقاب السيئة السيئة بعدها ومن ثواب الحسنة الحسنة بعدها ويضرب مثلا بقصة إبليس وإعراضه عن أمر ربه وكيف كانت عقوبته

بقلم: ابن القيم
1189