أثر الإيمان في بناء الأمم ج2

أثر الإيمان في بناء الأمم ج2 | مرابط

الكاتب: د سفر الحوالي

523 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

 

أثر الإيمان والمادة في واقع الحياة

وإن شئتم أن نأخذ نماذج حديثة لنعرف بها قيمة الإيمان الذي أنعم الله به علينا، ففي هذه الأمة وفي النفوس جمعاء عادة يجب أن نعلمها، وهي من أسوء ما يعتري النفس الإنسانية، ألا وهي النسيان، والملل، وعدم التفكر، أو تبلد الإحساس؛ فمثلًا الذي يعيش في النور باستمرار.. لا يحس بقيمته، لماذا؟ لأن ذلك أصبح عادة في حياتنا؛ فلا نعرف قيمة هذه النعمة، كمثل رجل في البادية في مكان بعيد يعاني من الظلام في الليل، فهو كل يوم يتذكرها. نحن لا نتذكرها، وقس على ذلك النعم العظيمة، فنحن في نعمة الإيمان لكننا لا ندرك قيمتها، والنور يغمرنا ولكن لا ندرك قيمته، ولا نجد أثرًا لتلك النعمة في قلوبنا.

أما الصحابة الكرام فإنهم لما عرفوا قيمة هذا النور؛ جاهدوا في الله حق جهاده، وتجردوا لله عز وجل، فلم تأخذهم في الله لومة لائم، فقد تركوا المال والأهل والدنيا وخرجوا لله للجهاد، ففتحوا وتعلموا وعلموا، فهذا حال الصحابة الكرام الذين عرفوا قيمة النور وقيمة الإيمان، لكن! متى انتقض الإسلام شيء فشيئًا؟! كما قال عمر رضي الله عنه: [[إنما ينتقض الإسلام إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية]] أي: لا يعرف خطر الشرك والكفر، والبدعة، ولا يعرف قيمة وأهمية الإيمان.

 

أحوال الأمة مع الإيمان والمادة

والمؤلم أن كثيرًا منا ينظر إلى العالم الغربي، وهو العالم الذي يعاني أشد المعاناة من المعيشة الضنكة والحياة النكدة؛ لأنه بعيد عن الإيمان بالله، ينظر إليه نظرة الإعجاب، ويتمنى كثير منا -ربما عن طيب نية- أن تصل مجتمعاتنا إلى ما وصلت إليه تلك المجتمعات من الرقي والتقدم والسعادة، فماذا يريدون، وأي سعادة يريدون في أوروبا وفي أمريكا الإنسان مكفولة له الحرية الشخصية؛ فيقول ما يشاء ويذهب أين شاء.

الحياة المادية مكفولة؛ فيعطى السكن المجاني بأقساط زهيدة، ويعطى فرص الحياة كما يشاء، والمريض إذا مرض بمرض مقعد أو ما أشبه ذلك يعطى بطاقة في جيبه.. يأكل بها في أي مطعم، وتدفع ذلك الحكومة.

ومن جهة الترفيه؛ فكل وسائل الترفيه موجودة ومهيأة، فيذكرون أمورًا كثيرة جدًا، وكيف أنهم يعيشون في العمارات الشاهقة، ولديهم الشركات الضخمة، وكذلك إنتاج الأسلحة في أقوى ما يمكن، وإنتاج الأدوية والزراعة، وكل وسائل الحياة الدنيا متوفرة لديهم، فيتحرقون ويتشوقون أن يكونوا أفرادًا لتلك الأمم ويتمنون أن بلادهم وأمتهم تكون مثل تلك الأمم.

هذه النظرة الظاهرة السطحية إلى حياة تلك الأمم نظرة الذين لا ينطلقون في نظراتهم ويقيمون معاييرهم وموازينهم بميزان الإسلام، وبما جاء في كتاب الله وسنة نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلو أننا غيرنا النظرة، ونظرنا بمنظار حقيقي كيف تعيش هذه الأمم على حسب ما جاء به كتاب ربنا وسنة نبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فماذا نجد؟

نجد الشقاء كل الشقاء والانهيار المحتوم الذي لا تغني ولا تجزي عنه كل هذه الوسائل، وكل هذا التقدم المادي المرضي، لكنهم يعيشون في شقاء، الأثرياء في شقاء ونكد وخوف، والفقراء كذلك في شقاء ونكد وخوف، فالرجل هناك يعمل ثمان ساعات في دائرة حكومية تضمن له مرتبًا كافيًا، ومع ذلك لابد أن يبحث عن عمل في إحدى الشركات في المساء أيضًا لكي يضمن كما يقال المستقبل، لأنه يخاف على مصير أولاده، فيخشى أكثر بكثير جدًا من الرجل الذي يعيش في الدول الفقيرة كـالهند وبنجلادش وغيرها من الذي لا يجد إلا قوت يومين أو ثلاثة، وربما لا يفكر في المستقبل إلا قليلًا، فهذا هو الذي يهم أسباب القوة والرخاء فتجده يفكر الليل والنهار، مع أن رصيده مضمون له، ومع أن الدولة تعطي مأوى للعجزة، ومع ذلك كله لا راحة ولا طمأنينة أبدًا، فهو يلهث ليل نهار.. مهما كان لديه من شركات ومؤسسات فإنه يخاف المستقبل، فهاتفه يجلب عليه ضيق، فيأتيه عن طريقه فقط خمسة أعمال وهموم في وقت واحد، كما نجده عند أغنيائنا الكبار أيضًا.

تفكيره وهمومه الدولار أو الجنيه انخفض أو ارتفع، وهل زاد التأمين أم انخفض؟! فهو مشغول العقل ليلًا ونهارًا من أجل هذه الدنيا، ومع ذلك: إن جالسته تجده مهمومًا مغمومًا يخاف من المستقبل ويفكر في الانهيار والخسارة أكثر مما يفكر بها الإنسان العادي، حتى أن نسبة الانتحار في العالم الغربي، وكذلك مع الأسف في العالم الشرقي والعالم الإسلامي عالية جدًا، وأيضًا يزداد التفكك في الأسرة، شيء عجيب جدًا يعيشه هذا العالم البعيد عن دين الله، وعن الإيمان به سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

النكد مرسوم على ملامحهم، والحياة الشقية مرسومة على وجوههم، فيهربون ويلجئون منها إلى المخدرات، فلا يجدون فيها إلا الوبال، فيهربون منها إلى الشهوات المحرمة، فظهرت لهم هذه الأوبئة التي حجزتهم وحرمتهم عن هذه الشهوات وهذه المتع، فأين يذهب هؤلاء الناس؟! أين يذهبون؟! أما نحن المسلمين فإننا نعرف قوله تعالى "فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ" [الذاريات:50] وقوله: "لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ" [التوبة:118] ولكن! هم والله لا يدرون؛ ولذلك فهم يحارون ويحارون! فيعلقون الآمال على ما عندهم من العلم كما قال تعالى: "فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ" [غافر:83] فالأوبئة تعالج بأن العلم سيكتشف لها مضادات؛ والانهيار الاقتصادي أو الخوف الاقتصادي يعالج بالخطط طويلة المدى؛ والخوف المستقبلي يعالج بأن الحياة مضمونة ومكفولة وكذا وكذا، كل ذلك ضمن النظرة المادية القاصرة.

مثله كمثل المسجون في قفص؛ فكل مرة يفكر ويحلم بأن القفص سوف يتسع فيطير وهو مرتاح، وما درى أنه لن يتسع أبدًا؛ وإنما لا حل له إلا أن يخرج من ذلك القفص، ولن يخرج من قفص الدنيا ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة إلا الإيمان بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

 

نزول عقاب الله

يتساءل أحدنا -وهو سؤال مهم-: لماذا لم يعجل الله العقوبة لهذه الأمم وهو قادر سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وأسباب الانهيار موجودة فيهم والكفر والإلحاد -أيضًا- موجود؟

والجواب: يجب أن نعلم أولًا: هل قامت الحجة على هذه الأمم؟ ومن الذي دعاهم؟ فإن دعوا إلى الحق ورفضوه استحقوا العقوبة من عند الله أو بأيدي المؤمنين، لكننا نحن المسلمين ببعدنا عن الله عز وجل نسهم في بقاء هذه الأمم الكافرة قوية ومسيطرة؛ لأننا لم نقم حجة الله عليها حتى ينزل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عذابه عليها.

فالله تعالى جعل سننًا لكل شيء، فيعدل بعضها ببعض، ويولي بها بعض الظالمين بعضًا، لكن لو أننا أقمنا حجة الله عليهم لنصرنا الله عليهم، أو لأهلكهم بعذاب من عنده كما يشاء، ولكننا تبعًا لهم، فنحن نردد ما يقولون، ونؤمن بما يقولون، ونسعى إلى أن نكون مثلهم في التقدم والرخاء والمدنية والحضارة، إذًا كيف نرجو النصر والفلاح ونظرتنا هكذا؟! ونحن الذين قال الله تبارك وتعالى عنهم: "كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ" [آل عمران:110] لكننا نقول: نريد أن نلتحق بركبهم ويكفينا ذلك كما يردد البعض، والله تعالى يقول: "مَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ" [الحج:18] فنحن عندما نقول ذلك، وعندما تكون غايتنا أن نكون في الذيل؛ فلن يجعلنا الله قادةً أبدًا.

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الإيمان
اقرأ أيضا
عداء اليهود للمسلمين الجزء الثاني | مرابط
تفريغات

عداء اليهود للمسلمين الجزء الثاني


تمكن المسلمون من فتح الأندلس ثم خرجوا منها وليس ذلك بسبب قوة أعدائهم وإنما بتفرق كلمتهم وتجزئهم وانقسامهم فأزال الله سبحانه وتعالى دولتهم وخرجوا من تلك الديار بعد أن عمروها مئات السنين واليوم في وسط بلاد المسلمين تقوم دولة لليهود اغتصبت جزءا من ديار المسلمين في أول الأمر ثم زادت عليه فأخذت فلسطين كلها وأخذت أجزاء أخرى من بلاد المسلمين وهي تطمع غدا في احتلال الأردن وسوريا ومصر والعراق وتصل إلى منابع النفط وإلى المدينة المنورة وإلى خيبر حيث كان يقيم آباؤهم وأجدادهم في الماضي

بقلم: عمر الأشقر
764
بكاء النبي صلى الله عليه وسلم | مرابط
تفريغات

بكاء النبي صلى الله عليه وسلم


عيون حمراء تختلف عن العيون الحمراء التي تسهر على الذنوب والمحرمات فهناك عيون حمراء تتعاطى المخدرات عيون حمراء تسهر في المعاكسات عيون حمراء بكت لفراق عشيقها أو محبوبها أو فراق صديقها عيون حمراء لكنها لم تبك لله عز وجل فلن نتكلم عن هذا كله في هذه الليلة لكن سوف نتكلم هذه الليلة عن عيون حمراء بكت لكنها بكت لله عز وجل بكت لكن ليس لأجل الدنيا سوف نتكلم عن أغلى بكاء على وجه هذه الأرض وأغلى من دمعت عينه فهي أغلى الدموع وأغلى البكاء إنه بكاء النبي عليه الصلاة والسلام

بقلم: نبيل العوضي
635
من قصص المرأة الغربية | مرابط
تفريغات المرأة

من قصص المرأة الغربية


إن جولة واحدة في مجتمعات الانحلال تكفي لإدراك ذلة النساء للرجال فالمرأة هناك تشتغل حمالة حقائب في المطار وعاملة نظافة في الطريق ومنظفة حمام في الشركة وإن كانت جميلة اشتغلت في مرقص أو بار فهذا سكير يعربد بها وذاك فاجر يعبث بجسدها والثالث يتخذها سلعة يتكسب منها فإذا قضوا حاجتهم منها صفعوا وجهها أو ركلوها بأقدامهم وإذا كبرت ألقيت في دار العجزة التي هي أشبه بالسجون أو المقابر

بقلم: محمد العريفي
387
طريقة القراءة | مرابط
تفريغات ثقافة

طريقة القراءة


أنت إذا تعلمت كيف تقرأ كلام العلماء صرت على الطريق الذي يمكن أن تكون منهم يوما ما ولذلك مسألة القراءة وكيف نقرأ وكيف نحاور ما نقرأ وكيف نفهم ما نقرأ وكيف نتعامل مع ما نقرأ: مسألة في غاية الأهمية ولو لم تعلم جامعاتنا طلابنا إلا طريقة القراءة لكان ذلك كافيا

بقلم: د محمد أبو موسى
468
سلطة الغموض | مرابط
فكر مقالات

سلطة الغموض


هذا مقتطف من كتاب مآلات الخطاب المدني بعنوان: سلطة الغموض والكتاب من تأليف إبراهيم السكران ويتحدث عن أن كثيرا من الشباب المنبهر بأطروحات غلاة المدنية إذا دخلت معه في حوار حول أعماق قناعاته اكتشفت أنه مأخوذ بلغة الخطاب وغموضه المبهر أكثر من حقائقه وبرهنته وسلطة الغموض على شريحة من القراء هي في الحقيقة ظاهرة معرفية قديمة لا يمكن إنكارها

بقلم: إبراهيم السكران
994
معالجة الإسلام للجريمة ومعالجة المناهج الأخرى | مرابط
تفريغات

معالجة الإسلام للجريمة ومعالجة المناهج الأخرى


وعندما توجد الجريمة ينبغي أن تعالج وعلاجها في الإسلام مختلف فالإسلام يعالجها لا كما تعالجها أوروبا إذ أن علاجها في أوروبا جعلها تزداد وتنتشر لأنها تعالج علاجا خاطئا فالإنسان قد يجرم بجريمة واحدة فيأتي عالم الغرب بعلاج السجن فيلتقي مع مئات من المجرمين فيعلمونه الإجرام ويخرج أستاذا في الإجرام ويكثر المجرمون فيحتاج الناس إلى أن يهيئوا لهم السجون ويهيئوا لهم الحراس ويهيئوا لهم الذين يطبخون والذين يعنون بهم فنحتاج إلى جيوش يقومون على رعايتهم

بقلم: عمر الأشقر
811