سلطة الغموض

سلطة الغموض | مرابط

الكاتب: إبراهيم السكران

995 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

كثير من الشباب المنبهر بأطروحات غلاة المدنية إذا دخلت معه في حوار حول أعماق قناعاته اكتشفت أنه مأخوذ بلغة الخطاب وغموضه المبهر أكثر من حقائقه وبرهنته, وسلطة الغموض على شريحة من القراء هي في الحقيقة ظاهرة معرفية قديمة لا يمكن إنكارها.

 

سلطة الغموض

 

ولذلك تجد بعض الكتاب يميل إلى التحذلق والتقعر في الكتابة وعدم القصد إلى المعاني مباشرة, حيث يشعر أن طرح الفكرة في قالب مباشر يبدد وهجها, وأن وضع الفكرة في طرق ملتوية يبهر القارئ ويجعله يذعن للنتيجة.
وهذا الإذعان والخضوع للغموض ناشئٌ عن عدة أسباب.
منها أن بعض القراء يسلم لتلك النتائج لظنه أن عدم فهمه فرع عن عبقرية الخطاب وأنه فوق إمكانياته.
ومنها أن بعضهم يعجبه أن يتميز عن جمهور الناس بشئ ما, فلذلك تبتهج نفسه بالخطاب المعقد حيث يحقق له فرادة شخصية.

وقد أشار الإمام ابن تيمية إلى هذه الظاهرة في درء التعارض فقال :

(وكذلك الأدلة التي فيها دقة وغموض وخفاء: قد ينتفع بها من تعودت نفسه الفكرة في الأمور الدقيقة, ومن يكون تلقيه للعلم عن الطرق الخفية التي لا يفهمها أكثر الناس أحب إليه من تلقيه له من الطرق الواضحة التي يشركه فيها الجمهور, ومثل هذا موجود في المطاعم والمشارب والملابس والعادات لما في النفوس من حب الرياسة, فهذه الطرق الطويلة الغامضة التي تتضمن تقسيمات أو تلازمات أو إدراج جزئيات تحت كليات, قد ينتفع بها من هذا الوجه في حق طائفة من الناظرين والمناظرين, وإن كان غير هؤلاء من أهل الفطر السليمة والأذهان المستقيمة لا يحتاج اليها, بل إذا ذكرت عنده مجها سمعه ونفر عنها عقله, ورأى المطلوب أقرب وأيسر من أن يحتاج إلى هذا)

فبعض القراء يكون قد اعتاد التعقيد فيصبح يتفاعل معه أكثر من الصياغة المباشرة, وبعض القراء يحب التعقيد لما يمنحه من الزهو الداخلي

كما يقول الإمام ابن تيمية في الرد على المنطقيين :

(وبعض الناس : يكون الطريق كلما كان أدق وأخفى وأكثر مقدمات وأطول كان أنفع له, لأن نفسه اعتادت النظر الطويل في الأمور الدقيقة, فإذا كان الدليل قليل المقدمات, أو كانت جلية, لم تفرح نفسه به.., فإن من الناس من إذا عرف ما يعرفه جمهور الناس وعمومهم, أو ما يمكن غير الأذكياء معرفته, لم يكن عند نفسه قد امتاز عنهم بعلم, فيحب معرفة الأمور الخفية الدقيقة الكثيرة المقدمات)

والحقيقة أنه لا يذعن أمام سلطة الغموض والتعقيد إلا القارئ ضعيف الشخصية, أما القارئ الواثق فإنه يعتبر التعقيد والغموض عياً في الكاتب لا ضعفاً في القارئ, ومن المؤسف أن سلطة الغموض من أشد الأمور تأثيراً على بعض القراء, خصوصاً من يتحاشى التهمة بعدم الفهم, فيظهر المشاكلة حذراً من الانتقاص, ويظهر ذلك خصوصاً في المصطلحات المعربة, أو الاصطلاحات المنقولة بتعابير وعرة غير موحية بدلالاتها, مع ما ينضاف إلى ذلك من تهويل المتحدثين بها, وفي حالة مشابهة

يقول الإمام ابن تيمية في درء التعارض :

(ولكن هؤلاء عمدوا إلى ألفاظ مجملة مشتبهة تحتمل في لغات الأمم معاني متعددة, وصاروا يدخلون فيها من المعاني ما ليس هو المفهوم منها في لغات الأمم, ثم ركبوها وألفوها تأليفا طويلا بنوا بعضه على بعض, وعظموا قولهم وهولوه في نفوس من لم يفهمه, ولا ريب أن فيه دقة وغموضاً لما فيه من الألفاظ المشتركة والمعاني المشتبهة, فإذا دخل معهم الطالب وخاطبوه بما تنفر عنه فطرته, فأخذ يعترض عليهم, قالوا له: أنت لا تفهم هذا, وهذا لا يصلح لك, فيبقى ما في النفوس من الأنفة والحمية يحملها على أن تسلم تلك الأمور قبل تحقيقها عنده, وعلى ترك الاعتراض عليها خشية أن ينسبوه إلى نقص العلم والعقل)

ومما هو شديد الصلة بذلك أن كثيراً من غلاة المدنية إذا عبر لهم عن “المعنى المعين” باصطلاح شرعي أو تراثي استخفوا به واستعلوا عليه, وإذا عبر لهم عن ذات المعنى باصطلاح فكري حديث أو تعبير فرانكفوني معرب خضعوا للمعنى المتضمن به, لامتلاء قلوبهم بتعظيم المدنية الحديثة, وتبعية تفكيرهم لقوالب المعاني أكثر من المعاني ذاتها, وقد رصد الإمام ابن تيمية هذه الظاهرة وهي سلطة المصطلح ونفوذه الضخم على التفكير وكيف تسلبه القراءة الموضوعية الهادئة

كما يقول في منهاج السنة :

(وكثير ممن قد تعود عبارة معينة إن لم يخاطب بها لم يفهم ولم يظهر له صحة القول وفساده, وربما نسب المخاطب إلى أنه لا يفهم ما يقول, وأكثر الخائضين في الكلام والفلسفة من هذا الضرب, ترى أحدهم يذكر له المعاني الصحيحة بالنصوص الشرعية فلا يقبلونها لظنهم أن في عبارتهم من المعاني ما ليس في تلك, فإذا أخذ المعنى الذي دل عليه الشرع وصيغ بلغتهم وبين به بطلان قولهم المناقض للمعنى الشرعي خضعوا لذلك)

وبرغم يقيننا أن الخطاب الغامض المعقد قد يكون أحياناً حالة غير سوية, إلا أنه لا يمكن إنكار أن بعض القراء قد يستفيد منه في شحذ ذهنه وصقل إمكانياته التحليلية والجدلية وقدرات التفنيد ونحوها, وهذا أمر مشاهد, ولذلك

قال الإمام ابن تيمية في الرد على المنطقيين:

وبرغم يقيننا أن الخطاب الغامض المعقد قد يكون أحياناً حالة غير سوية, إلا أنه لا يمكن إنكار أن بعض القراء قد يستفيد منه في شحذ ذهنه وصقل إمكانياته التحليلية والجدلية وقدرات التفنيد ونحوها, وهذا أمر مشاهد, ولذلك

قال الإمام ابن تيمية في الرد على المنطقيين:

(فإن النظر في العلوم الدقيقة يفتق الذهن, ويدربه ويقويه على العلم, فيصير مثل كثرة الرمي بالنشاب وركوب الخيل, تعين على قوة الرمي والركوب وإن لم يكن ذلك وقت قتال, وهذا مقصد حسن, ولهذا كان كثير من علماء السنة يرغب في النظر في العلوم الصادقة الدقيقة: كالجبر, والمقابلة, وعويص الفرايض والوصايا والدور, لشحذ الذهن, فإنه علم صحيح في نفسه, ولهذا يسمى الرياضي, فإن لفظ الرياضة يستعمل في ثلاثة انواع: في رياضة الأبدان بالحركة والمشي كما يذكر ذلك الأطباء وغيرهم, وفي رياضة النفوس بالأخلاق الحسنة المعتدلة والآداب المحمودة, وفي رياضة الأذهان بمعرفة دقيق العلم والبحث عن الأمور الغامضة).

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#إبراهيم-السكران #سلطة-الغموض
اقرأ أيضا
معارضة الوحي بالعقل: ميراث الشيخ أبي مرة | مرابط
اقتباسات وقطوف

معارضة الوحي بالعقل: ميراث الشيخ أبي مرة


مقتطف من كتاب الصواعق المرسلة لابن قيم الجوزية يدور حول معارضة الوحي بالعقل ويقف بنا أمام القياس العقلي المركب في قول إبليس أنا خير منه والفاضل لا يسجد للمفضول والاحتجاج بأنه مخلوق من نار بينما آدم مخلوق من طين أي من خلق من نار خير ممن خلق من طين

بقلم: ابن القيم
855
العلم.. بين الإيجاز وكثرة البيان | مرابط
اقتباسات وقطوف

العلم.. بين الإيجاز وكثرة البيان


وانظر إلى أكابر الصحابة وعلمائهم كأبي بكر وعمر وعلي ومعاذ وابن مسعود وزيد بن ثابت كيف كانوا كلامهم أقل من كلام ابن عباس وهم أعلم منه وكذلك كلام التابعين أكثر من كلام الصحابة والصحابة أعلم منهم وكذلك تابعوا التابعين كلامهم أكثر من كلام التابعين والتابعون أعلم منهم. فليس العلم بكثرة الرواية ولا بكثرة المقال ولكنه نور يقذف في القلب يفهم به العبد الحق ويميز به بينه وبين الباطل ويعبر عن ذلك بعبارات وجيزة محصلة للمقاصد.

بقلم: ابن رجب الحنبلي
367
منزلة المحبة | مرابط
اقتباسات وقطوف

منزلة المحبة


فلو بطلت مسألة المحبة لبطلت جميع مقامات الإيمان والإحسان ولتعطلت منازل السير إلى اللهفإنها روح كل مقام ومنزلة وعمل فإذا خلا منها فهو ميت لا روح فيه ونسبتها إلى الأعمال كنسبة الإخلاص إليها بل هي حقيقة الإخلاص بل هي نفس الإسلام فإنه الاستسلام بالذل والحب والطاعة لله فمن لا محبة له لا إسلام له ألبتة بل هي حقيقة شهادة أن لا إله إلا الله فإن الإله هو الذي يألهه العباد ذلا وخوفا ورجاء وتعظيما وطاعة له بمعنى مألوه وهو الذي تألهه القلوب أي تحبه وتذل له

بقلم: ابن القيم
1210
الاستغناء عن السنة بالقرآن الكريم | مرابط
أباطيل وشبهات تعزيز اليقين مقالات

الاستغناء عن السنة بالقرآن الكريم


يزعم منكرو السنة أنه لا حاجة للمسلم -كي يقيم دينه على الوجه الذي يريده الله سبحانه- إلى أي مصدر ديني سوى نص القرآن الكريم لأنه تبيان لكل شيء وفي هذا المقال رد تفصيلي من الكاتب أحمد يوسف السيد على هذه الشبهة أو الزعم ويوضح لنا كيف أن المسلم لا غنى له عن السنة النبوية بأي حال من الأحوال

بقلم: أحمد يوسف السيد
2121
المذاهب والفرق المعاصرة: العلمانية ج3 | مرابط
تفريغات العالمانية

المذاهب والفرق المعاصرة: العلمانية ج3


ومن الأهداف التي حققها الاستعمار القضاء على التعليم الإسلامي وإيجاد معاهد بديلة عنه تدرس الفكر الأوروبي والفكر العلماني الجديد الذي صار في أوروبا وقصة هذا الموضوع أيضا طويلة لقد وضعوا خططا لذلك مثل: خطة دلوب مثلا في مصر وغيرها وأتوا بجامعات مثل: الجامعة الأمريكية في لبنان وغيرها وأرادوا تربية أكبر عدد من أجيال المسلمين على هذه المبادئ وعلى هذه الأفكار الباطلة

بقلم: عبد الرحيم السلمي
723
ماذا تركت لأجلي؟ | مرابط
مقالات

ماذا تركت لأجلي؟


ويقول الشاب التائب: لأجلك ربي تركت رفقاء الطيش وطريق الهوى وآثرت طريق العفاف والهدى وصبرت على مقاومة كل وسائل الجذب والإغراء حتى صرت بين الشباب غريبا في مظهري ومخبري. وتقول أمة الله: لأجلك ربي تركت التبرج والزينة التي أحب وخالفت بيئتي المتحررة التي فيها نشأت ونالني فيك السخرية والأذى.

بقلم: د. جمال الباشا
422