سلطة الغموض

سلطة الغموض | مرابط

الكاتب: إبراهيم السكران

836 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

كثير من الشباب المنبهر بأطروحات غلاة المدنية إذا دخلت معه في حوار حول أعماق قناعاته اكتشفت أنه مأخوذ بلغة الخطاب وغموضه المبهر أكثر من حقائقه وبرهنته, وسلطة الغموض على شريحة من القراء هي في الحقيقة ظاهرة معرفية قديمة لا يمكن إنكارها.

 

سلطة الغموض

 

ولذلك تجد بعض الكتاب يميل إلى التحذلق والتقعر في الكتابة وعدم القصد إلى المعاني مباشرة, حيث يشعر أن طرح الفكرة في قالب مباشر يبدد وهجها, وأن وضع الفكرة في طرق ملتوية يبهر القارئ ويجعله يذعن للنتيجة.
وهذا الإذعان والخضوع للغموض ناشئٌ عن عدة أسباب.
منها أن بعض القراء يسلم لتلك النتائج لظنه أن عدم فهمه فرع عن عبقرية الخطاب وأنه فوق إمكانياته.
ومنها أن بعضهم يعجبه أن يتميز عن جمهور الناس بشئ ما, فلذلك تبتهج نفسه بالخطاب المعقد حيث يحقق له فرادة شخصية.

وقد أشار الإمام ابن تيمية إلى هذه الظاهرة في درء التعارض فقال :

(وكذلك الأدلة التي فيها دقة وغموض وخفاء: قد ينتفع بها من تعودت نفسه الفكرة في الأمور الدقيقة, ومن يكون تلقيه للعلم عن الطرق الخفية التي لا يفهمها أكثر الناس أحب إليه من تلقيه له من الطرق الواضحة التي يشركه فيها الجمهور, ومثل هذا موجود في المطاعم والمشارب والملابس والعادات لما في النفوس من حب الرياسة, فهذه الطرق الطويلة الغامضة التي تتضمن تقسيمات أو تلازمات أو إدراج جزئيات تحت كليات, قد ينتفع بها من هذا الوجه في حق طائفة من الناظرين والمناظرين, وإن كان غير هؤلاء من أهل الفطر السليمة والأذهان المستقيمة لا يحتاج اليها, بل إذا ذكرت عنده مجها سمعه ونفر عنها عقله, ورأى المطلوب أقرب وأيسر من أن يحتاج إلى هذا)

فبعض القراء يكون قد اعتاد التعقيد فيصبح يتفاعل معه أكثر من الصياغة المباشرة, وبعض القراء يحب التعقيد لما يمنحه من الزهو الداخلي

كما يقول الإمام ابن تيمية في الرد على المنطقيين :

(وبعض الناس : يكون الطريق كلما كان أدق وأخفى وأكثر مقدمات وأطول كان أنفع له, لأن نفسه اعتادت النظر الطويل في الأمور الدقيقة, فإذا كان الدليل قليل المقدمات, أو كانت جلية, لم تفرح نفسه به.., فإن من الناس من إذا عرف ما يعرفه جمهور الناس وعمومهم, أو ما يمكن غير الأذكياء معرفته, لم يكن عند نفسه قد امتاز عنهم بعلم, فيحب معرفة الأمور الخفية الدقيقة الكثيرة المقدمات)

والحقيقة أنه لا يذعن أمام سلطة الغموض والتعقيد إلا القارئ ضعيف الشخصية, أما القارئ الواثق فإنه يعتبر التعقيد والغموض عياً في الكاتب لا ضعفاً في القارئ, ومن المؤسف أن سلطة الغموض من أشد الأمور تأثيراً على بعض القراء, خصوصاً من يتحاشى التهمة بعدم الفهم, فيظهر المشاكلة حذراً من الانتقاص, ويظهر ذلك خصوصاً في المصطلحات المعربة, أو الاصطلاحات المنقولة بتعابير وعرة غير موحية بدلالاتها, مع ما ينضاف إلى ذلك من تهويل المتحدثين بها, وفي حالة مشابهة

يقول الإمام ابن تيمية في درء التعارض :

(ولكن هؤلاء عمدوا إلى ألفاظ مجملة مشتبهة تحتمل في لغات الأمم معاني متعددة, وصاروا يدخلون فيها من المعاني ما ليس هو المفهوم منها في لغات الأمم, ثم ركبوها وألفوها تأليفا طويلا بنوا بعضه على بعض, وعظموا قولهم وهولوه في نفوس من لم يفهمه, ولا ريب أن فيه دقة وغموضاً لما فيه من الألفاظ المشتركة والمعاني المشتبهة, فإذا دخل معهم الطالب وخاطبوه بما تنفر عنه فطرته, فأخذ يعترض عليهم, قالوا له: أنت لا تفهم هذا, وهذا لا يصلح لك, فيبقى ما في النفوس من الأنفة والحمية يحملها على أن تسلم تلك الأمور قبل تحقيقها عنده, وعلى ترك الاعتراض عليها خشية أن ينسبوه إلى نقص العلم والعقل)

ومما هو شديد الصلة بذلك أن كثيراً من غلاة المدنية إذا عبر لهم عن “المعنى المعين” باصطلاح شرعي أو تراثي استخفوا به واستعلوا عليه, وإذا عبر لهم عن ذات المعنى باصطلاح فكري حديث أو تعبير فرانكفوني معرب خضعوا للمعنى المتضمن به, لامتلاء قلوبهم بتعظيم المدنية الحديثة, وتبعية تفكيرهم لقوالب المعاني أكثر من المعاني ذاتها, وقد رصد الإمام ابن تيمية هذه الظاهرة وهي سلطة المصطلح ونفوذه الضخم على التفكير وكيف تسلبه القراءة الموضوعية الهادئة

كما يقول في منهاج السنة :

(وكثير ممن قد تعود عبارة معينة إن لم يخاطب بها لم يفهم ولم يظهر له صحة القول وفساده, وربما نسب المخاطب إلى أنه لا يفهم ما يقول, وأكثر الخائضين في الكلام والفلسفة من هذا الضرب, ترى أحدهم يذكر له المعاني الصحيحة بالنصوص الشرعية فلا يقبلونها لظنهم أن في عبارتهم من المعاني ما ليس في تلك, فإذا أخذ المعنى الذي دل عليه الشرع وصيغ بلغتهم وبين به بطلان قولهم المناقض للمعنى الشرعي خضعوا لذلك)

وبرغم يقيننا أن الخطاب الغامض المعقد قد يكون أحياناً حالة غير سوية, إلا أنه لا يمكن إنكار أن بعض القراء قد يستفيد منه في شحذ ذهنه وصقل إمكانياته التحليلية والجدلية وقدرات التفنيد ونحوها, وهذا أمر مشاهد, ولذلك

قال الإمام ابن تيمية في الرد على المنطقيين:

وبرغم يقيننا أن الخطاب الغامض المعقد قد يكون أحياناً حالة غير سوية, إلا أنه لا يمكن إنكار أن بعض القراء قد يستفيد منه في شحذ ذهنه وصقل إمكانياته التحليلية والجدلية وقدرات التفنيد ونحوها, وهذا أمر مشاهد, ولذلك

قال الإمام ابن تيمية في الرد على المنطقيين:

(فإن النظر في العلوم الدقيقة يفتق الذهن, ويدربه ويقويه على العلم, فيصير مثل كثرة الرمي بالنشاب وركوب الخيل, تعين على قوة الرمي والركوب وإن لم يكن ذلك وقت قتال, وهذا مقصد حسن, ولهذا كان كثير من علماء السنة يرغب في النظر في العلوم الصادقة الدقيقة: كالجبر, والمقابلة, وعويص الفرايض والوصايا والدور, لشحذ الذهن, فإنه علم صحيح في نفسه, ولهذا يسمى الرياضي, فإن لفظ الرياضة يستعمل في ثلاثة انواع: في رياضة الأبدان بالحركة والمشي كما يذكر ذلك الأطباء وغيرهم, وفي رياضة النفوس بالأخلاق الحسنة المعتدلة والآداب المحمودة, وفي رياضة الأذهان بمعرفة دقيق العلم والبحث عن الأمور الغامضة).

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#إبراهيم-السكران #سلطة-الغموض
اقرأ أيضا
مختصر قصة الأندلس الجزء الخامس | مرابط
تاريخ أبحاث

مختصر قصة الأندلس الجزء الخامس


سلسلة مقالات مختصرة تطوف بنا حول الأندلس لنعرف قصتها من البداية حتى النهاية من الفتح إلى السقوط سنعرف كل ما دار من أحداث بين لحظة الفتح والصعود ولحظة الانهيار والأفول والهدف من ذلك أن ندرك ونعي تاريخنا بشكل جيد وأن نتعلم منه حتى نبني للمستقبل

بقلم: موقع قصة الإسلام
1369
صورة الفتح الإسلامي في العلم والثقافة | مرابط
اقتباسات وقطوف

صورة الفتح الإسلامي في العلم والثقافة


كان الفتح الإسلامي أكبر حادث علمي لأنه حمل إلى البلاد التي فتحها علم السماء والأرض فحرر عقولها بالتوحيد وأعتقها من عبودية الأحجار والأشجار والنيران والأخشاب والقسس والأشراف ثم وضع في أيديها القرآن الذي يأمر بالتفكر في خلق السموات والأرض

بقلم: علي الطنطاوي
605
لماذا قد يوجد الفراغ في حياة المرأة؟ | مرابط
تفريغات المرأة

لماذا قد يوجد الفراغ في حياة المرأة؟


ووقت الفراغ الذي يحصل في حياة المرأة -نحن الآن نتكلم عن المرأة باعتبار أن المشكلة تخصها فكثير من النساء يشعرن بوقت فراغ- نتج عن أسباب مثل إشكالية التسويف والنوم المبالغ فيه والتخلي عن بعض المسؤوليات وغير ذلك من الأسباب التي سيتم تفصيلها.

بقلم: سعيد بن مسفر
629
عين جالوت والقضاء على القوى العظمى الجزء الأول | مرابط
تاريخ مقالات

عين جالوت والقضاء على القوى العظمى الجزء الأول


معركة عين جالوت كانت فاصلة جدا ليس في تاريخ الإسلام فقط بل في تاريخ العالم الإنساني بأكمله فشر التتار لم يقتصر على العالم الإسلامي وإنما وصل اجتياحهم إلى قلب أوروبا وأبادوا بلادا ومدنا كثيرة وأهلكوا الحرث والنسل ودمروا كل شيء وقف في طريقهم وكانت هذه الموقعة فاصلة لأن لها ما بعدها فإما أن يستكمل التتار احتلالهم للعالم بأسره عبر اجتياح مصر ومنها إلى إفريقيا بعد أن وصلوا إلى مناطق متقدمة في أوروبا وإما أن يتصدى لهم المسلمون وينتهي شرهم وهذا مقال هام يحدثنا عن المعركة وكل تفاصيلها بقلم راغب الس...

بقلم: راغب السرجاني
2085
الغضب مرض من الأمراض وداء من الأدواء | مرابط
اقتباسات وقطوف

الغضب مرض من الأمراض وداء من الأدواء


من الغضب ما يمكن صاحبه أن يملك نفسه عنده وهو الغضب في مبادئه فإذا استحكم وتمكن منه لم يملك نفسه عند ذلك وكذلك الحزن الحامل على الجزع يمكن صاحبه أن يملك نفسه في أوله فإذا استحكم وقهر لم يملك نفسه وكذلك الغضب يمكن صاحبه أن يملك نفسه في أوله فإذا تمكن واستولى سلطانه على القلب لم يملك صاحبه قلبه فهو اختياري في أوله اضطراري في نهايته

بقلم: ابن القيم
1301
تعلمت من أوقات الفراغ | مرابط
فكر مقالات

تعلمت من أوقات الفراغ


أوقات العمل تملكنا ولكننا نحن الذين نملك أوقات الفراغ ونتصرف فيها كما نريد فهي من أجل هذا ميزان قدرتنا على التصرف وميزان معرفتنا بقيمة الوقت كله وليست قيمة الوقت إلا قيمة الحياة فالذي يعرف وقته يعرف قيمة حياته ويستحق أن يحيا وأن يملك هذه الثروة التي لا تساويها ثروة الذهب لأن مالك وقته يملك كل شيء ويصبح في حياته سيد الأحرار

بقلم: عباس محمود العقاد
4900