عقد الإمام الآجري في كتاب الشريعة بابا في ذم الجدال والخصومات في الدين، ومع أن المقصد الأساس من هذا الباب هو بيان الموقف من أهل الأهواء والبدع وضرورة مجانبتهم إلا أنه ألحق بذلك ما قد يكون من الجدل والمناظرة في مسائل الأحكام، مما يسوغ فيه الخلاف والترجيح عند أهل العلم، وهنا أكد على التمييز بين ما تكون المناظرة فيه لأجل نصرة الحق من الطرفين، وأن هذا مما لا بأس به، بخلاف ما قد يكون من انتصار الشخص لقوله أو لمذهبه، فإن هذا مما لا ثمرة له، ولا تحمد عواقبه، وقل من يسلم منه.
وفي تقرير هذا المعنى يقول رحمه الله :(فَإنْ قالَ قائِلٌ: هَذا الَّذِي ذَكَرْتَهُ وبَيَّنْتَهُ قَدْ عَرِفْناهُ، فَإذا لَمْ تَكُنْ مُناظَرَتُنا فِي شَيْءٍ مِنَ الأهْواءِ الَّتِي يُنْكِرُها أهْلُ الحَقِّ، ونُهِينا عَنِ الجِدالِ والمِراءِ والخُصُومَةِ فِيها، فَإنْ كانَتْ مَسْألَةٌ مِنَ الفِقْهِ فِي الأحْكامِ، مِثْلُ الطَّهارَةِ والصَّلاةِ والزَّكاةِ والصِّيامِ والحَجِّ والنِّكاحِ والطَّلاقِ، وما أشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الأحْكامِ، هَلْ لَنا مُباحٌ أنْ نُناظِرَ فِيهِ ونُجادِلَ، أمْ هُوَ مَحْظُورٌ عَلَيْنا، عَرِّفْنا ما يَلْزَمُ فِيهِ كَيْفَ السَّلامَةُ؟
قِيلَ لَهُ: هَذا الَّذِي ذَكَرْتَهُ ما أقَلَّ مَن يَسْلَمُ مِنَ المُناظَرَةِ فِيهِ، حَتّى لا يَلْحَقَهُ فِيهِ فِتْنَةٌ ولا مَأْثَمٌ، ولا يَظْفَرُ فِيهِ الشَّيْطانُ، فَإنْ قالَ كَيْفَ؟ قِيلَ لَهُ: هَذا، قَدْ كَثُرَ فِي النّاسِ جِدًّا فِي أهْلِ العِلْمِ والفِقْهِ فِي كُلِّ بَلَدٍ يُناظِرُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ يُرِيدُ مُغالَبَتَهُ، ويَعْلُو صَوْتُهُ، والِاسْتِظْهارُ عَلَيْهِ بِالِاحْتِجاجِ، فَيَحْمَرُّ لِذَلِكَ وجْهُهُ، وتَنْتَفِخُ أوْداجُهُ، ويَعْلُو صَوْتُهُ، وكُلُّ واحِدٍ مِنهُما يُحِبُّ أنْ يُخْطِئَ صاحِبُهُ، وهَذا المُرادُ مِن كُلِّ واحِدٍ مِنهُما خَطَأٌ عَظِيمٌ، لا يُحْمَدُ عَواقِبُهُ ولا يَحْمَدُهُ العُلَماءُ مِنَ العُقَلاءِ؛ لِأنَّ مُرادَكَ أنْ يُخْطِئَ مُناظِرُكَ خَطَأٌ مِنكَ، ومَعْصِيَةٌ عَظِيمَةٌ، ومُرادُهُ أنْ تُخْطِئَ خَطَأٌ مِنهُ ومَعْصِيَةٌ، فَمَتى يَسَلَمُ الجَمِيعُ؟
فَإنْ قالَ قائِلٌ: فَإنَّما نُناظِرُ لِتَخْرُجَ لَنا الفائِدَةُ؟ قِيلَ لَهُ: هَذا كَلامٌ ظاهَرٌ، وفِي الباطِنِ غَيْرُهُ، وقِيلَ لَهُ: إذا أرَدْتَ وجْهَ السَّلامَةِ فِي المُناظَرَةِ لِطَلَبِ الفائِدَةِ، كَما ذَكَرْتَ، فَإذا كُنْتَ أنْتَ حِجازِيًّا، والَّذِي يُناظِرُكَ عِراقِيًّا، وبَيْنَكُما مَسْألَةٌ، تَقُولُ أنْتَ: حَلالٌ، ويَقُولُ هُوَ: بَلْ حَرامٌ فَإنْ كُنْتُما تُرِيدانِ السَّلامَةَ، وطَلَبَ الفائِدَةِ، فَقُلْ لَهُ: رَحِمَكَ اللَّهُ هَذِهِ المَسْألَةُ قَدِ اخْتَلَفَ فِيها مَن تَقَدَّمَ مِنَ الشِّيُوخِ، فَتَعالَ حَتّى نَتَناظَرَ فِيها مِنّاصِحَّةً لا مُغالَبَةً فَإنْ يَكُنِ الحَقُّ فِيها مَعَكَ، اتَّبَعْتُكَ، وتَرَكْتُ قُولِي، وإنْ يَكُنِ الحَقُّ مَعِي، اتَّبَعْتَنِي وتَرَكْتَ قَوْلَكَ، لا أُرِيدُ أنْ تُخْطِئَ ولا أُغالِبُكَ، ولا تُرِيدُ أنْ أُخْطِئَ، ولا تُغالِبُنِي فَإنْ جَرى الأمْرُ عَلى هَذا فَهُوَ حَسَنٌ جَمِيلٌ، وما أعَزَّ هَذا فِي النّاسِ، فَإذا قالَ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما: لا نُطِيقُ هَذا، وصَدَقا عَنْ أنْفُسِهِما قِيلَ: لِكُلِّ واحِدٍ مِنهُما، قَدْ عَرَفْتَ قَوْلَكَ وقَوْلَ صاحِبِكَ وأصْحابِكَ واحْتِجاجِهِمْ، وأنْتَ فَلا تَرْجِعْ عَنْ قَوْلِكَ، وتَرى أنَّ خَصْمَكَ عَلى الخَطَأِ وقالَ خَصْمُكَ كَذَلِكَ، فَما بِكُما إلى المُجادَلَةِ والمِراءِ والخُصُومَةِ حاجَةٌ إذا كانَ كُلُّ واحِدٍ مِنكُما لَيْسَ يُرِيدُ الرُّجُوعَ عَنْ مَذْهَبِهِ، وإنَّما مُرادُ كُلِّ واحِدٍ مِنكُما أنْ يُخْطِئَ صاحِبُهُ، فَأنْتُما آثِمانِ بِهَذا المُرادِ، أعاذَ اللَّهُ العُلَماءَ العُقَلاءَ عَنْ مِثْلِ هَذا المُرادِ، فَإذا لَمْ تُجْرَ المُناظَرَةُ عَلى المُناصَحَةِ، فالسُّكُوتُ أسْلَمُ، قَدْ عَرَفْتَ ما عِنْدَكَ وما عِنْدَهُ، وعَرَفَ ما عِنْدَهُ وما عِنْدَكَ، والسَّلامُ).
وما ذكره الإمام الآجري من التفريق بين ما يكون من المناظرة في المسائل العلمية لأجل تبين الحق وبين ما يكون من الانتصار للنفس فهو في غاية الأهمية، والموفق هو من صان نفسه من الدخول في مناكفات لا ثمرة لها، وحفظ وقته من أن يضيع مع ليس قصده قبول الحق إذا ظهر له، واتقى أن تحمله الخصومات في الدين على ما لا تحمد عقباه من الانتصار للنفس، مما قد يوقعه من حيث لا يشعر إلى العدول عن الحق الذي كان عليه، والميل شيئا فشيئا إلى أن يدعو إلى الباطل، وهذا معنى قول عمر بن عبدالعزيز رحمه الله : " من جعل دينه عرضة للخصومات أكثر التنقل ".
وأما التوفيق لمن يشارك في بحث المسائل العلمية بتجرد عن المغالبة فهو من أعظم النعم على طالب العلم، لكن أين تجده ؟!