ذم الجدال والخصومات في الدين

ذم الجدال والخصومات في الدين | مرابط

الكاتب: عبد الله القرني

273 مشاهدة

تم النشر منذ سنة

عقد الإمام الآجري في كتاب الشريعة بابا في ذم الجدال والخصومات في الدين، ومع أن المقصد الأساس من هذا الباب هو بيان الموقف من أهل الأهواء والبدع وضرورة مجانبتهم إلا أنه ألحق بذلك ما قد يكون من الجدل والمناظرة في مسائل الأحكام، مما يسوغ فيه الخلاف والترجيح عند أهل العلم، وهنا أكد على التمييز بين ما تكون المناظرة فيه لأجل نصرة الحق من الطرفين، وأن هذا مما لا بأس به، بخلاف ما قد يكون من انتصار الشخص لقوله أو لمذهبه، فإن هذا مما لا ثمرة له، ولا تحمد عواقبه، وقل من يسلم منه.

وفي تقرير هذا المعنى يقول رحمه الله :(فَإنْ قالَ قائِلٌ: هَذا الَّذِي ذَكَرْتَهُ وبَيَّنْتَهُ قَدْ عَرِفْناهُ، فَإذا لَمْ تَكُنْ مُناظَرَتُنا فِي شَيْءٍ مِنَ الأهْواءِ الَّتِي يُنْكِرُها أهْلُ الحَقِّ، ونُهِينا عَنِ الجِدالِ والمِراءِ والخُصُومَةِ فِيها، فَإنْ كانَتْ مَسْألَةٌ مِنَ الفِقْهِ فِي الأحْكامِ، مِثْلُ الطَّهارَةِ والصَّلاةِ والزَّكاةِ والصِّيامِ والحَجِّ والنِّكاحِ والطَّلاقِ، وما أشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الأحْكامِ، هَلْ لَنا مُباحٌ أنْ نُناظِرَ فِيهِ ونُجادِلَ، أمْ هُوَ مَحْظُورٌ عَلَيْنا، عَرِّفْنا ما يَلْزَمُ فِيهِ كَيْفَ السَّلامَةُ؟

قِيلَ لَهُ: هَذا الَّذِي ذَكَرْتَهُ ما أقَلَّ مَن يَسْلَمُ مِنَ المُناظَرَةِ فِيهِ، حَتّى لا يَلْحَقَهُ فِيهِ فِتْنَةٌ ولا مَأْثَمٌ، ولا يَظْفَرُ فِيهِ الشَّيْطانُ، فَإنْ قالَ كَيْفَ؟ قِيلَ لَهُ: هَذا، قَدْ كَثُرَ فِي النّاسِ جِدًّا فِي أهْلِ العِلْمِ والفِقْهِ فِي كُلِّ بَلَدٍ يُناظِرُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ يُرِيدُ مُغالَبَتَهُ، ويَعْلُو صَوْتُهُ، والِاسْتِظْهارُ عَلَيْهِ بِالِاحْتِجاجِ، فَيَحْمَرُّ لِذَلِكَ وجْهُهُ، وتَنْتَفِخُ أوْداجُهُ، ويَعْلُو صَوْتُهُ، وكُلُّ واحِدٍ مِنهُما يُحِبُّ أنْ يُخْطِئَ صاحِبُهُ، وهَذا المُرادُ مِن كُلِّ واحِدٍ مِنهُما خَطَأٌ عَظِيمٌ، لا يُحْمَدُ عَواقِبُهُ ولا يَحْمَدُهُ العُلَماءُ مِنَ العُقَلاءِ؛ لِأنَّ مُرادَكَ أنْ يُخْطِئَ مُناظِرُكَ خَطَأٌ مِنكَ، ومَعْصِيَةٌ عَظِيمَةٌ، ومُرادُهُ أنْ تُخْطِئَ خَطَأٌ مِنهُ ومَعْصِيَةٌ، فَمَتى يَسَلَمُ الجَمِيعُ؟

فَإنْ قالَ قائِلٌ: فَإنَّما نُناظِرُ لِتَخْرُجَ لَنا الفائِدَةُ؟ قِيلَ لَهُ: هَذا كَلامٌ ظاهَرٌ، وفِي الباطِنِ غَيْرُهُ، وقِيلَ لَهُ: إذا أرَدْتَ وجْهَ السَّلامَةِ فِي المُناظَرَةِ لِطَلَبِ الفائِدَةِ، كَما ذَكَرْتَ، فَإذا كُنْتَ أنْتَ حِجازِيًّا، والَّذِي يُناظِرُكَ عِراقِيًّا، وبَيْنَكُما مَسْألَةٌ، تَقُولُ أنْتَ: حَلالٌ، ويَقُولُ هُوَ: بَلْ حَرامٌ فَإنْ كُنْتُما تُرِيدانِ السَّلامَةَ، وطَلَبَ الفائِدَةِ، فَقُلْ لَهُ: رَحِمَكَ اللَّهُ هَذِهِ المَسْألَةُ قَدِ اخْتَلَفَ فِيها مَن تَقَدَّمَ مِنَ الشِّيُوخِ، فَتَعالَ حَتّى نَتَناظَرَ فِيها مِنّاصِحَّةً لا مُغالَبَةً فَإنْ يَكُنِ الحَقُّ فِيها مَعَكَ، اتَّبَعْتُكَ، وتَرَكْتُ قُولِي، وإنْ يَكُنِ الحَقُّ مَعِي، اتَّبَعْتَنِي وتَرَكْتَ قَوْلَكَ، لا أُرِيدُ أنْ تُخْطِئَ ولا أُغالِبُكَ، ولا تُرِيدُ أنْ أُخْطِئَ، ولا تُغالِبُنِي فَإنْ جَرى الأمْرُ عَلى هَذا فَهُوَ حَسَنٌ جَمِيلٌ، وما أعَزَّ هَذا فِي النّاسِ، فَإذا قالَ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما: لا نُطِيقُ هَذا، وصَدَقا عَنْ أنْفُسِهِما قِيلَ: لِكُلِّ واحِدٍ مِنهُما، قَدْ عَرَفْتَ قَوْلَكَ وقَوْلَ صاحِبِكَ وأصْحابِكَ واحْتِجاجِهِمْ، وأنْتَ فَلا تَرْجِعْ عَنْ قَوْلِكَ، وتَرى أنَّ خَصْمَكَ عَلى الخَطَأِ وقالَ خَصْمُكَ كَذَلِكَ، فَما بِكُما إلى المُجادَلَةِ والمِراءِ والخُصُومَةِ حاجَةٌ إذا كانَ كُلُّ واحِدٍ مِنكُما لَيْسَ يُرِيدُ الرُّجُوعَ عَنْ مَذْهَبِهِ، وإنَّما مُرادُ كُلِّ واحِدٍ مِنكُما أنْ يُخْطِئَ صاحِبُهُ، فَأنْتُما آثِمانِ بِهَذا المُرادِ، أعاذَ اللَّهُ العُلَماءَ العُقَلاءَ عَنْ مِثْلِ هَذا المُرادِ، فَإذا لَمْ تُجْرَ المُناظَرَةُ عَلى المُناصَحَةِ، فالسُّكُوتُ أسْلَمُ، قَدْ عَرَفْتَ ما عِنْدَكَ وما عِنْدَهُ، وعَرَفَ ما عِنْدَهُ وما عِنْدَكَ، والسَّلامُ).

وما ذكره الإمام الآجري من التفريق بين ما يكون من المناظرة في المسائل العلمية لأجل تبين الحق وبين ما يكون من الانتصار للنفس فهو في غاية الأهمية، والموفق هو من صان نفسه من الدخول في مناكفات لا ثمرة لها، وحفظ وقته من أن يضيع مع ليس قصده قبول الحق إذا ظهر له، واتقى أن تحمله الخصومات في الدين على ما لا تحمد عقباه من الانتصار للنفس، مما قد يوقعه من حيث لا يشعر إلى العدول عن الحق الذي كان عليه، والميل شيئا فشيئا إلى أن يدعو إلى الباطل، وهذا معنى قول عمر بن عبدالعزيز رحمه الله : " من جعل دينه عرضة للخصومات أكثر التنقل ".

وأما التوفيق لمن يشارك في بحث المسائل العلمية بتجرد عن المغالبة فهو من أعظم النعم على طالب العلم، لكن أين تجده ؟!

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الجدال
اقرأ أيضا
هل التدين يعني الحرمان من اللذات | مرابط
أباطيل وشبهات مقالات

هل التدين يعني الحرمان من اللذات


إذا ظننا أن الاستقامة التدين تعني جفاف الحياة والحرمان من اللذات فنحن لم نفهم ديننا إنها إحلال لذات عظيمة علوية محل لذات دونية كنت تلتذ برؤية فتاة متبرجة واليوم تلتذ روحك عندما تكون دعوتك سببا في أن تراها متسترة مطيعة لربها جل وعلاكنت تلتذين بجلب أنظار الشباب إليك واليوم تلتذين بصرف أنظارهم إلى قضايا أمتهم وسبيل مجدها

بقلم: إياد قنيبي
789
شبهة: تغرب الشمس في عين حمئة | مرابط
أباطيل وشبهات

شبهة: تغرب الشمس في عين حمئة


يقول المشككون: تغرب الشمس فى عين حمئة حسب القرآن وهذا مخالف للعلم الثابت فكيف يقال: إن القرآن لا يتناقض مع الحقائق العلمية الثابتة وبالطبع هذه الشبهة تنطوي على الكثير من الأخطاء والمغالطات وهذا ما يناقشه المقال الذي بين يديكم

بقلم: محمد عمارة
821
صلاة الفجر بين الصادقين والمنافقين | مرابط
تفريغات

صلاة الفجر بين الصادقين والمنافقين


سنتكلم عن اختبار من الاختبارات الصعبة جدا فليس أي شخص ممكن ينجح فيه لدرجة أن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل هذا الاختبار مقياسا واضحا بين المؤمن والمنافق فهو اختبار خطير والذي سيسقط في هذا الاختبار سيكون منافقا بنص كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الاختبار هذا يا إخواني ويا أخواتي هو اختبار صلاة الفجر صلاة الفجر في جماعة للرجال وصلاة الفجر في أول وقتها للنساء

بقلم: د راغب السرجاني
753
دلالة القرآن على أن السنة وحي الجزء الثاني | مرابط
تعزيز اليقين مقالات

دلالة القرآن على أن السنة وحي الجزء الثاني


نعلم أن سهام منكري السنة تتوجه في الغالب إلى السنة النبوية ذاتها سواء في متنها أو سندها أو حتى حجيتها من الأساس فهم لا يؤمنون بأنها وحي من عند الله وفي المقابل يدعون الإيمان بالقرآن وما جاء فيه ومن هنا ندرك أهمية الوقوف على حجية السنة النبوية من نصوص القرآن الكريم وفي هذا المقال يقدم لنا الكاتب أحمد يوسف السيد أدلة قرآنية تثبت أن السنة النبوية هي وحي من عند الله

بقلم: أحمد يوسف السيد
2526
معارضة الوحي بالعقل: ميراث الشيخ أبي مرة | مرابط
اقتباسات وقطوف

معارضة الوحي بالعقل: ميراث الشيخ أبي مرة


مقتطف من كتاب الصواعق المرسلة لابن قيم الجوزية يدور حول معارضة الوحي بالعقل ويقف بنا أمام القياس العقلي المركب في قول إبليس أنا خير منه والفاضل لا يسجد للمفضول والاحتجاج بأنه مخلوق من نار بينما آدم مخلوق من طين أي من خلق من نار خير ممن خلق من طين

بقلم: ابن القيم
790
الضابط في الأمور المحدثة | مرابط
مقالات

الضابط في الأمور المحدثة


إن الناس لا يحدثون شيئا إلا لأنهم يرونه مصلحة إذ لو اعتقدوه مفسدة لم يحدثوه فإنه لا يدعو إليه عقل ولا دين فما رآه الناس مصلحة نظر في السبب المحوج إليه: فإن كان السبب المحوج إليه أمرا حدث بعد النبي صلى الله عليه وسلم من غير تفريط منا فهنا قد يجوز إحداث ما تدعو الحاجة إليه وكذلك إن كان المقتضي لفعله قائما على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن تركه النبي صلى الله عليه وسلم لمعارض زال بموته.

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
270