ذم الجدال والخصومات في الدين

ذم الجدال والخصومات في الدين | مرابط

الكاتب: عبد الله القرني

336 مشاهدة

تم النشر منذ سنة

عقد الإمام الآجري في كتاب الشريعة بابا في ذم الجدال والخصومات في الدين، ومع أن المقصد الأساس من هذا الباب هو بيان الموقف من أهل الأهواء والبدع وضرورة مجانبتهم إلا أنه ألحق بذلك ما قد يكون من الجدل والمناظرة في مسائل الأحكام، مما يسوغ فيه الخلاف والترجيح عند أهل العلم، وهنا أكد على التمييز بين ما تكون المناظرة فيه لأجل نصرة الحق من الطرفين، وأن هذا مما لا بأس به، بخلاف ما قد يكون من انتصار الشخص لقوله أو لمذهبه، فإن هذا مما لا ثمرة له، ولا تحمد عواقبه، وقل من يسلم منه.

وفي تقرير هذا المعنى يقول رحمه الله :(فَإنْ قالَ قائِلٌ: هَذا الَّذِي ذَكَرْتَهُ وبَيَّنْتَهُ قَدْ عَرِفْناهُ، فَإذا لَمْ تَكُنْ مُناظَرَتُنا فِي شَيْءٍ مِنَ الأهْواءِ الَّتِي يُنْكِرُها أهْلُ الحَقِّ، ونُهِينا عَنِ الجِدالِ والمِراءِ والخُصُومَةِ فِيها، فَإنْ كانَتْ مَسْألَةٌ مِنَ الفِقْهِ فِي الأحْكامِ، مِثْلُ الطَّهارَةِ والصَّلاةِ والزَّكاةِ والصِّيامِ والحَجِّ والنِّكاحِ والطَّلاقِ، وما أشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الأحْكامِ، هَلْ لَنا مُباحٌ أنْ نُناظِرَ فِيهِ ونُجادِلَ، أمْ هُوَ مَحْظُورٌ عَلَيْنا، عَرِّفْنا ما يَلْزَمُ فِيهِ كَيْفَ السَّلامَةُ؟

قِيلَ لَهُ: هَذا الَّذِي ذَكَرْتَهُ ما أقَلَّ مَن يَسْلَمُ مِنَ المُناظَرَةِ فِيهِ، حَتّى لا يَلْحَقَهُ فِيهِ فِتْنَةٌ ولا مَأْثَمٌ، ولا يَظْفَرُ فِيهِ الشَّيْطانُ، فَإنْ قالَ كَيْفَ؟ قِيلَ لَهُ: هَذا، قَدْ كَثُرَ فِي النّاسِ جِدًّا فِي أهْلِ العِلْمِ والفِقْهِ فِي كُلِّ بَلَدٍ يُناظِرُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ يُرِيدُ مُغالَبَتَهُ، ويَعْلُو صَوْتُهُ، والِاسْتِظْهارُ عَلَيْهِ بِالِاحْتِجاجِ، فَيَحْمَرُّ لِذَلِكَ وجْهُهُ، وتَنْتَفِخُ أوْداجُهُ، ويَعْلُو صَوْتُهُ، وكُلُّ واحِدٍ مِنهُما يُحِبُّ أنْ يُخْطِئَ صاحِبُهُ، وهَذا المُرادُ مِن كُلِّ واحِدٍ مِنهُما خَطَأٌ عَظِيمٌ، لا يُحْمَدُ عَواقِبُهُ ولا يَحْمَدُهُ العُلَماءُ مِنَ العُقَلاءِ؛ لِأنَّ مُرادَكَ أنْ يُخْطِئَ مُناظِرُكَ خَطَأٌ مِنكَ، ومَعْصِيَةٌ عَظِيمَةٌ، ومُرادُهُ أنْ تُخْطِئَ خَطَأٌ مِنهُ ومَعْصِيَةٌ، فَمَتى يَسَلَمُ الجَمِيعُ؟

فَإنْ قالَ قائِلٌ: فَإنَّما نُناظِرُ لِتَخْرُجَ لَنا الفائِدَةُ؟ قِيلَ لَهُ: هَذا كَلامٌ ظاهَرٌ، وفِي الباطِنِ غَيْرُهُ، وقِيلَ لَهُ: إذا أرَدْتَ وجْهَ السَّلامَةِ فِي المُناظَرَةِ لِطَلَبِ الفائِدَةِ، كَما ذَكَرْتَ، فَإذا كُنْتَ أنْتَ حِجازِيًّا، والَّذِي يُناظِرُكَ عِراقِيًّا، وبَيْنَكُما مَسْألَةٌ، تَقُولُ أنْتَ: حَلالٌ، ويَقُولُ هُوَ: بَلْ حَرامٌ فَإنْ كُنْتُما تُرِيدانِ السَّلامَةَ، وطَلَبَ الفائِدَةِ، فَقُلْ لَهُ: رَحِمَكَ اللَّهُ هَذِهِ المَسْألَةُ قَدِ اخْتَلَفَ فِيها مَن تَقَدَّمَ مِنَ الشِّيُوخِ، فَتَعالَ حَتّى نَتَناظَرَ فِيها مِنّاصِحَّةً لا مُغالَبَةً فَإنْ يَكُنِ الحَقُّ فِيها مَعَكَ، اتَّبَعْتُكَ، وتَرَكْتُ قُولِي، وإنْ يَكُنِ الحَقُّ مَعِي، اتَّبَعْتَنِي وتَرَكْتَ قَوْلَكَ، لا أُرِيدُ أنْ تُخْطِئَ ولا أُغالِبُكَ، ولا تُرِيدُ أنْ أُخْطِئَ، ولا تُغالِبُنِي فَإنْ جَرى الأمْرُ عَلى هَذا فَهُوَ حَسَنٌ جَمِيلٌ، وما أعَزَّ هَذا فِي النّاسِ، فَإذا قالَ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما: لا نُطِيقُ هَذا، وصَدَقا عَنْ أنْفُسِهِما قِيلَ: لِكُلِّ واحِدٍ مِنهُما، قَدْ عَرَفْتَ قَوْلَكَ وقَوْلَ صاحِبِكَ وأصْحابِكَ واحْتِجاجِهِمْ، وأنْتَ فَلا تَرْجِعْ عَنْ قَوْلِكَ، وتَرى أنَّ خَصْمَكَ عَلى الخَطَأِ وقالَ خَصْمُكَ كَذَلِكَ، فَما بِكُما إلى المُجادَلَةِ والمِراءِ والخُصُومَةِ حاجَةٌ إذا كانَ كُلُّ واحِدٍ مِنكُما لَيْسَ يُرِيدُ الرُّجُوعَ عَنْ مَذْهَبِهِ، وإنَّما مُرادُ كُلِّ واحِدٍ مِنكُما أنْ يُخْطِئَ صاحِبُهُ، فَأنْتُما آثِمانِ بِهَذا المُرادِ، أعاذَ اللَّهُ العُلَماءَ العُقَلاءَ عَنْ مِثْلِ هَذا المُرادِ، فَإذا لَمْ تُجْرَ المُناظَرَةُ عَلى المُناصَحَةِ، فالسُّكُوتُ أسْلَمُ، قَدْ عَرَفْتَ ما عِنْدَكَ وما عِنْدَهُ، وعَرَفَ ما عِنْدَهُ وما عِنْدَكَ، والسَّلامُ).

وما ذكره الإمام الآجري من التفريق بين ما يكون من المناظرة في المسائل العلمية لأجل تبين الحق وبين ما يكون من الانتصار للنفس فهو في غاية الأهمية، والموفق هو من صان نفسه من الدخول في مناكفات لا ثمرة لها، وحفظ وقته من أن يضيع مع ليس قصده قبول الحق إذا ظهر له، واتقى أن تحمله الخصومات في الدين على ما لا تحمد عقباه من الانتصار للنفس، مما قد يوقعه من حيث لا يشعر إلى العدول عن الحق الذي كان عليه، والميل شيئا فشيئا إلى أن يدعو إلى الباطل، وهذا معنى قول عمر بن عبدالعزيز رحمه الله : " من جعل دينه عرضة للخصومات أكثر التنقل ".

وأما التوفيق لمن يشارك في بحث المسائل العلمية بتجرد عن المغالبة فهو من أعظم النعم على طالب العلم، لكن أين تجده ؟!

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الجدال
اقرأ أيضا
الطفل الإسلامي والطفل الغربي الجزء الأول | مرابط
تفريغات

الطفل الإسلامي والطفل الغربي الجزء الأول


تأملوا تكريم الشريعة للطفل الذي يولد جاءت بأشياء تدل على أنه قد حدث أمر مهم وليس مجرد أرحام تدفع ولا مجرد ولد خرج وإنما يحتفى به غاية الاحتفاء ويكرم غاية التكريم الشريعة تكرم الطفل من مبدأ أمره فيحنك بأن تلين التمرة حتى تصير مائعة بحيث تبتلع ويفتح فم المولود وتوضع فيه ويدعى له بالبركة كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم

بقلم: محمد المنجد
695
نحن المسلمين | مرابط
فكر مقالات

نحن المسلمين


لا نهن ولا نحزن ومعنا الله ونحن نسمع كل يوم ثلاثين مرة هذا النداء العلوي المقدس هذا النشيد القوي: الله أكبر البطولة سجية فينا وحب التضيحة يجري في عروقنا لا تنال من ذلك صروف الدهر ولا تمحوه من نفوسنا أحداث الزمان لنا الجزيرة التي يشوى على رمالها كل طاغ يطأ ثراها ويعيش أهلها من جحيمها في جنات

بقلم: علي الطنطاوي
1527
ماذا نريد من المرأة ج1 | مرابط
تفريغات المرأة

ماذا نريد من المرأة ج1


سفيان رحمه الله كان ثمرة أم صالحة روى الإمام أحمد بسنده عن وكيع قال: قالت أم سفيان لسفيان: يا بني اطلب العلم وأنا أكفيك بمغزلي أي: تكفيه نفقته وشئون حياته حتى يتفرغ للعلم وقالت له توصيه: يا بني إذا كتبت عشرة أحرف فانظر هل ترى في نفسك زيادة في خشيتك وحلمك ووقارك فإن لم تر ذلك فاعلم أنها تضرك ولا تنفعك

بقلم: محمد الدويش
525
بين حضارة الجسد وحركات تحرير المرأة | مرابط
فكر مقالات

بين حضارة الجسد وحركات تحرير المرأة


في الغرب يتحدثون عن حقوق المرأة في الوقت الذي تتصاعد فيه معدلات الإباحية والعري ومحاصرة المرأة بمعايير تؤكد أهمية جسدها وتختزلها تماما فيه. في مقال متميز للأستاذ مصطفى المرابط بعنوان صناعة الأنوثة جاء فيه أن الصورة النمطية التي يتم تثبيتها تختزل المرأة في جسدها لم يعد يكتفى بتشيؤ هذا الجسد أي تحويلها إلى شيء إنما جعله في خدمة الشيء حيث يقدم طعما للترويج لسلعة أو منتوج. فالجسد يقدم تارة على أنه مادة للاستهلاك وتارة أخرى وسيلة للاستهلاك.

بقلم: عبد الوهاب المسيري
327
صراع الإيمان والهوى | مرابط
اقتباسات وقطوف

صراع الإيمان والهوى


كلام بديع للعلامة عبد الرحمن المعلمي اليماني يتحدث فيه عن الصراع الدائم والمستمر بين الهوى والإيمان وكيف قد يسقط المسلم صريعا للهوى مرة ثم ينهض مرة أخرى ويكشف لنا عن حال إخوان الشياطين وكيف يمدون لهم في الغي والمعصية وماذا يكون لسان حالهم

بقلم: عبد الرحمن المعلمي اليماني
2145
من أخلاق الكبار: زين العابدين | مرابط
تفريغات

من أخلاق الكبار: زين العابدين


إن جاءك إنسان وشتمك وكنت في مجلس مناسبة أو في صالة أفراح فتسلط عليك إنسان وأسمعك قبيح القول فما موقفك من هذا الإنسان إن كنت من أصحاب النفوس الكبيرة فستتجاوز النفس ولهذا كان بعضهم يقول لمن يشتمه ويبالغ في شتمه: يا هذا لا تفرط في شتمنا وأبق للصلح موضعا فإنا لا نكافئ من عصى الله فينا بأكثر من أن نطيع الله فيه.

بقلم: خالد السبت
346