سلسلة كيف تصبح عالما الدرس الخامس ج3

سلسلة كيف تصبح عالما الدرس الخامس ج3 | مرابط

الكاتب: د راغب السرجاني

524 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

 

نستكمل الجانب العلمي في حياة الصحابة

جابر بن عبد الله وأبي أيوب الأنصاري

بعض الناس تتعب من الذهاب مسافة قصيرة لدرس العلم وجابر بن عبد الله رضي الله عنهما سافر من المدينة المنورة إلى الشام من أجل حديث واحد يعرفه أحد الصحابة في الشام وهو لا يعرفه، شهر ذاهب وشهر عائد، خرج من المدينة من المدينة إلى عمق الشام وأخذ الحديث ورجع إلى المدينة. فهو لم يذهب في جولة سياحية إلى دمشق، ولا ليتفسح أو يشتري شيئًا من بيروت، لا، بل ذهب من أجل حديث واحد.

وهذا أبو أيوب الأنصاري خرج من المدينة المنورة إلى مصر إلى الفسطاط من أجل حديث واحد ولم يحل الراحلة. يعني: ترك الجمل واقفًا ونزل فسأل عن الحديث ثم ركب الجمل ورجع إلى المدينة من فوره. هذه قيمة العلم عندهم، أتريد أن توزن مع هؤلاء في ميزان واحد؟ لابد من جهد وتعب: لا يستطاع العلم براحة الجسم، سأكرر عليكم هذه الجملة (20) مرة، إلى أن تخرج وأنت عازم النية على عدم الراحة، إلا هناك في الجنة إن شاء الله رب العالمين.

والعلماء من بعد الصحابة رضي الله عنه وأرضاهم كان لهم من السعي للعلم ما يعجز القلم أو اللسان عن تصويره. فمثلًا: السهر، هل تسهرون؟ هناك ناس تسهر من أجل مشاهدة التلفاز، وهناك ناس تسهر في المقاهي، وهناك ناس تسهر من أجل شيء، وإنما من أجل السهر، فهو قد يعمل أي شيء من أجل تضييع الوقت إلى أن يأتيه النوم، يجلس يعد من (1-100) أو من (10-1000) إلى أن ينام، هكذا في الكتب الطبية التي تساعدك على النوم، حتى إنهم لم يقولوا: قل: سبحان الله مثلًا إلى أن تنام، لا، بل عد واحدًا اثنين ثلاثة أربعة عشرة.

انظروا كيف تسهر هذه الجماعة من الناس؟!

 

حياة الإمام النووي في رحاب العلم

لقد بقي النووي رحمه الله مدة حياته في طلب العلم ومات وعمره (44) سنة، لكن لم يمت حتى خلف ميراثًا من العلم، وكتب الله لعلمه الانتشار والشيوع في بلاد العالم الإسلامي، نسأل الله عز وجل أن يتقبل منه وأن يرفع من درجاته، لم يكن ذلك بالسهل، وإنما كما يقول النووي عن نفسه: بقيت سنتين وأنا في طلب العلم ما وضعت جنبي على الأرض ولا على فراش، فكان إذا غلبني النوم اتكأت على بعض كتبي برهة، ثم أستيقظ وأعمل في طلب العلم.

قد يقول قائل: لقد عذب نفسه، نقول: صحيح أنه تعب وبذل واجتهد وقد مات منذ مئات السنين وذهب ذلك التعب والألم وبقي الأجر إن شاء الله، وإلى وقتنا هذا تقرأ في صحيح مسلم بشرح النووي وتقرأ في (رياض الصالحين) وفي (الأربعين النووية)، جمع أربعين حديثًا من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم حتى دون تفسير.

إذًا: كل من قرأ حديثًا من هذه الأحاديث أو شرحًا من الشروح أو كتابًا من كتب أصول الفقه التي ألفها أو غيرها من المؤلفات الهائلة فإنه يأخذ حسنات وهو في قبره ويظل ذلك إلى يوم القيامة، فأنت عندما تذهب إلى المغرب أو سوريا أو السعودية أو أمريكا أو أوروبا تجد كتب النووي رحمه الله، هذه بركة عظيمة، إنها بركة العلم، لكن لم يأت بالسهل، بل بقي سنتين لم يهنأ بالنوم.

وهذا البدر بن جماعة رحمه الله من علماء الأمة يقول: لما دخلت على النووي صعب علي الجلوس، لم أحد مكانًا أجلس فيه من كثرة الكتب الموجودة على الأرض، فنزع بعض الكتب حتى أوجد لي مكانًا أجلس فيه، وأنا جالس معه لا أستطيع أن أكلمه؛ لأنه مشغول بالعلم، كطلب المرأة المضلة ولدها ليس لها غيره، هذا كلام في منتهى الروعة للشافعي رحمه الله، لو أن واحدة ضاع ابنها وجاءت أخرى تتكلم معها، هل ستترك ابنها وتتكلم معها؟ هي محروقة من داخل؛ القضية هامة ستظل تدور وتدور إلى آخر نفس في حياتها..

 

هكذا طالب العلم.

يقول الحسن البصري: اثنان لا يشبعان: طالب دنيا، وطالب علم. لو أفنيت عمرك كله ما حزت العلم كله، ولما شبعت منه، وكلما أخذت منه شيئًا بقي منه شيء كثير، ولن تستطيع الإحاطة به، قال تعالى في الآية الكريمة: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:85]، فدائمًا العلم كثير. إذًا: لن ينتهي العلم أبدًا إلا بالموت، وإذا مت وقد اجتهدت في العلم تجد الأجر والمثوبة على ما قدمت. وطالب الدنيا أيضًا لا يشبع، والله لو عنده من الأموال كماء البحر، فهو كأنه يشرب من البحر لا يرتوي أبدًا طالب الدنيا.

 

مجموعة من العلماء

لقد كان محمد بن عبدوس رحمه الله من علماء الأمة وقد صلى الصبح بوضوء العشاء (30) سنة. يعني: أنه لا ينام؛ لأن النوم ينقض الوضوء، قد تقول: هذا تشدد، نقول: نحن نريد أن نطرح أمثلة عليا، من أجل أن نعمل بنصفها أو ربعها، أنا لا أقول لك: لا بد أن تعمل مثل محمد بن عبدوس، فـابن عبدوس صلى الصبح بوضوء العشاء (30) سنة، (15) سنة دراسة، و(15) سنة عبادة، كان يبقى من بعد صلاة العشاء يذاكر العلم إلى الفجر وهو محافظ على وضوئه، ثم يذهب ويصلي الفجر بوضوء العشاء.

وهذا عبد الرحمن بن القاسم رحمه الله أحد تلامذة الإمام مالك رحمه الله، كان يذهب إليه في الليل فيسأله مسائل، ويجد عند الإمام مالك في ذلك الوقت انشراح صدر، فيجلس ليعلمه حديثًا واثنين وثلاثة وعشرة، وفي يوم من الأيام كان يريد أن يسأله عن أحاديث، لكنه جاء إليه في وقت متأخر جدًا فاستحى أن يدخل عليه، فنام على باب بيته، فخرج الإمام مالك فرآه نائمًا، فأيقظه فلم يستيقظ، فذهب إلى المسجد، فخرجت جارية من الجواري من البيت توقظه وتقول له: قم يا غفلان، الإمام غدا إلى المسجد، تقول الجارية: الإمام مالك له إلى الآن (49) سنة يصلي الصبح بوضوء العشاء، (49) سنة حتى أصبح الإمام مالك من كبار علاء المدينة، وأصبح لا يفتى ومالك في المدينة.

ومذهب مالك من المذاهب المعتبرة في بقاع العالم الإسلامي المختلفة، وإلى الآن يتعبد إلى الله عز وجل الكثير والكثير من المسلمين على فقهه وعلى مذهبه رحمه الله، هذا يدل على أنه قد قدم الكثير.

وكان الإمام مالك من أغنى المسلمين، لكن لم يكن يحتفظ بالمال، بل كان يأتي إليه طلبة العلم ليعلمهم، فكان يأتيه طلاب من بلاد بعيدة فيستضيفهم ويطعمهم وينفق عليهم، وفي آخر حياته باع الخشب الذي في سقف بيته من أجل أن ينفق على طلبة العلم، وأنفق كل المال الذي معه على طلبة العلم.

انظر إلى القيمة العليا للعلم في نظره، لو كان يرى أن هذا المال ينفق على الفقراء والمساكين وفي سبيل الله وما إلى ذلك أفضل لكان أنفقه في هذه الوجوه، لكنه يرى إنفاقه على العلم أفضل، كما قلنا من قبل في درس سابق: المسلمون في هذا الوقت بفضل الله عندهم صحوة إسلامية وحمية وينفقون، لكن نادر جدًا الذي ينفق على العلم، ننفق على موائد الرحمن وهذا طيب، وننفق على فلسطين وهذا رائع، وننفق على اليتامى والمساكين وبناء المساجد وهذا رائع جدًا، لكن من الذي ينفق على العلم؟ من الذي يعطي العلم هذا القدر من الاهتمام؟ قليل، ولا تقوم الأمة إلا بالعلم، فينبغي لنا أن نهتم بأسباب قيام الأمم.

وهذا البخاري أيضًا كان يذهب لينام فيذكر مسألة وهو على سريره فيقوم ويكتبها، يخاف أن ينساها، ثم ينام، ويذكر مسألة أخرى فيقوم ويكتبها، وثالثة ورابعة، يقول ابن كثير رحمه الله في التاريخ عندما تحدث عن البخاري قال: فيزيد عدد مرات قيامه في الليلة الواحدة على (20) مرة.

(20) مرة يقوم في الليلة الواحدة من أجل أن يسجل معلومات تنفع الأمة حتى صار كتابه أصح كتاب في الأرض بعد كتاب الله عز وجل بإجماع علماء المسلمين، هذه هي قيمة البخاري. وهناك أناس تكتب في الجرائد على البخاري وما وصلت إلى ظفر قدمه الأصغر، ويقول أحدهم في كلمة: فليقل البخاري ما يقول. يعني: كأنه يقول من نفسه، وكأنه لم يكن عنده منهج علمي واضح يمشي عليه، وقد حج كل من عارضه، لقد عارض بعض الناس البخاري في بعض الأحاديث وقالت: الصواب كذا وكذا، وليس الصواب كما كتب البخاري فحجها الإمام البخاري كان الصواب في جانبه فأقر الجميع أنه من أعظم علماء الأمة، وكتابه أصح الكتب بعد كتاب الله عز وجل.

هذا الكتاب لم يأت من فراغ، فـالبخاري كان يحفظ ستمائة ألف حديث.

من المصلحة أن نفرد حديثًا خاصًا بـالبخاري؛ من أجل ألا تحرموا الفوائد التي كانت في حياته رحمه الله، وأنا كلما أذكر شيئًا عن البخاري أراه معجزة، لقد كان البخاري بآلاف الرجال، فالله سبحانه اصطفاه حتى جعل كتابه أعظم كتب السنة مطلقًا، فهذا الرجل قدم كثيرًا، لم يكن يكتب حديثًا واحدًا في صحيحه إلا بعد أن يقوم يتوضأ ويصلي ركعتين استخارة، ثم يكتب الحديث الواحد، وكتابه فيه (7000) حديث بالمكرر، ومن غير المكرر (2612).

هذا جهد ضخم من (600) ألف حديث غربل هذا الكتاب العظيم صحيح البخاري.لا يقل أحد: أنت أطلت، لا، نحن نجلس مع العلم، وقلنا: لا توجد راحة جسم ولا نوم في العلم، بل سهر في طلب العلم، ومجلسكم هذا في سبيل الله، لو كنت ستذهب إلى شيء أعظم من العلم فاذهب، أما أن تذهب لتنام قليلًا أو لتشاهد التلفاز فلا، بل اجلس خير لك، ولئن تقبض في بيت الله في مجلس علم أفضل من أي شيء تعمله خارج المسجد؛ ولذلك يقول الإمام الشافعي رحمه الله: مجلس علم أفضل من (100) ركعة نافلة. هو يعرف الميزان ما بين العالم والعابد، فالعالم أعظم وأعظم من العابد، بالمقاييس التي ذكرناها.
 

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#كيف-تصبح-عالما
اقرأ أيضا
موقف المدرسة العقلية من السنة النبوية الجزء الثاني | مرابط
أباطيل وشبهات

موقف المدرسة العقلية من السنة النبوية الجزء الثاني


كانت المحطة الثانية في تكريس مبدأ الإعلاء من شأن العقل وتحكيمه على نصوص السنة هي ظهور الاستشراق كاتجاه فكري يعنى بدراسة حضارة الأمم الشرقية بصفة عامة وحضارة العرب والإسلام بصفة خاصة والمستشرقون هم علماء من الغرب اعتنوا بدراسة الإسلام واللغة العربية وكذلك لغات الشرق وأديانه وآدابه ويرى بعض المؤرخين أن بداية الاستشراق كانت مع بداية الاستعمار في العصر الحديث قبيل القرن التاسع عشر بينما يرى بعضهم الآخر أن الاستشراق أقدم من ذلك حيث يرون أن بدايته كانت مع اشتغال الغرب بترجمة الكتب العربية

بقلم: الشبكة الإسلامية
1207
انتظار الفرج من الله عز وجل | مرابط
اقتباسات وقطوف

انتظار الفرج من الله عز وجل


حدثنا محمد بن عبد الله الأزدي ثنا حماد بن واقد قال: سمعت إسرائيل بن يونس عن أبي إسحاق الهمداني عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سلوا الله عز وجل من فضله فإن الله عز وجل يحب أن يسأل من فضله وأفضل العبادة انتظار الفرج

بقلم: ابن أبي الدنيا
619
الأصول الضابطة بين الرجل والمرأة | مرابط
المرأة

الأصول الضابطة بين الرجل والمرأة


من أكبر التعقيدات المجتمعية المعاصرة أن الواقع يدفع المرأة بكل قوته إلى عكس الفطرة في السفور وعدم القرار بالبيت والعمل والتبرج والمساواة وكل هذه الأمور التي تحول المرأة إلى رجل في تصرفاتها في صورة امرأة في شكلها وتبقى هذه الأزمة لا هي تستطيع أن تكون رجلا طيلة الوقت ولا تستطيع أن تنعم بأنوثتها وقرارها كذلك.

بقلم: محمد حشمت
266
وظهر الدجال | مرابط
فكر

وظهر الدجال


بت أستشعر اليوم أكثر من أي وقت مضى حالة المجتمع الذي سيظهر فيه الدجال ويتلقى دعوته بالحفاوة والترحيب وكأني به يطوف بلاد العالم ويفرش له السجاد الأحمر باعتباره أحد أقطاب الإصلاح الاقتصادي والنهضة الحضارية. أشعر وكأن بعض المنتسبين إلى العلم والدعوة في عالمنا الإسلامي البائس سوف يتصدرون المشهد ويقودون حملته المضللة بالتلبيس على العوام بطرائق شتى سيكون منها بلا شك مهرجانات الرحمة للجميع !!

بقلم: د. جمال الباشا
261
النشوز ما هو؟ | مرابط
المرأة

النشوز ما هو؟


النشوز ما هو؟ يقول صاحب أضواء البيان: النشوز في اصطلاح الفقهاء الخروج عن طاعة الزوج. يقول الطبري: نشوزهن: استعلاءهن على أزواجهن وارتفاعهن عن فرشهم بالمعصية منهن والخلاف عليهم فيما لزمهن طاعتهم فيه بغضا منهن وإعراضا عنهم

بقلم: باسم بشينية
256
ذكر ما يصدأ به القلب | مرابط
اقتباسات وقطوف

ذكر ما يصدأ به القلب


قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه وإن زاد زادت حتى تعلو قلبه فذلك الران الذي ذكر الله عز وجل في كتابه كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون وقال حذيفة إذا أذنب العبد نكت في قلبه نكتة سوداء فإذا أذنب نكت في قلبه نكتة سوداء حتى يصير قلبه كالشاة الربداء

بقلم: ابن الجوزي
622