شبهة حول ما ورد في القرآن عن خلق الإنسان

شبهة حول ما ورد في القرآن عن خلق الإنسان | مرابط

الكاتب: محمد عمارة

2554 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

أصل الشبهة

يعطي القرآن معلومات مختلفة عن خلق الإنسان.. من ماء مهين (77: 20) (1) من ماء (21: 30).. من نطفة (36: 77).. من طين (32: 7).. من علق (96: 2).. من حمأ مسنون (15: 27).. ولم يك شيئًا (19: 67).
 
فكيف يكون كل ذلك صحيحًا في نفس الوقت؟

 

الجواب:

ليس هناك أدنى تناقض - بل ولا حتى شبهة تناقض - بين ما جاء في القرآن الكريم من معلومات عن خلق الإنسان.. وحتى يتضح ذلك، يلزم أن يكون هناك منهج علمي في رؤية هذه المعلومات، التي جاءت في عديد من آيات القرآن الكريم.. وهذا المنهج العلمي يستلزم جمع هذه الآيات.. والنظر إليها في تكاملها.. مع التمييز بين مرحلة خلق الله للإنسان الأول - آدم عليه السلام - ومرحلة الخلق لسلالة آدم، التي توالت وتكاثرت بعد خلق حواء، واقترانها بآدم، وحدوث التناسل عن طريق هذا الاقتران والزواج.
 

مراحل خلق آدم عليه السلام

لقد خلق الله، سبحانه وتعالى، الإنسان الأول -آدم- فأوجده بعد أن لم يكن موجودًا.. أي أنه أصبح "شيئًا" بعد ان لم يكن "شيئًا" موجودًا.. وإنما كان وجوده فقط في العلم الإلهي.. وهذا ومعنى الآية الكريمة: {أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا} (مريم: 67).
 
أما مراحل خلق الله، سبحانه وتعالى، لآدم.. فلقد بدأت بـ (التراب) الذي أضيف إليه (الماء) فصار (طينًا) ثم تحول هذا الطين إلى (حمأ) أي أسود منتن، لأنه تغير - والمتغير هو (المسنون) - فلما يبس هذا الطين - من غير أن تمسه النار - سمى (صلصالًا) - لأن الصلصال هو الطين اليابس - من غير ان تمسه نار - وسمى صلصالًا لأنه يصل، أي يصوت، من يبسه - أي له صوت ورنين..
 
وبعد مراحل الخلق هذه - التراب.. فالماء.. فالطين.. فالحمأ المسنون.. فالصلصال.. نفخ الله، سبحانه وتعالى، في مادة الخلق هذه من روحه، فغدا هذا المخلوق "إنسانًا" هو آدم، عليه السلام.
 
وعن هذه المراحل تعبر الآيات القرآنية فتصور تكامل المراحل - وليس التعارض المتوهم والموهوم - فتقول هذه الآيات الكريمة: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} (آل عمران: 59) - فبالتراب كانت البداية.
 
{الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ} (السجدة: 7) ، وذلك عندما أضيف الماء إلى التراب {فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ} (الصافات: 11) - وذلك عندما زالت قوة الماء عن الطين فأصبح "لازبًا"، أي جامدًا..
 
وفي مرحلة تغير الطين، واسوداد لونه، ونتن رائحته، سمي (حمأ مسنونًا) ، لأن الحمأ هو الطين الأسود المنتن.
 
والمسنون هو المتغير بينما الذي (لم يتسنه) هو الذي لم يتغير.. وعن هذه المرحلة عبرت الآيات: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) } (الحجر: 26-35) (2).
 
تلك هي مراحل خلق الإنسان الأول، توالت فيها وتتابعت وتكاملت المصطلحات: التراب.. والماء.. والطين.. والحمأ المسنون.. والصلصال.. دونما أي شبهة للتعارض أو التناقض..
 
وكذلك الحال والمنهاج مع المصطلحات التي وردت بالآيات القرآنية التي تحدثت عن خلق سلالة آدم عليه السلام..
 

مراحل خلق سلالة آدم عليه السلام

فكما تدرج خلق الإنسان الأول - آدم - من التراب.. إلى الطين.. إلى الحمأ المسنون.. إلى الصلصال.. حتى نفخ الله فيه من روحه.. كذلك تدرج خلق السلالة والذرية.. بدءًا من (النطفة) - التي هي الماء الصافي - ويعبر بها عن ماء الرجل - (المني) -.. إلى (العلقة) - التي هي الدم الجامد، الذي يكون منه الولد، لأنه يعلق ويتعلق بجدار الرحم.. إلى (المضغة) - وهي قطعة اللحم التي لم تنضح، والمماثلة لما يمضغ بالفم -.. إلى (العظام).. إلى (اللحم) الذي يكسو العظام.. إلى (الخلق الاخر) الذي اصبح - بقدرة الله - في أحسن تقويم (3).
 
ومن الآيات التي تحدثت عن توالي وتكامل هذه المراحل في خلق وتكوين نسل الإنسان الأول وسلالته، قول الله، سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} (الحج: 5).
 
وقوله، سبحانه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (المؤمنون: 12-14).
 
وإذا كانت (النطفة) هي ماء الرجل.. فإنها عندما تختلط بماء المرأة، توصف بأنها (أمشاج) - أي مختلطة - كما جاء في قوله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} (الإنسان: 2).
 
كما توصف هذه (النطفة) بأنها (ماء مهين) لقلته وضعفه.. وإلى ذلك تشير الآيات الكريمة: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} (السجدة: 7-8).
 
{أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} (المرسلات: 20-23).
 
وكذلك، وصفت (النطفة) - أي ماء الرجل - بأنه (دافق) لتدفقه واندفاعه.. كما جاء في الآية الكريمة: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) } (الطارق: 5-7).
 
هكذا عبر القرآن الكريم عن مراحل الخلق.. خلق الإنسان الأول.. وخلق سلالات وذريا هذا الإنسان.. وهكذا قامت مراحل الخلق، ومصطلحات هذه المراحل، شواهد على الإعجاز العلمي للقرآن الكريم.. عندما جاء العلم الحديث ليصدق على هذه المراحل ومصطلحاتها، حتى لقد انبهر بذلك علماء عظام فاهتدوا إلى الإسلام..
 
فكيف يجوز - بعد ذلك ومعه - أن يتحدث إنسان عن وجود تناقضات بين هذه المصطلحات..
 
لقد صدق الله العظيم: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (النساء: 82).

 


 

المصدر:

  1. محمد عمارة، شبهات حول القرآن، ص2

 

الإشارات المرجعية:

  1. الآيات التي تحدثت عن "الماء المهين" هي في السورة (32: 8) و(77: 20).
  2. انظر معاني المصطلحات الواردة في هذه الآيات في: الراغب الأصفهاني، أبو القاسم الحسين بن محمد (المفردات في غريب القرآن) طبعة دار التحرير - القاهرة - سنة 1991م. و (لسان العرب) - لابن منظور - طبعة دار المعارف - القاهرة.
  3. انظر في معاني هذه المصطلحات (المفردات في غريب القرآن)
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#شبهات-حول-القرآن
اقرأ أيضا
حفظ اللسان وفضل الصمت | مرابط
مقالات

حفظ اللسان وفضل الصمت


حدثنا يونس بن عبد الرحيم العسقلاني حدثنا عمرو بن أبي سلمة عن صدقة بن عبد الله عن عبد الله بن علي عن سليمان بن حبيب حدثني أسود بن أصرم المحاربي رضي الله عنه قال: قلت: أوصني يا رسول الله قال: أتملك يدك قال: قلت: فما أملك إذا لم أملك يدي قال: أتملك لسانك قال: فما أملك إذا لم أملك لساني قال: فلا تبسط يدك إلا إلى خير ولا تقل بلسانك إلا معروفا

بقلم: ابن أبي الدنيا
678
أشراط الساعة رواية ودراية: الدرس الثاني ج3 | مرابط
تفريغات

أشراط الساعة رواية ودراية: الدرس الثاني ج3


والفتن هي أكثر أشراط الساعة ورودا على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإطلاق سواء على وجه الإفراد أو على سبيل الإجمال وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بيان أشراط الساعة على سبيل الإجمال فمنها ما جاء في حديث عوف بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ثم فتنة لا تدع بيتا من بيوت العرب إلا دخلته يعني: أنها جاوزت الطرقات إلى بيوت الناس وتخصيص العرب بمعنى أنها اقتحمت العرب مع شدة احترازهم وانتقلت من غيرهم إليهم

بقلم: عبد العزيز الطريفي
788
من علامات السعادة والفلاح | مرابط
اقتباسات وقطوف

من علامات السعادة والفلاح


من علامات السعادة والفلاح أن العبد كلما زيد في علمه زيد في تواضعه ورحمته وكلما زيد في خوفه وحذره وكلما زيد في عمره نقص من حرصه وكلما زيد في ماله زيد في سخائه وبذله وكلما زيد في قدره وجاهه زيد في قربه من الناس وقضاء حوائجهم والتواضع لهم

بقلم: ابن القيم
955
التفريط الديني والتهكم بالمتدينين | مرابط
اقتباسات وقطوف

التفريط الديني والتهكم بالمتدينين


كيف يتخلص الإنسان كليا من ضغط التأنيب الداخلي الحقيقة أن السخرية بالمتدينين من أهم الوسائل التي توفر للإنسان الراحلة الكلية من هذه الضغوط وضع الصورة المطلوبة في قالب هزلي يبدد نفوذها على النفس البشرية ولذلك نبه القرآن إلى هذه العلاقة بين التفريط والسخرية

بقلم: إبراهيم السكران
577
آداب استخدام مواقع التواصل الاجتماعي | مرابط
تفريغات

آداب استخدام مواقع التواصل الاجتماعي


محاضرة ثرية وهامة للشيخ محمد صالح المنجد تدور حول وسائل التواصل الاجتماعي التي وصلت إلى كل البيوت تقريبا وصارت تشكل مساحة كبيرة من حياة الإنسان وللأسف يستخدم المسلمون هذه الوسائل والمواقع بدون ضوابط ولا حدود ومن هنا تأتي محاضرة الشيخ المنجد لتقدم لنا آداب استخدام مواقع التواصل الاجتماعي

بقلم: محمد صالح المنجد
4071
فرية ضرب عثمان بن عفان لعمار بن ياسر: رد على عدنان إبراهيم ج2 | مرابط
أباطيل وشبهات

فرية ضرب عثمان بن عفان لعمار بن ياسر: رد على عدنان إبراهيم ج2


ادعى الدكتور عدنان أن عثمان بن عفان رضي الله عنه ضرب عمار بن ياسر رضي الله عنه بقدمه في محاشه أي عورته حتى كان عمار لا يحتبس بوله واستدل على ذلك بما رواه ابن شيبة في تاريخ المدينة الجزء الثالث وطبعا نعلم جميعا ما لدى الدكتور عدنان من خلط وحقد يمرره بشكل ناعم في حلقاته وفي هذا المقال يناقش أبو عمر الباحث هذه الشبهة ويرد عليها

بقلم: أبو عمر الباحث
1731