ظهور العقيدة في الوعي المتيقظ والشعور المتوقد

ظهور العقيدة في الوعي المتيقظ والشعور المتوقد | مرابط

الكاتب: محمد عبد الله دراز

1925 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

(١) ما الأسباب المباشرة التي أيقظتها في النفوس؟
 

فإِذا سألنا هنا عن نشأة العقيدة الإِلهية، فليس سؤالنا منشأ هذه الضرورة الكامنة في العقل الباطن، والتي هي من الأوليات التي لا يُسأل عن مصدرها، وإِنما السؤال عن العوامل والملابسات التي تكون قد رفعت هذه الحقيقة إِلى مستوى الوعي المتيقظ، ثم لم تكتفِ بإِبرازها أمام العقل قضية نظرية، بل حولتْها إِلى فكرة حية ملهبة للمشاعر، وطبعت موضوعها بطابع خاص يجعله ذاتًا عُلويةً تتوجه إِليها القلوب بالرغبة والرهبة، والدعاء والخضوع.

 

جمهور الباحثين في هذه المسألة لا يطلبون من بحثهم الوقوف على الأسباب العامة التي تتيسر دراستها ويمكن التحقُّق من وجودها في كل عصر، والتي يُعقل أنها هي التي أيقظت ولا تزال توقظ الحاسة الدينية في الإِنسان، بل يفهمون من كلمة «نشأة الدين» الصورة التي ظهرت فيها الأديان أول ما ظهرت في الوجود، فالأولية التي يريدون تقريرها ليس أولية في الترتيب المنطقي فحسب -كتقدم المقدمات على النتائج- وليست أولية تاريخية نسبية -أعني: بالإِضافة إِلى العصور المعروفة- بل هي أولية زمانية مطلقة، تقترن بظهور الإِنسان على هذا الكوكب.

 

والمنهجُ الذي يسلكونه للوصول إِلى هذا المطلب هو التنقيب عن أديان الأمم القديمة، أو أديان الأمم المعاصرة غير المتحضرة، حتى إِذا ما انتهى بهم السير في تلك العصور المظلمة، أو تلك الأقطار المنعزلة، إِلى أقدم مظهر معروف من مظاهر التفكير الديني، اعتبروه صورةً مطابقة لِمَا كان عليه الإِنسان الأول.

 

ولما كانت المرحلةُ النهائية في نظر باحث معين لا تنطبق دائمًا على المرحلة الأخيرة التي يصل إِليها باحثٌ آخرُ؛ انقسم الباحثون في الموضوع إِلى شعبتين عظيمتين، تسيران في خَطَّيْن متعاكسين:

 

«ففريقٌ منهم» يذهب إِلى أن الدِّين بدأ في صورة الخرافة والوثنية، وأن الإِنسان أخذ يترقى في دينه على مدى الأجيال حتى وصل إِلى الكمال فيه بالتوحيد، كما تَدَرَّجَ نحو الكمال في علومه وصناعاته، حتى زعم بعضهم أن عقيدة «الإِله الأحد» عقيدة جِدُّ حديثة، وأنها وليدةُ عقلية خاصة بالجنس السامي.

هذه النظرية نادى بها أنصارُ مذهب «التطوُّر التقدمي»، أو التصاعدي Evolu-tionnism progressisie ou ascendent، الذي ساد في أُوروبا في القرن التاسع عشر، في أكثر من فرع من فروع العلوم، وحاول تطبيقه على تاريخ الأديان عددٌ من العلماء منهم سبنسر Spencer، وتيلور Tylor، وفريزر Frazer، ودوركايم Durkheim، وغيرهم. وإِن اختلفت وجهات نظرهم في تحديد صورة العبادة الأولى وموضوعها.

 

«وفريقٌ آخر» يقرر بالطرق العلمية بطلانَ هذا المذهب، ويثبت بالعكس أن عقيدة الخالق الأكبر هي أقدمُ ديانة ظهرت في البشر، مستدلًّا بأنها لم تنفك عنها أمةٌ من الأمم في القديم والحديث. فتكونُ الوثنيات إِن هي إِلا أعراضٌ طارئة، أو أمراضٌ متطفلة، بجانب هذه العقيدة العالمية الخالدة.

وهذه هي نظرية «فطرية التوحيد وأصالته»، التي انتصر لها جمهور من علماء الأجناس، وعلماء الإِنسان، وعلماء النفس، ومن أشهر مشاهيرهم لانج Lang الذي أثبت وجود عقيدة «الإِله الأعلى» عند القبائل الهمجية في أوستراليا، وإِفريقيا، وأمريكا. ومنهم شريدر Sheroeder الذي أثبتها عند الأجناس الآرية القديمة؛ وبروكلمان Brockelman الذي وجدها عند الساميين قبل الإِسلام، ولرواه La Roy وكاترفاج Quatrefages عند أقزام أواسط إِفريقيا، وشميدت Schmidt عند الأقزام وعند سكان أوستراليا الجنوبية الشرقية. وقد انتهى بحث شميدت هذا إِلى فكرة «الإِله الأعظم» توجد عند جميع الشعوب الذي يعدون من أقدم الأجناس الإِنسانية.(1)

 

غير أنه مهما تتفاوت النتائج في نظر المذهبين: «التطوري والفطري» فإِنهما متفقان على موضوع البحث، وهو تحديد صورة العقيدة «البدائية» الحقيقية، وعلى منهاجه، وهو دراسة الشعوب المتأخرة والأمم الغابرة.

 


 

الإشارات المرجعية:

  1. Schmidt. ouv. Cit, p. 30

 

المصدر:

  1. محمد عبد الله دراز، الدين بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان، ص107
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#العقيدة
اقرأ أيضا
خرافة السر: قراءة تحليلية لكتاب السر وقانون الجذب | مرابط
فكر مناقشات

خرافة السر: قراءة تحليلية لكتاب السر وقانون الجذب


ولقد طالعت هذا السر وقرأته فوجدت كتاب دجل وخرافة يراد تمريرها عبر بهرجة لفظية وزخرفة كلامية ودعاوى فارغة فتركت الكتاب ولم أحفل به كونه من الباطل البين ولم أعن حينها بالكتابة حوله كونه مكتوبا بلغته الأم مما ساهم في تحجيم انتشاره وتضييق عدد قرائه عندنا لكن حين ترجم الكتاب إلى العربية وأخذت إعلاناته تطل علينا في الشوارع ويسوق له على مستوى عال تغير الحال وتبدل الرأي

بقلم: عبد الله العجيري
628
العجمة وظهور البدع | مرابط
تفريغات

العجمة وظهور البدع


ينبغي للإنسان إذا أراد أن يفهم مسائل الدين أصولا وفروعا أن يرجع إلى أقوال أهل العربية من أهل العلم والفضل وصدر ذلك هم الصحابة عليهم رضوان الله تعالى في المدينة ومكة وكذلك أيضا الأجلة من فقهاء التابعين في المدينة ومكة فينبغي له أن يعرف أقوالهم وأن يتبصر بها ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم إنما فضل أصحابه لهذا الباب وكذلك أيضا إنما جاء تفضيل المدينة وأهلها وفضل سكناها باعتبار أن البدع فيها أقل من غيرها.

بقلم: عبد العزيز الطريفي
424
إمكانيات فهم القرآن | مرابط
فكر مقالات

إمكانيات فهم القرآن


وأتذكر قصص السلف التي رويت في تراجمهم وما ذكر عن تهجدهم بالأسحار وقيام بعضهم الليل كله بآية يرددها من كتاب الله وجاء هذا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من حديث أبي ذر عند النسائي أيضا أتذكر هذه المشاهد من قيام بعض السلف ليلة كاملة بآية واحدة وأقول في نفسي: يا ترى كم هي المعاني التي فتحت لهذا المتهجد في قيام الليل حتى أصبحت قراءة الآية لا تزيده إلا شغفا بإعادتها

بقلم: إبراهيم السكران
632
الأصول الكلية التي يقوم عليها الإيمان بوجود الله وكماله ج3 | مرابط
تعزيز اليقين مقالات

الأصول الكلية التي يقوم عليها الإيمان بوجود الله وكماله ج3


ليس المراد بالأصول في هذا السياق الأدلة العقلية التي يستند إليها المؤمنون في إثبات وجود الله وكماله وإنما المراد بها المعاني الكلية التي يتأسس من مجموعها الإيمان الصحيح السالم من النقص والعيب في التصديق بأن الله موجود وأنه الخالق للكون المدبر له والمتصرف في شؤونه والمتصف بصفات الكمال والجلال

بقلم: د سلطان العميري
1975
البركة في العلم | مرابط
مقالات

البركة في العلم


بعض العلماء لم يعرف إلا بمتن أو منظومة كابن آجروم والبيقوني أما الآجرومية فما من طالب يريد النحو إلا كانت بوابته وقل مثل ذلك في البيقونية في مصطلح الحديث. وإذا تأملت في حال بعض العلماء وجدت أن غيرهم أعلم منهم بكثير وأوسع دائرة وإحاطة لكن أثر هؤلاء العلماء أعمق من غيرهم ونفعهم أعظم ولازالت الأمة تتفيأ ظلال علومهم.. والسر في ذلك بركة العلم

بقلم: طلال الحسان
328
المرأة المسلمة في رمضان: الاقتصاد في الطعام | مرابط
تفريغات المرأة

المرأة المسلمة في رمضان: الاقتصاد في الطعام


كما أن عليك -أيتها الأخت المسلمة- في هذا الشهر العظيم أن تجتنبي ما حرم الله من أنواع الحرام كالغيبة والنميمة وإنني أحذر من خطورة اجتماعات ما بعد صلاة التراويح فإنني ألاحظ أنه يحدث في البيوت في الاجتماعات كثير من اللغط والأمور المحرمة وقول الزور وانزلاق اللسان سهل جدا

بقلم: محمد المنجد
459