ظهور العقيدة في الوعي المتيقظ والشعور المتوقد

ظهور العقيدة في الوعي المتيقظ والشعور المتوقد | مرابط

الكاتب: محمد عبد الله دراز

2006 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

(١) ما الأسباب المباشرة التي أيقظتها في النفوس؟
 

فإِذا سألنا هنا عن نشأة العقيدة الإِلهية، فليس سؤالنا منشأ هذه الضرورة الكامنة في العقل الباطن، والتي هي من الأوليات التي لا يُسأل عن مصدرها، وإِنما السؤال عن العوامل والملابسات التي تكون قد رفعت هذه الحقيقة إِلى مستوى الوعي المتيقظ، ثم لم تكتفِ بإِبرازها أمام العقل قضية نظرية، بل حولتْها إِلى فكرة حية ملهبة للمشاعر، وطبعت موضوعها بطابع خاص يجعله ذاتًا عُلويةً تتوجه إِليها القلوب بالرغبة والرهبة، والدعاء والخضوع.

 

جمهور الباحثين في هذه المسألة لا يطلبون من بحثهم الوقوف على الأسباب العامة التي تتيسر دراستها ويمكن التحقُّق من وجودها في كل عصر، والتي يُعقل أنها هي التي أيقظت ولا تزال توقظ الحاسة الدينية في الإِنسان، بل يفهمون من كلمة «نشأة الدين» الصورة التي ظهرت فيها الأديان أول ما ظهرت في الوجود، فالأولية التي يريدون تقريرها ليس أولية في الترتيب المنطقي فحسب -كتقدم المقدمات على النتائج- وليست أولية تاريخية نسبية -أعني: بالإِضافة إِلى العصور المعروفة- بل هي أولية زمانية مطلقة، تقترن بظهور الإِنسان على هذا الكوكب.

 

والمنهجُ الذي يسلكونه للوصول إِلى هذا المطلب هو التنقيب عن أديان الأمم القديمة، أو أديان الأمم المعاصرة غير المتحضرة، حتى إِذا ما انتهى بهم السير في تلك العصور المظلمة، أو تلك الأقطار المنعزلة، إِلى أقدم مظهر معروف من مظاهر التفكير الديني، اعتبروه صورةً مطابقة لِمَا كان عليه الإِنسان الأول.

 

ولما كانت المرحلةُ النهائية في نظر باحث معين لا تنطبق دائمًا على المرحلة الأخيرة التي يصل إِليها باحثٌ آخرُ؛ انقسم الباحثون في الموضوع إِلى شعبتين عظيمتين، تسيران في خَطَّيْن متعاكسين:

 

«ففريقٌ منهم» يذهب إِلى أن الدِّين بدأ في صورة الخرافة والوثنية، وأن الإِنسان أخذ يترقى في دينه على مدى الأجيال حتى وصل إِلى الكمال فيه بالتوحيد، كما تَدَرَّجَ نحو الكمال في علومه وصناعاته، حتى زعم بعضهم أن عقيدة «الإِله الأحد» عقيدة جِدُّ حديثة، وأنها وليدةُ عقلية خاصة بالجنس السامي.

هذه النظرية نادى بها أنصارُ مذهب «التطوُّر التقدمي»، أو التصاعدي Evolu-tionnism progressisie ou ascendent، الذي ساد في أُوروبا في القرن التاسع عشر، في أكثر من فرع من فروع العلوم، وحاول تطبيقه على تاريخ الأديان عددٌ من العلماء منهم سبنسر Spencer، وتيلور Tylor، وفريزر Frazer، ودوركايم Durkheim، وغيرهم. وإِن اختلفت وجهات نظرهم في تحديد صورة العبادة الأولى وموضوعها.

 

«وفريقٌ آخر» يقرر بالطرق العلمية بطلانَ هذا المذهب، ويثبت بالعكس أن عقيدة الخالق الأكبر هي أقدمُ ديانة ظهرت في البشر، مستدلًّا بأنها لم تنفك عنها أمةٌ من الأمم في القديم والحديث. فتكونُ الوثنيات إِن هي إِلا أعراضٌ طارئة، أو أمراضٌ متطفلة، بجانب هذه العقيدة العالمية الخالدة.

وهذه هي نظرية «فطرية التوحيد وأصالته»، التي انتصر لها جمهور من علماء الأجناس، وعلماء الإِنسان، وعلماء النفس، ومن أشهر مشاهيرهم لانج Lang الذي أثبت وجود عقيدة «الإِله الأعلى» عند القبائل الهمجية في أوستراليا، وإِفريقيا، وأمريكا. ومنهم شريدر Sheroeder الذي أثبتها عند الأجناس الآرية القديمة؛ وبروكلمان Brockelman الذي وجدها عند الساميين قبل الإِسلام، ولرواه La Roy وكاترفاج Quatrefages عند أقزام أواسط إِفريقيا، وشميدت Schmidt عند الأقزام وعند سكان أوستراليا الجنوبية الشرقية. وقد انتهى بحث شميدت هذا إِلى فكرة «الإِله الأعظم» توجد عند جميع الشعوب الذي يعدون من أقدم الأجناس الإِنسانية.(1)

 

غير أنه مهما تتفاوت النتائج في نظر المذهبين: «التطوري والفطري» فإِنهما متفقان على موضوع البحث، وهو تحديد صورة العقيدة «البدائية» الحقيقية، وعلى منهاجه، وهو دراسة الشعوب المتأخرة والأمم الغابرة.

 


 

الإشارات المرجعية:

  1. Schmidt. ouv. Cit, p. 30

 

المصدر:

  1. محمد عبد الله دراز، الدين بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان، ص107
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#العقيدة
اقرأ أيضا
لئن كان قال ذلك لقد صدق | مرابط
تعزيز اليقين

لئن كان قال ذلك لقد صدق


المتأمل لما قاله أبو بكر رضي الله عنه لئن كان قال ذلك لقد صدق يدرك أن هناك قاعدة تأسس عليها إيمان الصديق رضي الله عنه فهذه العبارة ليست عشوائية ولم تأت اعتباطا لو كان النبي قال كذا فقد صدق إذن أيا كان الذي قاله النبي إنه صادق في كل ما يقول المهم أن يثبت عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال ما قال إنه التسليم المطلق للوحي ولمثل هذا كان أبو بكر هو الصديق فالتسليم هو محض الصديقية كما يقول ابن القيم رحمه الله وهذه هي القاعدة التي تأسس عليها إيمان الصديق رضي الله عنه

بقلم: محمود خطاب
948
لماذا نصوم الجزء الأول | مرابط
تفريغات

لماذا نصوم الجزء الأول


الصيام من أركان الإسلام عبادة لا يفوتها أي مسلم العالم منهم والعامي ولكن كثيرا من المسلمين لا يعرفون لماذا نصوم وما هي حكمة الصيام وكيف نؤدي هذه العبادة على وجهها الصحيح وبين يديكم تفريغ لمحاضرة هامة لأبي بكر الجزائري يجيب فيها عن هذا السؤال: لماذا يصوم المسلمون

بقلم: أبو بكر الجزائري
875
بين المتقدمين والمتأخرين | مرابط
اقتباسات وقطوف

بين المتقدمين والمتأخرين


وقد ابتلينا بجهلة من الناس يعتقدون في بعض من توسع في القول من المتأخرين أنه أعلم ممن تقدم فمنهم من يظن في شخص أنه أعلم من كل من تقدم من الصحابة ومن بعدهم لكثرة بيانه ومقاله! ومنهم من يقول هو أعلم من الفقهاء المشهورين المتبوعين

بقلم: ابن رجب
369
الزواج وطلب العلم | مرابط
اقتباسات وقطوف

الزواج وطلب العلم


مقتطف من كتاب إلى الجيل الصاعد للكاتب أحمد يوسف السيد يناقش فيه معضلة طلاب العلم حيث يعتقد البعض أن الزواج سيكون عائقا أمام رحلة الطلب أو أن الوقت سيكون ضيقا ومن هنا يقرر البعض تأخير الزواج لكن الحقيقة عكس ذلك تماما

بقلم: أحمد يوسف السيد
688
ينابيع النزعة الدينية في النفس البشرية | مرابط
فكر مقالات

ينابيع النزعة الدينية في النفس البشرية


ما هذه إذن تلك القوة الغلابة التي لا تزيدها المقاومة إلا عنفا واشتعالا والتي تقهر في النهاية أنصارها وأعداءها على السواء أليست هي قوة الفطرة التي إن تورق وتثمر كلما عاودها الربيع فبلل ثراها وسقى أصولها بلى وإن هذا الربيع قد تكفي منه قطرة وربما تبلور في نظرة فما هي إلا طرفة من تأمل الفكر أو لحظة من يقظة الوجدان أو أزمة من صدمات العزم فإذا أنت تسبح بخيالك في عالم الغيب الذي منه خرجت أو في عالم الغيب الذي إليه تصير

بقلم: محمد عبد الله دراز
2260
لا تقطع أذنك | مرابط
فكر

لا تقطع أذنك


يحكى أن أحد الملوك تأخرت زوجته في إنجاب ولي العهد فأرسل في إثر الأطباء من كل أرجاء المملكة وكتب الله أن يجري شفاء الملكة على أيديهم. فحملت الملكة بولي العهد وطار الملك بذلك فرحا وأخذ يعد الأيام لمقدم الأمير وعندما وضعت الملكة وليدها.. كانت دهشة الجميع كبيرة: فقد كان المولود بأذن واحدة!

بقلم: محمد بن عبد الله الفريح
401