ويخيل إليَّ أننا نعيش اليوم في عصر بلبلة واختلاط، وهذا شيء قد أصاب أممًا كثيرة من قبلنا، فلم يعقها ذلك عن إدراك الغايات، التي حرصت على السعي إليها، وعلى بلوغها، بيد أنه لا بد لأمة أرادت أن تخلص من هذه البلبلة، أن يتجرد من رجالها ونسائها فئة لا ترهب في الحق سطوة ولا بطشًا ولا اضطهادًا، ولا تدخر دون مطلبها جهدًا ولا عزيمة، ولا يثنيها إخفاق، ولا تلفتها فتنة، ولا يصرفها الفرح بقليل تناله، عن الكدح في سبيل ما ينبغي أن تناله.
فمن شر هذه البلية: كتَّاب وعلماء ورجال من أصحاب الرأي ليس في قلب أحد منهم تقوى لله، ولا خشية للإثم، ولا محبة للحق، فيرى أحدهم الرأي الفطير (وهو ما أعجل عن إدراكه واستحكامه) فلا يلبث أن يمسك القلم، فيجري السواد على بياض الورق، فإذا هي مقالة أو كتاب أو رأي أخبث منه صاحبه والناطق به، فيأخذه المبتدئ المتطلع، فيعتقده كأنه لقطة نفيسة بغير تحقيق ولا تمحيص، فإذا سمع رأيا يخالف ما قرأ لهذا الكاتب البليغ أو الأستاذ الكبير أو الفيلسوف القدير، أنكره وأدبر عنه، فيزيده هذا الإنكار لجاجة، وتزيد اللجاجة عنادًا، ويملؤه العناد كبرًا، فيعمى عن الحق، وهو بيِّن، ولا يزال يهوي في العناد حتى يصير ذلك عادة في مسألة بعد مسألة، ورأي بعد رأي، وإذا هو عند نفسه أكبر من أن يأخذ عن فلان؛ لأنه يخالفه في الرأي.
المصدر:
محمود شاكر، جمهرة المقالات، مقال بلبلة (بتصرف)