يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في نقد ما وقع فيه بعض أهل الحديث من الشذوذات المخالفة لمنهجهم:
(...وإذا قابلنا بين الطائفتين -أهل الحديث وأهل الكلام- فالذي يعيب بعض أهل الحديث وأهل الجماعة بحشو القول إنما يعيبهم بقلة المعرفة أو بقلة الفهم.
أما الأول فبأن يحتجوا بأحاديث ضعيفة وموضوعة، أو بآثار لا تصلح للاحتجاج.
وأما الثاني: فبأن لا يفهموا معنى الأحاديث الصحيحة، بل قد يقولون القولين المتناقضين، ولا يهتدون للخروج من ذلك.
والأمر راجع إلى شيئين: إما رواية أقوال غير مفيدة يظن أنها مفيدة، كالأحاديث الموضوعة، وإما أقوال مفيدة لكنهم لا يفهمونها، إذ كان إتِّباع الحديث يحتاج أولا إلى صحة الحديث، وثانيا إلى فهم معناه كإتباع القرآن، والجهل يدخل عليهم من ترك إحدى المقدمتين، ومن عابهم من الناس فإنما يعيبهم بهذا.
ولا ريب أن هذا موجود في بعضهم، يحتجون بأحاديث موضوعة في مسائل الأصول والفروع، وبآثار مفتعلة وحكايات غير صحيحة، ويذكرون من القرآن والحديث ما لا يفهمون معناه، وربما تأولوه على غير تأويله، ووضعوه على غير موضعه.
ثم إنهم بهذا المنقول الضعيف والمعقول السخيف قد يكفرون ويضللون ويبدعون أقواما من أعيان الأمة ويجهلونهم، ففي بعضهم من التفريط في الحق والتعدي على الخلق ما قد يكون بعضه خطأ مغفورا، وقد يكون منكرا من القول وزورا، وقد يكون من البدع والضلالات التي توجب غليظ العقوبات، فهذا لا ينكره إلا جاهل أوظالم، وقد رأيت لهذا عجائب.
لكن هم بالنسبة إلى غيرهم في ذلك كالمسلمين بالنسبة إلى بقية الملل، ولا ريب أن في كثير من المسلمين من الظلم والجهل والبدع والفجور ما لا يعلمه إلا من أحاط بكل شيء علما، لكن كل شر يكون في بعض المسلمين فهو في غيرهم أكثر، وكل خير يكون في غيرهم فهو فيهم أعلى وأعظم، وهكذا أهل الحديث بالنسبة إلى غيرهم).
وهذا النقد الصريح والواضح من شيخ الإسلام ابن تيمية الذي هو من علماء أهل الحديث وأئمتهم لهذه المخالفات عند بعض أهل الحديث يبين أهمية تصحيح المنهج، وإعلان البراءة مما قد يشوبه من الخلل، وأن الانتصار مطلقا إنما يكون للحق من كل من جاء به، وأن من خالف الحق لم يقبل قوله مهما تكن منزلته ومكانته.
وهذا المبدأ لو صدقت جميع الطوائف في العمل به والسعي لتصحيح ما يقع لطوائفهم من مخالفات لكان ذلك سببا لاجتماع كلمتهم ونبذ خلافاتهم، وإنما يمنعهم من ذلك التعصب واتباع الهوى والتحزب الجاهلي والبغي والعدوان على المخالف، وفي مثل هذه الأحوال يضيع صوت الساعي لجمع الكلمة ونبذ الخلاف وتوحيد الصف ويذهب سدى.
ولا والله ما تميز الحق من الباطل، وما قامت الحجة على مخالف، مع التقليد الأعمى والتعصب واتباع الهوى، وإنما يذوق طعم اليقين من ألزم نفسه الصدق مع الله واتباع الحق إذا ظهر له، وأن يكون رضا الله عنده مقدما على رضا الناس مهما كانوا وممن كانوا.
وما أكثر ما تجده من المخارج والتعسفات عندما ينتقل الأمر من التنظير إلى التطبيق على واقع الأمة اليوم، فما أسهل أن تنادي بالمباديء وما أصعب أن تنقلها إلى واقع الناس.
وانظر كيف أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لم ينسب تلك المخالفات لسائر أهل الحديث وإنما نسبها لبعضهم، كما لم يكتف بذكر ما رآه من مخالفات، وإنما أردفه ببيان منزلة أهل الحديث بين طوائف الأمة، وأن حالهم بين تلك الطوائف هو كحال المسلمين بين غيرهم من أهل الملل.
وبهذا التقرير على هذا الوجه تحقق العدل والإنصاف والجمع بين حماية منهج السلف من أن ينسب له ما ليس منه، وبين عدم المبالغة في بيان قدر المخالفة لمنهج السلف من بعض أتباعه حتى يؤثر ذلك على تفرد منهجهم واستقلالهم بالحق عن جميع الطوائف الإسلامية.