ألا تحب أن تستأثر يصديق، بحيث تحس أنه لك، وأنك أعز الناس عليه، فلن ينشغل بغيرك عنك؟ ألا تحس بقيمة هذا الصديق المآزق؟ أظنك لاحظت أن مجرد بث همومك لهذا الصديق المتفهّم لك والحريص عليك يشعرك بالراحة وتنفيس الهم.
قلت لأخي الأكبر مرة: هل معك ربع ساعة لأكلمك في مشكلة؟
فأجاب: "أنا كلي لك"! غمرتني هذه الكلمات وأنِست بها
هكذا نحن.. نحب أن نستأثر بمن يتفهمنا ويعيش معنا آلامنا وآمالنا.. مجرد وجوده مصدر طمأنينة لنا.. فكيف إذا كان قادرًا على حل مشكلاتنا؟! كم ستسقر نفوسنا حينئذ؟
شعور المزاحمة
في المقابل، قد تحس بالضياع عندما يزاحمك على هذا الصديق آخرون.. تخشى أن يشغلوه عنك. قد يعرف هذا الشعور من له إخوة كثيرون يزاحمونه على أب واحد، من لها ضرة تزاحمها على زوج واحد، من له زملاء يزاحمونه على معلم واحد.. لم يعد الأب أو الزوج أو المعلم لك أو لكِ أنت وحدك.. فقد تُنسى أو تُنسين في زحمة الآخرين!
فتش نفسك!
هل تسرب إليك شعور كهذا تجاه: ربك سبحانه وتعالى؟!
لا أسألك عن قناعتك العقلية، فهي تأبى ذلك ولا شك.. لكن الإنسان قد يختزن في باطن شعوره هواجس تسبب له قلقا فلا يدري مصدره، ومنها هذا الهاجس.. أنك ضعت أمام الله وسط الزحام!
مع الله.. لن تضيع وسط الزحام
إليك حقيقة مؤنسة مطمئنة: الله سبحانه وتعالى مطلع عليك، قريب منك، يعلم بهمك، ويسمع دعاءك، ويفرح بتوبتك، ويدبر أمرك.. كل هذا كما لو كنت وحدك في هذا الكون لا يشركك فيه إنس ولا جان! ألم تر إلى قوله تعالى "مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ ۗ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ" .. قال ابن كثير "سميع لأقوالهم بصير بأفعالهم كسمعه وبصره بالنسبة إلى نفس واحدة"
كذلك في الحديث القدسي "يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته لم ينقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر"
فسبحان من لا يشغله سائل عن سائل، ولا مستغيث عن مستغيث "سَوَاءٌ مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ" .. فلا يضيع عنده أحد وسط الزحام!
كأنك تدعو الله وحدك..
لن تضيع في الزحام.. بل لك أن تتصور كما لو أنك تدعو الله وحدك، وأنه يسمعك وحدك.. وأن معاني أسماء من أسماء الله الحسنى تتجلى في ربوبيته لك أنت كما لو كنت وحدك.. فيظهر فيك آثار رحمة الله وقربه وعفوه ولطفه وكرمه وحلمه ومغفرته وإجابته وودّه وهدايته وبرّه ورأفته ورزقه وكفايته وستره ورفقه وعطائه..
يظهر وسيظهر فيك هذا كما لو كنت وحدك في هذا الكون.. لذا، فلن تضيع في الزحام
أجيب دعوة الداع
لاحظ كيف أن الله تعالى أفرد كلمة (الداع) في قوله "وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ".. ففي هذا الإفراد من الإشعار بالعناية بدعائك أنت ما قد لا يكون في الجمع (الداعين إذا دعوني)..
ليست استجابة مجملة عامة لمجموع الداعين بحيث تجزئ استجابته لأكثرهم عن الاستجابة لأفرادهم فردا فردا.. بل يجيب دعوتك أنت كما لو كنت وحدك، ولو دعاه تعالى معك في اللحظة نفسها مليارات بل ما لا يُحصى من الإنس والجن والملائكة.
كذلك قوله تعالى "أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ".. كل مضطر على حده كما لو كان وحده.. "وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا".. سبحانه فهذا شأنه " وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ"
فادع الله وارجه وأنس به وتأمل في نفسك آثار أسمائه وصفاته واستحضر معيّته كما لو كنت وحدك..
وتذكر دومًا: لن تضيع وسط الزحام.
المصدر:
- د. إياد قنيبي، حسن الظن بالله، ص107