مناظرة الباقلاني مع ملك الروم ج2

مناظرة الباقلاني مع ملك الروم ج2 | مرابط

الكاتب: القاضي عياض

2126 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

قال القاضي: فنهضنا إلى موضع أُعدّ لنا..

وذكر أبو بكر البغدادي الحافظ: أن القاضي، لما وصل إلى مدينة الطاغية، وعرّف به وبمحله من العلم، فكر الطاغية في أمره، وعلم أنه لا يكفر له إذا دخل عليه- كما جرى رسم الرعية أن يقبل الأرض بين يدي ملوكها- فرأى أن يضع سريره، وراء باب لطيف، لا يمكن أن يدخل أحد منه إلا راكعًا، ليدخل القاضي من ذلك الباب.

فلما رآه القاضي، تفكّر وأدار رأسه، وحنى رأسه راكعًا، ودخل من الباب يمشي مستقبلًا الملك بدبره، حتى صار بين يديه. ثم رفع رأسه، ونصب ظهره. ثم أدار وجهه إلى الملك حينئذ، فعجب من فطنته، ووقعت له الهيبة في قلبه.

قال غيره: قال القاضي: فلما كان يوم الأحد، بعث الملك في طلبي، وقال: من شأن الرسول حضور مائدة الملك. فنحب أن تجيب إلى طعامنا ولا تنقض كل رسومنا.

فقلت لرسوله: أنا من علماء المسلمين، ولست كالرسل من الجند وغيرهم، الذين لا يعرفون ما يجب عليهم في هذا الموطن. والملك يعلم أن العلماء لا يقدرون أن يدخلوا هذه الأشياء، وهم يعلمون، وأخشى أن يكون على مائدته من لحوم الخنازير، وما حرمه الله تعالى على رسوله، وعلى المسلمين؟

فذهب الترجمان، وعاد إليّ وقال: يقول لك الملك: ليس على مائدتي، ولا في طعامي شيء تكرهه. وقد استحسنت ما أتيت به، وما أنت عندنا كسائر الرسل، بل أعظم، وما كرهت من لحوم الخنزير، إنما هو خارج من حضرتي بيني وبينه حجاب.

فنهضت على كل حال. وجلست وقدّم الطعام، ومددت يدي وأوهمت الأكل، ولم آكل منه شيئًا مع أني لم أرَ على مائدته ما يكره. فلما فرغ من الطعام، بخّر المجلس وعطّره، ثم قال: هذا الذي تدعونه في معجزات نبيّكم من انشقاق القمر، كيف هو عندكم؟

قلت: هو صحيح عندنا، وانشقّ القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى رأى الناس ذلك. وإنما رآه الحضور، ومن اتفق نظره إليه في تلك الحال.

فقال الملك: وكيف لم يره جميع الناس؟

قلت: لأن الناس لم يكونوا على أهبة ووعد لشقوقه وحضوره.

فقال: وهذا القمر بينكم وبينه نسبة وقرابة؟ لأي شيء لم تعرفه الروم وغيرها من سائر الناس، وإنما رأيتموه أنتم خاصة؟

قلت: فهذه المائدة بينكم وبينها نسبة؟ وأنتم رأيتموها دون اليهود، والمجوس والبراهمة، وأهل الإلحاد، وخاصة يونان جيرانكم، فإنهم كلهم منكرون لهذا الشأن، وأنتم رأيتموها دون غيركم.

فتحيّر الملك وقال بكلامه: سبحان الله، وأمر بإحضار فلان القسيس ليكلمني.

وقال: نحن لا نطيقه. لأن صاحبه قال: ما في مملكتي مثله، ولا للمسلمين في عصره مثله.

فلم أشعر إذ جاؤوا برجل كالذئب أشقر الشعر مسبله، فقعد، وحكيت له المسألة فقال: الذي قاله المسلم لازم، هو الحق لا أعرف له جوابًا إلا ما ذكره.

فقلت له: أتقول إن الكسوف إذا كان، يراه جميع أهل الأرض أم يراه أهل الإقليم الذي بمحاذاته؟

قال: لا يراه إلا من كان في محاذاته.

قلت: فما أنكرت من انشقاق القمر، إذا كان في ناحية لا يراه إلا أهل تلك الناحية، ومن تأهب للنظر له؟ فأما من أعرض عنه، وكان في الأمكنة التي لا يرى القمر منها فلا يراه.

فقال: هو كما قلت. ما يدفعك عنه دافع. وإنما الكلام في الرواة الذين نقلوه. وأما الطعن في غير هذا الوجه، فليس بصحيح.

فقال الملك: وكيف يطعن في النقلة؟

فقال النصراني: شبه هذا من الآيات، إذا صح، وجب أن ينقله الجم الغفير، إلى الجم الغفير، حتى يتصل بنا العلم الضروري به، ولو كان كذلك، لوقع إلينا العلم الضروري به. فلما لم يقع لنا العلم الضروري به، دلّ أن الخبر مفتعل باطل.

فالتفت الملك إليّ وقال: الجواب.

قلت: يلزمه في نزول المائدة، ما يلزمني في انشقاق القمر، ويقال له لو كان نزول المائدة صحيحًا، لوجب أن ينقله العدد الكثير، فلا يبقى يهودي ولا نصراني ولا ثنوي إلا ويعلم هذا بالضرورة. ولما لم يعلموا ذلك بالضرورة، دلّ أن الخبر كذب.

فبهت النصراني والملك، ومن ضمه المجلس. وانفض المجلس على هذا يديه. ثم رفع رأسه، ونصب ظهره. ثم أدار وجهه إلى الملك حينئذ، فعجب من فطنته، ووقعت له الهيبة في قلبه.

 


 

المصدر:

  1. القاضي عياض، ترتيب المدارك وتقريب المسالك، 486/1
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.
اقرأ أيضا
تأثير الإسلام في أحوال النساء في الشرق | مرابط
تاريخ

تأثير الإسلام في أحوال النساء في الشرق


والإسلام قد رفع حال المرأة الاجتماعي وشأنها رفعا عظيما بدلا من خفضها خلافا للمزاعم المكررة على غير هدى والقرآن قد منح المرأة حقوقا إرثية أحسن مما في أكثر قوانيننا الأوربية كما أثبت ذلك حينما بحثت في حقوق الإرث عند العرب أجل أباح القرآن الطلاق كما أباحته قوانين أوربة التي قالت به ولكنه اشترط أن يكون للمطلقات متاع بالمعروف...

بقلم: جوستاف لوبون
292
مسارات دراسة الدين من منظور جندري | مرابط
النسوية الجندرية

مسارات دراسة الدين من منظور جندري


وفي الغالب ما تعنيه النسويات بالأديان لا يتضمن بالضرورة فكرة النبوة والاعتقاد الحقيقي بوجود إله خالق للكون ولكنه بشكل أكبر يحيل إلى الجانب الروحاني من الوجود البشري المتضمن داخل تجارب الأفراد وبذلك يكون الحديث عن إعادة بناء الأديان أو تأسيس أديان خاصة متعارضا بشكل كامل مع المعنى المعروف للأديان والنبوة

بقلم: الحارث عبد الله بابكر
719
شبهة حول تحريم المعازف | مرابط
فكر مقالات

شبهة حول تحريم المعازف


هل القول بتحريم المعازف وعدم الاعتداد بخلاف من خالف فيها هو من الغلو في التحريم عند بعض العلماء المعاصرين نظرا لما في هذه الطريقة من إنكار اعتبار الخلاف كما يقرر بعض الناس في هذا المقال يرد الدكتور فهد بن صالح العجلان على هذا السؤال ويناقش مسألة المعازف بشكل مختصر

بقلم: فهد بن صالح العجلان
2346
واجبنا تجاه ما أخبر به الله ورسوله | مرابط
تفريغات

واجبنا تجاه ما أخبر به الله ورسوله


فعلى العبد أن يؤمن بكل ما أخبر الله به ورسوله من أسماء الله وصفاته على الوجه الذي يليق به سبحانه لا يشابه خلقه في شيء من صفاته فنؤمن بذلك على الوجه الذي يليق به سبحانه ليس له مثيل ولا نظير ولا كفء ولا ند جل وعلا فعلمه كامل ليس كعلمنا وقدرته كاملة ليست كقدرتنا وبصره كامل ليس كبصرنا وهكذا بقية صفاته سبحانه وتعالى وهكذا يسمع ويبصر ليس كسمعنا وبصرنا بل هو أكمل وأعظم

بقلم: ابن باز
364
من مقومات المجتمع المسلم: اتباع السنة | مرابط
فكر تفريغات

من مقومات المجتمع المسلم: اتباع السنة


كان السلف الصالح رضوان الله عليهم ينكرون أشد الإنكار على ما ظهر من بدع في أيامهم كما أنكر عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه على بدع في التسبيح فعلها بعض القراء ثم لما ظهرت الفرق المبتدعة وتميز أهل السنة رأينا كيف كانت عقوبتها

بقلم: سفر الحوالي
431
تعليل الأحكام: بين مقام التسليم واتباع الهوى | مرابط
أباطيل وشبهات تعزيز اليقين

تعليل الأحكام: بين مقام التسليم واتباع الهوى


لا يتوقف الانقياد للأمر الشرعي على البحث عن الحكمة أو العلة أو غير ذلك من التفاصيل التي غرق فيها المعاصرون وإنما مجرد ثبوت الأمر عن النبي كان كافيا جدا للامتثال والتنفيذ ولكننا اليوم نرى المسلم يكسر قاعدة التسلم بدعوى مخالفة الرأي أو عدم ثبوت الحكمة أو غير ذلك ويتجاهل أن اختبار تسليم العبد من ضمن مقاصد الشريعة الواضحة

بقلم: محمود خطاب
719