هذا الكتاب تقريبًا يدور على ثلاثة موضوعات أساسية لكنها طويلة: الموضوع الأول: حقيقة العبودية الشرعية، تحدث عنها المؤلف في بداية الكتاب في سبع صفحات تقريبًا، وشيخ الإسلام رحمه الله -من سعة علمه- كثيرًا ما يستطرد، يعني: أحيانًا يبدأ في موضوع، ثم يدخل في موضوع آخر، ثم يعود إلى الموضوع الأول الذي بدأ فيه، وهذه الاستطرادات أحيانًا تكون متعلقة بنفس الموضوع لكن لها زاوية أخرى، فهو من بداية الكتاب بدأ في بيان حقيقة العبودية الشرعية، ثم انتقل إلى موقف الصوفية من العبودية، وتحدث عنها في أربع عشرة صفحة تقريبًا، ثم رجع مرة أخرى إلى موضوع حقيقة العبودية الشرعية وتحدث عنها في ست صفحات، ثم انتقل إلى موضوع جديد وهو العبودية لغير الله وتحدث عنه في ثمان وعشرين صفحة تقريبًا، ثم رجع إلى موضوع الصوفية ونقد التصوف إلى أن انتهى من الكتاب.
إذًا: يلاحظ أن ابن تيمية في جوابه على السؤال المتعلق بالعبودية بدأ في بيان حقيقة العبودية الشرعية، ثم انتقل إلى موقف الصوفية من العبودية، وبالذات في موضوع الإرادة الكونية، والإرادة الشرعية، والعبودية الاضطرارية والعبودية الاختيارية وسيأتي الحديث عنها في مكانها، ثم رجع مرة أخرى إلى موضوع العبودية الشرعية، ثم انتهى إلى قوله: فصل، ولما بدأ بفصل بدأ في العبودية لغير الله، وأخذ يتحدث عن العبودية لغير الله، وذكر دقائق في التعبد لغير الله حتى في أمور مكروهة، يعني: أحيانًا التعبد لغير الله عز وجل قد يكون تعبدًا تامًا يخرج صاحبه من الإسلام، وأحيانًا يكون تعبدًا ناقصًا يكون صاحبه آثمًا، مثل من يطيع هواه وشهوته في معصية الله عز وجل فهذا نقص في العبودية، هذا اتخاذ للأهواء إلهًا لكنه ليس كفرًا مخرجًا عن الإسلام، فالله عز وجل يقول: "أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ" [الجاثية:23].
الشخص الذي يجعل هواه إلهًا يعني: يطيع هواه، ويعصي الله عز وجل، وهذا نوع من العبودية لغير الله لكنه ليس مخرجًا عن الإسلام كما سيأتي بيانه.
بل إن ابن تيمية رحمه الله ذكر مسائل في غاية الدقة فيما يتعلق بالعبودية لغير الله حتى في المسائل المكروهة، ولهذا قال: والأصل في مسألة الخلق أنها محرمة واستثنيت للحاجة كما سيأتي بيانه، يعني: حتى لو أن إنسانًا مثلًا فقيرًا يأتي إلى المسجد ويقف ويسأل الناس ويطلب منهم، ويفتقر إليهم، فإن هذا نوع من الحاجة للخلق، والواجب أن يسأل الله عز وجل، ولهذا أخبر الله عز وجل عن الصحابة أنهم: "يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ" [البقرة:273]، يظنهم أغنياء وهم من أفقر الناس، قد يمر على الشخص شهر كامل لا يجد ما يأكله، وإنما يكون عنده الأسودان، كما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها، والفقر ليس عيبًا في حد ذاته، لكن العيب عندما يكون الفقر سببًا في أن يكون الإنسان ذليلًا للخلق، ولهذا نقل أن السلف كان إذا سقط سوط أحدهم لم يقل لأحد: ناولنيه، بل ينزل بنفسه ويأخذه، وهذه من المقامات الدقيقة في موضوع العبودية، ثم عاد مرة أخرى إلى موضوع موقف الصوفية من العبودية.
المصدر:
محاضرة رسالة العبودية لعبد الرحيم السلمي