المدخل إلى فهم إشكالات ما بعد السلفية ج1

المدخل إلى فهم إشكالات ما بعد السلفية ج1 | مرابط

الكاتب: فهد بن صالح العجلان

1058 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

حين أخبرني أخي وصديقي الشيخ الفاضل "أحمد سالم" عن كتاب "ما بعد السلفية" وكان يتوقع رفضًا واسعًا للكتاب، أبديت مخالفتي لهذا التوقع، وأن مثل هذا النقد سيكون متقبلًا عند التيار الأوسع من السلفيين، كنت أرى أن مثل هذا النقد من كاتبين فاضلين سيكون له أثر إيجابي، فالنقد حينها لن يخرج عن حقٍ ظاهرٍ يستفاد منه، أو إثارة مسائل اجتهادية تكون محلًا لوجهات نظر متقاربة، أو في أقل الأحوال خطأ مردود، هو من قبيل الزلات التي لا يسلم منها أحد.

لحظة ما وصلني الكتاب بدأت متلهفًا بقراءته، قرأته بشكل دقيق فاحص، شعرت بعد الانتهاء منه أنني كنت ساذجا ًجدًا حين ظننتُ أن مثل هذا النقد سيحدث أثرًا إيجابيًا، أو من الممكن أن تتقبله أكثر النفوس، أو أن يكون الفضاء الذي سيحدثه فضاءً صحيًا.

ما السبب في ذلك؟

السبب هو في الروح التي كتب بها هذا النقد، وحكمت سياقاته، وسيطرت على الكتاب من أوله حتى آخره، فهذه الروح لم تتمحض عن روح طالب العلم الشرعي الذي يستحضر أنه يحرر أصولًا وكلياتٍ شرعية، مما يستدعي وضوحًا في تجلية الأصول الشرعية، ولغة بينة في رسم الفوارق بين الحق والباطل، والسائغ وغير السائغ.
هذه الروح تستدعي أيضًا صرامة علمية متأنية، خاصة حين تتجاوز حدود نقد المسائل إلى تأريخ للأفكار والاتجاهات والتيارات.

وهذه الروح حين تنتقد فإنها تقدم مشروعها في ثوب الناصح المشفق، المكمل لإخوانه، الذي يقدر جهودهم ويسعى لتكميل نقصها، ويراعي الحكمة والمصلحة في سبيل إصلاح ما يراه من عوج.

القصور والمزاحمة لمثلث أركان هذه الروح العلمية "الوضوح الشرعي، الصرامة العلمية، النصح الأخوي" كان سببًا لكافة الإشكالات التي حملها هذا الكتاب، ونجدها حاضرة من أول الكتاب إلى آخره.

وسيتضح أوجه الخلل والمزاحمة لهذه الأركان في الفقرات التالية:

 

(1) النقد بين مسلكين:

كنت أقرأ في صفحة أخي الشيخ أحمد في برنامج الآسك فأجده يكتب:
"ولو كان قول ما يراه الإنسان حقًا يترك لشيء = لتركته كرامة لصحبة أخشى فقدها، لكن الحق أمانة، وإذا لم يوجد من يقوم به=لم يجز تركه لوجه أحد من الناس"
يشدك مثل هذا الكلام، وتعجب بروح الصدق والنصح والأمانة وتحمل الأذى في سبيل ذلك.
لكنني أجد صعوبة بالغة في كيفية تنزيل مثل هذا على كتاب ما بعد السلفية!

فالنقد الشرعي الذي يحمد، ويكون من القيام بالحق الذي يتهيأ الإنسان لتحمل الأذى في سبيله، يمكن أن يوضع في درجات:
1- مسائل الشرع الظاهرة التي يبين فيها الإنسان الحق للناس، ويصدع بدلائل الكتاب والسنة ، ويمكن أن يدرج ضمنها أيضًا المسائل الاجتهادية لأنها من بيان الأحكام، وإن كانت درجة بيانها ليست كسابقتها، فقد يترك الشخص بيانها مراعاة لمصالح كثيرة.


2- الإنكار العملي على المنكرات والمظالم والمحرمات، فهو من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو إنكار يوجه لكل أحد، ويمكن أن يلحق به الإنكار في المسائل الاجتهادية أو المحتملة لأنها من جنس الإنكار المشروع، وإن كان أمرها في الصدع والبيان أهون، فهي تتبع المصلحة وقد يكون من المشروع تركها في أحوال.

السؤال هنا: هل ما في كتاب ما بعد السلفية هو من هذين النوعين؟
نعم، يوجد في الكتاب نقد متعدد هو من هذين النوعين، ويحمد عليه الشخص، ويثاب على ما يصيبه من أذى في سبيله.
لكن، هل الإشكال في الكتاب الذي أحدث النفور والخصام هو النقد المتعلق بهذين النوعين؟
رأيي بكل وضوح، لا.

فالنقد المشكل في الكتاب ليس هو من قبيل النقد الشرعي الذي يحتسب الإنسان الأجر فيه، ويرى أن الصدع به هو مما لا مندوحة له عنه.
حين تخوض مثلًا في تحليل شخصيات الناس، فتتبسط في الحديث عن الشيخين عبد الرحمن البراك وناصر العمر و"أن كل محاولات الدفع بالرجلين لتسنم هذا المنصب لم تنجح" و "لم ينجح تسويق الرجلين في صناعة رمزية مجتمعية لهما لعوامل ذاتية" و"أدوات الرجلين والخصائص الحديثة للتسويق الإعلامي وخصائص كاريزما الشخصية لم تساعد الرجلين" الخ ما قيل في هذا السياق فقط.
وحين توزع أحكامك الذاتية على الشخصيات: بالفقر المعرفي، وضعف الإطلاع، والسطحية، وتواضع الأدوات، والمحافظة، الخ.

وحين تأتي لتيارات واسعة فتتحدث بازدراء عن مستوياتهم الفكرية، وحدود اطلاعهم، وترسم خرائط مشوهة لحركة أفكارهم وتأثيرهم، هل هذا من النقد الشرعي الواجب الذي يخشى المرء من عاقبة كتمانه؟

غاية ما في هذا من الناحية الفقهية إن سلم من الإثم والتعدي أن يكون من فضول البحث والنظر، فليس هو من قبيل النقد الشرعي الذي تتغيا به رضا الله وتحتسب الأجر في سبيله.
فثم تمييز واضح في المسلك الفقهي بين مساحة النقد المحمودة شرعًا، وبين الممارسة النقدية التي سار عليها الكتاب، ولا يزيل الإشكالية عنها أن تقدم في قالب "تاريخ الأفكار"، فالكتاب هنا ليس مجرد ناقد للفكرة، ينقل الفكرة الخطأ ويصححها، فهو لا ينقل الواقع فقط، وإنما يصور لك هذا الواقع.

فالعمل هنا تحت مسمى مؤرخ الأفكار ليس عملًا محايدًا وموضوعيًا، فهو لا ينقل الحقيقة كما هي، إنما تتأثر الصورة التي يرسمها بانطباعته واهتماماته، وبالصور الأكثر تركزًا في ذهنه، وتتأثر أيضًا بالهدف الذي يريد الوصول إليه من هذا الإطار، فالهدف ليس نتيجة بريئة يستخرجها بعد الانتهاء من رسم المشهد، بل هي دافع ومحرك أساسي لكيفية وضع الإطار ورسم الصورة لمشهد الأفكار.

إذن، فالموضوع ليس مجرد صدع بالحق في مسائل شرعية، ومن لا يتقبل نقده أو يتحفظ منه أو يستفزه موقفه يكون رافضًا للنقد!
لسنا أمام تصحيح لمسائل، وبيان لأحكام شرعية، وإعلان لكلمة الحق، إنما مع كتابة ترسم مشهدك العلمي والثقافي والإصلاحي، وتتلمس أدوات تفكيرك، وتتحسس دوافعك، وتقدمك في أشكال نمطية معينة، فمن الطبيعي حينها أن يكون موقف أي تيار متحفظًا جدًا من هذا، وسيكون مغفلًا غاية الاستغفال من يقبل مثل هذا على أنه من قبيل تصحيح التصورات والنقد البناء الإيجابي!

فالكتابة النقدية بهذه الروح تبتعد عن الروح النقدية لطالب العلم الشرعي في أمرين:
1- أن طالب العلم الشرعي يركز بشكل أساسي على القضايا الشرعية، والأخطاء المنهجية، التي يراها مخالفة للشريعة، أو أن ثم ما هو أصلح منها.
2- أن طالب العلم الشرعي يميز بين القضايا، فالقضايا ذات الأولوية الشرعية يصدع بها ويحتمل الأذى في سبيلها، وأما ما عداها فإنه يراعي الأصلح والأنفع وما يجمع القلوب، فهو لا يجعل النقد غاية في حد ذاته، ، بله أن يجعل ذلك مما يجدد به للأمة سلفيتها!

وهاتان الدرجتان لا تثير افتراقًا ولا نزاعًا، إنما النزاع يدخل مع التوسع الذي خلف ذلك، وهو مما لا يقال فيه أنه من قبيل كلمة الحق التي يخشى الإنسان على نفسه من الإثم لو تأخر في بيانها أو عدل عن شيء منها.

من الطبيعي حينها أن نقدًا كطريقة نقد هذا الكتاب سيكون محل اختلاف وافتراق، ومحدثًا للتقاطع والتدابر، وسيثير الكثير من التجاوزات، وهي منكرات لا شك فيها، لكن من ينكرها يجب أن لا ينسى أن تاريخ أفكار هذه الخصومات نشأ بسبب هذه إشكاليات هذه القراءة التي تخففت عن الروح الشرعية في وضوحها وموضوعيتها ونصحها.

هذه الخصومة والافتراق لم تكن لتقع لو أن النقد كان متحركًا وفق الموازين الشرعية، فالنقد الشرعي القائم على النصح، الذي يهدف لتقويم الخلل، وإرادة الخير للغير، ومراعاة المصلحة، ودفع المفسدة، وجمع القلوب، وغيرها من المصالح التي لا تغيب عن روح طالب العلم، لا يحدث غالبًا شيئًا من هذه الإشكالات.

وهو أمر كان مستحضرًا في ذهن أخينا الشيخ أحمد حيث كتب:
"أحد العيوب الأساسية أن تجريده للنقد وجمع هذا الحشد كله من مجالات النقد سيجعله أشبه باللوم منه بتشخيص المرض أو العلاج، ولا شك هذا سيؤذي السلفيين وربما يستفزهم استفزازًا يحول بينهم وبين الانتفاع منه، وربما كان الأفضل لو خرج على أجزاء، وساعتها كانت ستوفى حقها أكثر، الموضوع كذا عامل زي اللي اتخانق مع امراته فجمع لها القديم والجديد، هذا إشكال نعترف به لكننا للأسف لم نكن مستعدين لتأجيل النقد ولا لتفريغ أعمارنا لبسط جزئيات النقد فلدينا مشاريعنا"

ولي أن أسجل هنا علامة تعجب كبيرة، فحين يكون الأمر بهذه الحيثية من وجود طريقة أنفع وأصلح، مع إقرار تام بكون هذه الطريقة ستستفز الناس بما يحول بينهم وبين الانتفاع به، ومع ذلك، تترك مثل هذه المصالح الظاهرة بسبب انشغال الشخص بمشاريعه الخاصة!

هذا كله طبعًا على التسليم بحيادية مؤرخ الأفكار، وأما حين ندخل في التفصيلات أكثر ونفحص الصور والرسومات التي وضعت فيها التيارات السلفية سيتبدى بوضوح حالة كثير من أشكال التهاون والتنميط ، وقد ساهم أخونا الشيخ مشاري الشثري في تجلية ذلك في مقالتيه المميزتين.

حين تصف التيارات السلفية بالأوصاف التالية:
"إن كل حسابات التيار الإسلامي التي يسميها تقليلًا للشر هي حسابات مادية لا تحسب حساب الخسائر المعنوية التي يتعرض لها التيار وتتعرض لها العامة وكثير مما يستعملون فيه التعريض والتورية ويتكئون فيه على الإجمال=يزرع بذور فساد عظيمة ولم يدخلهم في هذه المهالك إلا إرادة التوسع وإثبات الوجود" 506
"نضرب مثالًا على فقر المجال السلفي التداولي في إدراك ذلك التفريق" 432
"لطلبة العلم السلفيين الذين يتسمون بالفقر الكامل في علوم الآلة والفقه المتني القديم" 647
"تجسيد للخلل الفقهي السلفي الذي سبق الكلام حوله، المفتقر للتحليل والتفصيل، المائل الى البساطة والتوضيح، قليل التفعيل للنظر المصلحي" 413
"فالفقه السلفي يعرف فتوى مثل جواب على سؤال هل يجوز لإنسان أن يلعب أي لعبة مع إنسان يرتدي سروالًا قصيرًا؟" 376
"الإشكال حقًا أن كثيرًا من الملتزمين يعاملون الناس معاملة الخوارج" 603
"فالسلفيون لا يولون اهتمامًا كافيًا بالأصول ولا بالعربية ولا التفسير مع ضعف عام في الاطلاع بما في ذلك على أقوال السلف السابقين لإثبات الخلاف والإجماع" 357
"الاشتغال بالكتب والمتون الفقهية التي لا يفهمها أغلب السلفيين" 373
"النفور من الاختلاف وخلط الاختلاف السائغ بغير السائغ، وتضييق الخلاف السائغ=كل ذلك من محدثات السلفية المعاصرة، وإن كانت لا تخلو منه نماذج التعصب عبر التاريخ، إلا أن شيوعه وتأسيسه علميًا يعد سمة من سمات السلفية المعاصرة على تباينات وفروق واستثناءات" 305

لا أريد هنا مناقشة هذه السياقات، ولا تقييمها وبيان ما فيها، إنما هدفي شرح كيفية توظيف فلسفة تاريخ الأفكار في تقديم صورة نمطية قاتمة عن التيارات السلفية، ومن الطبيعي جدًا أن التيار السلفي لن يقبل هذا التشويه والتنميط، وسيكون محكم الغفلة لو قبل مرور ذلك بدعوى احترام النقد وتقبله، بله أن يصدق أن هذا من قبيل قول كلمة الحق وأن ما يحدث من خصومات تالية هي ضريبة كلمة الحق، التي تقع على مؤرخ الأفكار الذي رضي أن يتحمل الأذى في سبيل ذلك كما ضحى أئمة الإسلام من قبله!

بل زاد حد التنميط إلى مستوى غير معقول، فوصل إلى القول أن:
"السلفي ينزل كل ذنب في الدين بمنزلة أعظم ذنب فيه، فالحليق والمدخن والمقصرة في حجابها كل هؤلاء عنده من جنس المنافقين والزناة والسكارى إن لم يكن بلسان المقال فبلسان الحال" 600
وما ظننت أن البغي والفجور في الخصومة يصل بالأخوين الكريمين إلى هذا التجني العظيم، الذي يحلف الإنسان بأغلظ الإيمان أنه موغل في الإسراف الكاذب والظلم والتشويه على تيار عريض من المسلمين، وهو من البغي المسرف الذي يحتشم عنه كثير من خصوم السلفية والإسلاميين.

إذا كان السلفي في ذهن مؤرخ الأفكار لا يميز بين الزنا وشرب الدخان، ويعامل من يقع في أي معصية معاملة المنافقين والسكارى والزناة.
فإذا كان هذه صورة السلفي في ذهن مؤرخ الأفكار، في مثل هذه القضية البدهية التي يخجل الإنسان من التورط بمثل هذا الكلام فيها، فكيف سيكون حال الإنصاف والموضوعية والنزاهة حين تأتي الأبواب التي يحتاج مؤرخ الأفكار فيها إلى الكثير من البحث والمقارنة والتروي حتى يكون محققًا للوظيفة الواجبة في مهمة مؤرخ الأفكار!

هذا ليس مجرد نقد، ولا بيانًا لحق، ولا حتى تشخيصًا لواقع، بل هو قالب محدد يشوه الإنسان ولا يمكن أن يقبله عاقل، خاصة أنك تتحدث عن تيارات ممتدة شرقًا وغربًا، و لسنوات طويلة، وتجمع من الشخصيات والمواقف والأحداث ما لا يمكن حصره، فأي نقد بعد هذه الحيثية بمثل هذه الطريقة هو نقد انتقائي انطباعي يقولب هذه التيارات بدعوى تاريخ الأفكار في شكل معين، فإن سلم من الظلم والبغي فلن يسلم من إشكالية التنميط في صورة معينة لا تقبلها النفوس عادة، وليست هي من قبيل النقد الشرعي في شيء.

لهذا نجد الكتاب وضع لنفسه معيارًا يجيز له نسبة أي أمرٍ شائع عند السلفيين إلى السلفية المعاصرة وإن لم يكن غالبًا:
"معظم صيغ التعميم في الكتاب هو التعبير عن نمط سائد منتشر في السلفية وإن لم يكن مستغرقًا ولا حتى غالبًا" 14

إذن، لماذا نُسب إلى التيارات السلفية المعاصرة ما كان شائعًا مما هو معيب، ولم ينسب لها ما هو شائع مما هو حسن؟
فكل صفة تكون شائعة وهي سيئة سيوجد مثلها مما هو حسن شائع فلماذا ينسب الأول دون الثاني؟
وعلى هذا المعيار فيمكن أن يقال إن ما ينسبه نقاد الإسلام والمسلمين هو صحيح من جهة أنهم ينسبون تصرفات موجودة ولها حضور شائع ليس بالغالب، فيكون قولهم مقبولًا علميًا لا غبار عليه، ولا حاجة أن تعترض عليّ بأن ثم دراسات كثيرة تكذب وتشوه على المسلمين لأنني أتحدث عن نمط شائع في هذه الدراسات يشوه المسلمين بنسبة ما هو شائع فيهم فقط، فصيغ التعميم في خطابي صحيحة!

فهذا المعيار غير علمي أبدًا، وليس من العدل في شيء أن تنظر في أي اتجاه فتنسب لهم أي شيء شائع، إذ معنى هذا أنك تستطيع أن تنسب لأي تيار الخير والشر جميعًا، والذكاء والغباء، والجد والكسل، وهكذا، لأنها شائعة ضرورة في أي تجمع بشري.

 

(2) الجرأة غير المحمودة:

هذه الروح الجديدة في النقد لم تجد حرجًا أن تصف إمام المسلمين أحمد بن حنبل بأنه وقع في بغي ترتب عليه بغي أوسع:
"وقد قاد هذا البغي إلى بغي واسع بعد وفاة أحمد" 95

استحضر أولًا أن هذه المسألة ليست من مسائل الشرع أساسًا، فكون الإمام أحمد وقع في بغي أم لم يقع، لا يبنى عليه حكم شرعي أو بيان لحق أو دفع لباطل، بل هو نسبة ذم لإمام لأجل حدثٍ تاريخي.
ثم لو أبينا إلا أن نصف الإمام بهذا فيمكن أن يقال: أخطأ الإمام، أو كان الحق في خلاف موقفه، أو لو أنه اتخذ موقفًا آخر، الخ فضاء واسع من الكلمات تختار منها ما يليق بمقام إمام من أئمة المسلمين.

فلو سلمنا جدلًا أن الإمام فعلًا وقع في خطأ، لكان من العقل والحكمة الراسخة في وعي كل طالب علم أن يتحفظ في مثل هذه الإطلاقات مع الأئمة ولو كانت حقًا أو سائغة، فكيف حين تكون غلطًا وتجاوزًا على الأئمة.

فنقد العلماء وتخطئتهم لا إشكال فيه، بل هو مطلب شرعي متى ما جاء في موضعه، ولن يعترض أحد عليه إلا بالاعتراض العلمي الإيجابي، لكن هذا النقد له لغة تتناسب مع مقامات العلماء ومكانتهم، فالكلام عن أمثال مالكٍ والشافعي وأحمد، ليس مثل المناقشات مع الأقران والأصدقاء، وحين يتجاوز الأمر إلى مثل هذا الوصف فلن يكون أمرًا سائغًا، وفي النهاية فمن العقل والحكمة أن يدرك الشخص أن من استبرائه لعرضه وحفظه لمكانته أن يزم لسانه عنها لأن النفوس لن تحتملها منه.

نعم، المزاج الصحفي لروح الكتابة المعاصرة قد يستملح مثل هذه الإطلاقات على اعتبار أنها من الشجاعة الأدبية، لكن الميزان الشرعي والعقلي والمصلحي ليس خاضعًا لمثل هذا المزاج.

لو تجاوزنا هذه السياقات كلها، الملفت أن هذه الحادثة كلها لم يكن ثم حاجة لبحثها أساسًا، فلو أن الشخص مثلًا كان يبحث عن ترجمة الكرابيسي، أو لديه بحث في مسألة اللفظ، أو حتى ترجمة عامة للإمام أحمد، فيكون ثم حاجة للتطرق إلى هذه المسألة، لكنك أمام كتابة لتاريخ الإسلام كله لم يكن ثم أي حاجة لإثارة هذه المسألة، أو يمكن إثارتها بدون أي حاجة لهذا الحكم، فالإصرار بعد كل هذه السياقات، مع ضمور أي حاجة لتقحم مثل هذه الطريقة شيء يكلُّ الذهن عن استيعاب حالة الإصرار والاستمرار في الجدال عنه.

وإذا كان الشخص متفهمًا لمن يصف الإمام أحمد بالبغي، فيجب من باب أولى أن يتفهم من يصف هذا "الواصف" أيضًا بصفات أخرى كالكذب أو الغش أو السرقة أو غيرها، فهذه الصفات في حق الواصف هي دون ما وصف به الإمام، والعذر الذي يعفيه عن هذه الصفات هي دون العذر الذي كان عليه الإمام، وهذا يؤكد مسؤولية الكتاب عن حالة الخصومة التي تجري حول الكتاب، ولو أن الكتاب التزم روح طالب العلم وموازينه وأقصى روح مؤرخ الأفكار لبرئ الكتاب من هذه المسؤولية.

وفي سياق آخر من الكتاب نجده يحكي أن:
"الناظر في كتب العقائد السلفية المسندة يجد أن هذا الجيل وأعلامه الشافعي وأحمد والثوري وابن عيينة وعبد الرحمن بن مهدي والرازيين والدارمي والبخاري والحميدي وإسحاق بن راهوية ونظراءهم=هم أصحاب الحضور الأكبر في المدونة السلفية الأثرية وهم المعنيون أصالة إذا قيل أهل الحديث، وهم الذين ادَّعوا لأنفسهم وراثة الجيل السلفي الأول" 90
وإن الشخص ليخجل أن يكتب مثل هذه الصيغة لبعض أصدقائه لما تحمله من إيحاءات غير مريحة، فكيف تقال في حق أمثال هؤلاء الأئمة العظام، وكان بإمكان الكتاب أن ينتقي عبارات أكثر تهذيبًا، ولا أظن أن ذلك مما يمس أهمية الصدع بكلمة الحق في شيء.

 

(3) الحياد في الأصول الشرعية:

حين تأتي الأصول الكلية للسلفية فإن روح طالب العلم لا ترتضي أن تقف بالحياد أو تتعامل ببرود، بل سيكون موقفه جازمًا، ولن تسكن نفسه حتى ينفخ في هذه القضايا من روح جزمه ويقينه بها، وسيدفع كافة الإشكالات التي تثار على هذه الأصول حتى لا يبقى في نفس قارئه أي ضعف في تقبل هذه الأصول الكلية.
يصادفك في ما بعد السلفية حقيقة تختلف عن هذا، حين يصر الناقد أن يبقى محايدًا في الأصول التي لا تقبل الحياد، خاصة وهي مرتبطة بالمفهوم الذي يتحدث عنه الكتاب.

ستجد أن ثم مسألتين أصر مؤرخ الأفكار أن يبقى محايدًا فيها، وشعر بحرج أن يخالف وظيفته في تاريخ الأفكار:
المسألة الأولى: هل أهل الحديث أصدق تمثيلًا في باب التوحيد والقدر من الأشاعرة والماتريدية أم لا؟

فقال الأخوان الكريمان في مقدمة الكتاب:
"فقد انطلقنا من مسلمة أن أهل الحديث في أبواب التوحيد والقدر أصدق تمثيلًا للصحابة ومنهجهم من الأشاعرة والماتريدية وهي مسلمة لا يهم إن كنا نرى على المستوى الذاتي صحنها من عدمه، فنحن نسلم بها هنا تنزلا" 10
فهو مجرد تسليم تنزلًا!

وما أدري ما ضر لو قيل نحن نعتقد بها ولبسطها مقام آخر!
المسألة الثانية: حكم التكفير بالاستغاثة بغير الله مما هو من الأصول التي تمسك بها أئمة الدعوة النجدية، وهي مسألة مما استفاضت دلائلها فما عاد يخفى أنها من الأصول الشرعية الثابثة، فهل هذا مما يقطع باتفاق السلف فيه؟ كان الموقف:
"ليست هذه وظيفة مؤرخ الأفكار وإنما هذا بحث الفقيه والكلامي" 178
الملفت أن الكتاب مليء بالمناقشات الفقهية والأصولية واللغوية والحديثية، بل وثم استفاضة في بعض المسائل حتى تظن أنك تقرأ كتابًا أصوليًا، لكن هاتين المسألتين حدث تورع عجيب في البت فيهما!

 

(4) إشكالية التوضيح والبيان:

لم يقتصر الإشكال على مجرد إعلان الحياد، بل ثم التباس آخر في سياق الكتاب دعا أخانا الشيخ عبد الله العجيري في مقالته (السلفية السائلة) ليطرح سؤالًا:
"هل يرى المؤلِّفانِ أنه من الممكنِ أن نَجِدَ شيئًا من الحَقِّ فات أهلَ الحديثِ، ثُمَّ أدْرَكَتْه الأشعريَّةُ، أو الماتريديَّةُ، أو المعتزلةُ، أو الشيعةُ، أو الخوارجُ، ونحوُهم"
"فإن هذا السؤالَ لم يكن واردًا في ذهني مطلقًا قبل قراءةِ الكتابِ، وإنما دفعني إلى إيرادِه ما رأيتُ فيه من سياقاتٍ مُوهِمَة وإشكالاتٍ"

ومجرد وجود هذا السؤال يعبر عن إشكالية، أن يكون قارئ واعٍ متخصص يقرأ 700 صفحة من كتابٍ عن السلفية، يؤرخ لفكرها ويفحص مدارسها ويقوّم حملتها، ثم لا تكون هذه المسألة المركزية قد تجلت له بوضوح، بل إن الكتاب لم يسكت عنها فقط بل في سياقاته ما يثير الإشكال عن وجود المعنى الباطل.

هذا السؤال يأتينا في سياق مشكل آخر، فحين نصل إلى آخر الكتاب، نجد الكتاب عرض لحدود المراجعة الممكنة داخل المجال السلفي، ذكر فيه:
"مخالفته لبعض ما هو أصل قطعي في طبقة أحمد أو ابن تيمية مثلًا=خروجًا عن السلفية كتنصيف معرفي، ما لم يكن هذا الأصل القطعي من الأصول الكبرى التي يظهر من تحليل تاريخ الفكر السلفي أنه أسبق من زمن أحمد" 689

لكن الكتاب يعود بهذا لينبه أن هذا خروج عن النسق المعرفي فقط، ولا يلزم من ذلك خروجه عن الحق، إذ قررا في أثناء ذلك:
"كلامنا هنا من حيث تصنيف وتعامل مؤرخ الأفكار وليس من حيث تحقيق القول في مَن من هؤلاء يعد بالفعل ممثلًا صادق التمثيل لما كان عليه الصحابة" 688
فإذا كان مخالفة القطعيات في المراجعة هي تعبير فقط عن مخالفة نسق معرفي، وسكتوا عن كونها مخالفة للحق في ذاته أم لا، فما فائدة إذن تقرير حجية إجماع الصحابة فقط دون إجماع التابعين؟ وماذا عن أهمية مراجعة المعتقدات السلفية في ضوء إجماع الصحابة؟ ما دام الأمر كله سيكون مجرد حديث عن النسق المعرفي دون أن يكون ذلك مرتبطًا بكونه حقًا يقطع به!

ثم إذا كان الأمر مجرد حديث في النسق المعرفي، فالنسق المعرفي السلفي معروف بحدوده ومسائله سلفًا، فهو المجال الذي يتفق عليه السلفيون، فليس لك إمكانية أن تدخل فيه ما تشاء أو تخرج، لأنك هنا تصف واقعًا مشاهدًا، والمسائل التي يتميز بها السلفيون عن الأشاعرة والمعتزلة معروفة سلفًا، ولا يخفى على أحد أن ثمة أصولًا وقواعد مقررة عند السلفية، فما الإضافة العملية هنا؟

وإذا كان الأمر مجرد حديث عن نسق معرفي فلا تملك أساسًا أن تكون متحكمًا فيما يدخل في هذا النسق وما لا يدخل، لأن دورك حينها أن تصف الموجود، فإذا هم اتفقوا على إدخال جزء معين في نسقهم بحيث صار من يخالفه خارجًا عنه فبأي مستند تفرض إخراجه؟

فمثلًا: حين يقرر السلفيون الاحتجاج بخبر الآحاد، فهل يمكن أن يخرج هذا عن كونه أصلًا سلفيًا لو أثبتَ أحد أنه لا قطع فيه قبل الإمام أحمد؟ لا يمكن، لأن هذا متقرر سلفًا أنه من مميزات السلفية.

إذن، حديثك عن تقسيم ما يدخل في النسق المعرفي السلفي وما لا يدخل لا يستقيم إلا في حالة أن تقول إنني سأحاكم هذا النسق إلى الحق القطعي السلفي بحيث أجعل المعيار هو موافقته للحق القطعي، فما لم يخرج عن حدود القطع فهو سلفي، وما خرج فهو ليس سلفي، هذا هو الطريق الوحيد لتفهم هذا الاجتهاد، فحين ترجع بعد هذا فتقول أنا فقط أتحدث عن نسق معرفي بغض النظر عن التمثيل الحقيقي فقد سحبت الكرسي الذي يعطي لقولك مشروعية الجلوس!

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#ما-بعد-السلفية
اقرأ أيضا
استحضار أرواح الموتى | مرابط
أباطيل وشبهات فكر مقالات

استحضار أرواح الموتى


بلغ من افتتان الغرب بالمنهج التجريبي في المعرفة أنهم طمحوا إلى إخضاع عالم الغيب للتجريب وكان من أبرز ما ظهر في هذا الميدان إدخال عالم الروح في ميدان التجريب وابتدعوا لذلك علما سموه الروحية أو spiritualism وفي هذا المقال توضيح لهذه الدعوة وبيان مآلاتها والرد عليها

بقلم: محمد محمد حسين
2424
عقيدة أهل السنة والجماعة في الولاء والبراء | مرابط
اقتباسات وقطوف

عقيدة أهل السنة والجماعة في الولاء والبراء


مقتطف لشيخ الإسلام ابن تيمية يلخص فيه عقيدة أهل السنة والجماعة في الولاء والبراء والموالاة والمعاداة وكيف ينقسم الناس بالنسبة لهذه العقيدة فمن كان مؤمنا وجبت موالاته ومن كان كافرا وجبت معاداته ومن جمع بين الإيمان والفجور حاز من الموالاة والبغض بقدر ما عنده من الحسنات والسيئات

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
1189
مختصر قصة الأندلس الجزء الخامس | مرابط
تاريخ أبحاث

مختصر قصة الأندلس الجزء الخامس


سلسلة مقالات مختصرة تطوف بنا حول الأندلس لنعرف قصتها من البداية حتى النهاية من الفتح إلى السقوط سنعرف كل ما دار من أحداث بين لحظة الفتح والصعود ولحظة الانهيار والأفول والهدف من ذلك أن ندرك ونعي تاريخنا بشكل جيد وأن نتعلم منه حتى نبني للمستقبل

بقلم: موقع قصة الإسلام
1372
علمانية الحكم الجزء الثاني | مرابط
فكر مقالات العالمانية

علمانية الحكم الجزء الثاني


امتدت العلمانية إلى كل مجالات الحياة تقريبا بداية من الحكم مرورا بالاقتصاد وصولا إلى الأخلاق والشعور بل وحتى عالم الفن والأدب والكتابة اجتاحته العلمانية كذلك وفي هذا المقال يفصل لنا الكاتب سفر الحوالي علمانية الحكم وبداياتها في القرون الوسطى في ظل تمتع الكنيسة بسلطاتها الكبيرة رغم ذلك كان الحكم علمانيا حتى لو كان ظاهريا تحت مظلة الكنيسة

بقلم: د سفر عبد الرحمن الحوالي
2240
من علامات الساعة: ضياع أمانة الدين ج3 | مرابط
تفريغات

من علامات الساعة: ضياع أمانة الدين ج3


إن الأمانة اسم عام لكل تكليف كلفناه ربنا تبارك وتعالى أو الرسول عليه الصلاة والسلام كما في قول الله عز وجل:إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولاالأحزاب:72 فالأمانة هي كلمة: لا إله إلا الله بتكاليفها هذه هي التي أشفقت السماوات والأرض والجبال عن حملها ومن علامات الساعة ضياع الأمانة وبين يديكم تفريغ لجزء من محاضرة للشيخ أبو إسحق الحويني يتحدث فيه عن ضياع الأمانة في زمننا

بقلم: أبو إسحق الحويني
599
الافتتان بالزخارف والألوان | مرابط
أباطيل وشبهات فكر

الافتتان بالزخارف والألوان


من المظاهر السيئة الخادعة الآن كثرة الصفحات التي تنشر سجاد الصلاة المصليات المزخرفة وال 3d وتروج ذلك بإنك تكون مميز في الصلاة! وهذا خداع وباطل ولا ينبغي .. فإن الصلاة قصد خالص لله والواحد منا مع عدم كل هذا ولا يستطيع أن يخشع ويركز في صلاته من كثرة المشاغل والشواغل والقواطع التي حوله .. فهل يأتي إنسان عاقل إلى موضع صلاته فيشوشه على نفسه؟!

بقلم: محمد حشمت
392