ليبرالية استئصالية
إن ما يشهده العالم الإسلامي من ليبرالية استئصالية دموية هو مؤشر على دنو نهايتها وسقوطها، فإن الأفكار تكون أكثر دموية حال احتضارها، وإن الفكر القوي المتين لا يحتاج أربابه إلى الكذب الفج لترويجه، ولا إلى القسوة المفرطة لإخضاع خصومه، وإنما يعمد إلى الكذب والقسوة أرباب الفكر الضعيف؛ لستر ضعفه وتهافته أمام الناس، ومحاولة إقناعهم به بالكذب أو بالقوة.
ومن ينظر نظرة شاملة للعالم يجد أن أعداء الإسلام قد احتاروا حيرة شديدة في كيفية التعامل مع الإسلام؛ فتشويهه وافتراء الكذب على حملته ودعاته لا يزيد شعوب المسلمين إلا قناعة وتمسكا به، وعودة إليه، ولا يزيد غير المسلمين إلا دخولا فيه. وضربه بالقوة العسكرية القاسية لا يزيده إلا صلابة وشدة، ولا يزيد أصحابه إلا قوة وتضحية. فماذا يعملون بالإسلام؟! لقد احتاروا في أمره، إن تركوه تمدد حتى يعم الأرض، وإن هم ضربوه اشتد عوده وقوي عزم أتباعه على التمسك به، والثبات عليه، والدعوة إليه، فلا حيلة لهم مع دين الله تعالى.
يا هؤلاء وأولئك، إنه دين الله الذي ارتضاه، إنه الدين الذي صمد أربعة عشر قرنا وزيادة، وهو هو لم يتغير، والفكرة الليبرالية لم تتم بعد ثلاثة قرون، ورغم عمليات التعديل لتواكب العصر، وعمليات التقوية والإنعاش هي تعيش الفصل الأخير من عمرها؛ {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ . هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ} [التوبة: 33]. بارك الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده {أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 40] نحمده حمدا كثيرا، ونشكره شكرا مزيدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين. أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].
مذابح المسلمين
أيها المسلمون: يتحسر قلب المسلم على مذابح المسلمين في شتى الأقطار، وعلى ما يتعرض له الإسلام من حملة إعلامية ليبرالية تشوهه، وتغري بالبطش بدعاته وحملته، حتى وصموه بأنه دين فاشي، وأن النبي عليه الصلاة والسلام كان أول فاشي دموي، وأن حدوده وحشية، وأن أحكامه تخلف ورجعية، وصار الإعلام الليبرالي يصرح بذلك دون مواربة.
وأقوياء العالم، ومنظماته الدولية لا تدافع عن المسلمين إن كان الدم النازف دم مسلم. إن ثمة ملحظا عجيبا أرى أن هذه الأمة اختصت به من بين سائر الأمم، وهو أنها أمة في عزها ومجدها كانت تحمي ضعفة الأمم الأخرى، وتنصفهم في حكمها، وتنتصر لهم ممن يبغي عليهم، فحمت اليهود من مذابح النصارى، وحمت الأرثوذكس من مذابح الكاثوليك، وحمت الباطنيين من الاعتداء عليهم، والتاريخ مملوء بالشواهد على ذلك. ولكنها أمة منذ أن ضعفت لم يحمها أحد من الأمم الأخرى لا في القديم ولا الحديث، وكأن الله تعالى يريدها أن تمنَّ على الأمم الأخرى، ولا منَّة لأمة أخرى عليها.
سقط الأندلس دولة دولة تحت حوافر عباد الصليب فلا أعرف أن أمة من الأمم الأخرى حمت المسالمين من اضطهاد المتغلبين، واجتاح التتر بلدان المسلمين من وراء النهر حتى بلغوا دار السلام فأسقطوا عاصمة الخلافة آنذاك، ولم يحم المسلمين أحد من سيوف التتر، وفي الحملات الصليبية لم تهب أمة من الأمم التي حماها المسلمون من قبل لنجدتهم، بل كان المسلمون يتحملون مسئوليتهم وحدهم، ويردون شراسة عدوهم بأنفسهم، وهذه خصيصة تميزت بها أمة الإسلام، وهي من أسباب قوتها بعد الضعف، ونهوضها بعد التعثر، وعزها بعد الذل، وتمددها بعد الانكماش.
وقبل يومين فقط ضرب النصيريون ريف دمشق بالكيماوي، فأهلكوا زهاء ألفي نفس معظمهم من الأطفال أمام بصر العالم الليبرالي الحر، ودوله العظمى المدعية للسلام، ومنظماته الدولية الراعية لحقوق الإنسان، فلم يحرك ساكنا أمام استخدام أسلحة محرمة في قوانينه الدولية، بل يعطي المجرم النصيري الفرصة تلو الفرصة لإبادة أهل الشام.. وهو الذي حشد الجيوش، وجمع الجموع، وأصم الآذان بلزوم غزو العراق من أجل الاشتباه في وجود أسلحة محظورة، فدمرها على أهلها بكذبة اخترعها. ها هو يرى الأسلحة المحظورة يضرب بها العزل والأطفال، فلا يفعل شيئا..
يا للفضيحة الليبرالية المدوية، ويا للخزي والعار على من يكون ذيلا لقوم لا خلاق لهم.. لن يرحمه التاريخ ولن يرحمهم.. ولن نحزن على الشهداء فإنهم قدموا على رب كريم، ولن نأسى على من يدفعون الهجمة الليبرالية الباطنية على الإسلام والمسلمين فهم على خير عظيم، وإن مستهم البأساء والضراء، ولكننا نأسى على أنفسنا وعلى قوم منا أكلوا خديعة الباطنيين والليبراليين.
إن للحق قوة دافعة تدفع صاحبها لتلقي المنية بنفس مطمئنة رضية، وإن في الباطل كآبة تصيب صاحبه ولو أظهر غير ما يبطن، ولو تصنع حلاوة النصر فإنه يجد في داخله ألم الباطل وحسرته.. ولذا يكذب أصحاب الباطل ويكذبون، ويلحون في كذبهم لعلهم يقنعون أنفسهم بباطلهم فيصدقونه ولكن هيهات.. فلا ينقلب الباطل إلى حق بالكذب حتى عند من يدعو إليه، ويهتف به.
ولن يجد أعداء الإسلام إلا ما يسوءهم؛ فإن من حارب الله تعالى في دينه وشريعته وأوليائه بارزه الله تعالى بمحاربته، ومن عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، ولا ينتظر أهل الإيمان في مواجهة أعدائهم إلا إحدى الحسنيين؛ فإما نصر مؤزر مستحق، وإما شهادة على الحق.. ولن يجد الكفار والمنافقون من حربهم للإسلام والمسلمين إلا إحدى الكريهتين؛ فإما نصر مؤقت يخدعهم فيمدهم في غيهم وطغيانهم؛ لحصدهم وقطع دابرهم، واستئصال شأفتهم، وإما موت في سبيل الباطل، يلقون الله تعالى عليه سود الوجه: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ . وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [القلم: 44، 45]، {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ . فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ . فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ . وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [النمل: 50- 53].
وصلوا وسلموا على نبيكم
المصدر:
- https://albayan.co.uk/Article2.aspx?id=3089