ليست السنة كلها تشريعا ج1

ليست السنة كلها تشريعا ج1 | مرابط

يتكرر على ألسنة بعض المعاصرين الحديث عن تقسيم ما يصدر عن النبي صلى الله عليه وسلم إلى سنة تشريعية وسنة غير تشريعية، فالسنة التشريعية هي التي يجب الأخذ بها، أما السنة غير التشريعية فلا يجب الأخذ بها إذ لم يُقصد بها التشريع أصلًا.

تأصيلات:

وقبل معالجة إشكالات هذه المقولة يجب استحضار أمرين مهمين:

الأمر الأول: 

يجب أن يكون واضحًا ابتداءً أن الأصل في أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته أنها حجة، وأنها تشكل بمجموعها مفهوم السنة النبوية، وأنها منبع يُصدر عنه في تقرير الأحكام وبيان التشريعات، حيث أمر الله تعالى بطاعة نبيه أمرًا مطلقًا غير مقيَّد، فهذا أصلٌ يجب استحضاره عند مناقشة هذه المسألة.

الأمر الثاني:   

ضرورة إدراك طبيعة ما يصدر عن النبي صلى الله عليه وسلم من تصرفات، فقد فَصّل أهل العلم أنواع التصرفات النبوية، وذكروا أنها على أنواع:

النوع الأول: التصرفات الجبلية، كالقيام، والقعود، والأكل، والشرب، وكل ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم باعتبارات جبلية محضة، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم مع نبوته بشر (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ)، فأحكام البشرية في الأصل تجري عليه كما تجري على غيره، فما كان واقعًا منه صلى الله عليه وسلم بمقتضيات البشرية المحضة فليس مقصودًا به التشريع ابتداءً وليس محلًا للتعبد، وإن كان يُستفاد من تصرف النبي صلى الله عليه وسلم تأكيد الإباحة.

النوع الثاني: التصرفات العادية، وهي ما جرى من النبي صلى الله عليه وسلم بمقتضى العادة، مما كان معروفًا مألوفًا في قومه، ولا تدل على قربة أو عبادة كأحواله في مأكله ومشربه وملبسه ومنامه ويقظته؛ وذلك مثل أكله للدباء، أو ربطه الحجر على بطنه من الجوع، أو لبسه للقطن، أو نومه على الحصير، أو إطالة شعره، ونحو ذلك، فهذه الأفعال ونحوها تدل على إباحة فعل الشيء، لا استحبابه؛ لأن ذلك لم يقصد به التشريع، ولم يتعبد به.

وأما إذا ورد الأمر بشيء من الأمور العادية أو جاء الترغيب فيه أو وجدت القرينة التي تدل على قصد التشريع فتكون مشروعة حينئذٍ لأن الشارع قصد إخراج هذه العادات من حد العادة إلى حد التعبد كلبس البياض من الثياب، وإعفاء اللحية، وتوجيه الميت في قبره إلى القبلة، وما يتعلق بأبواب الآداب كآداب النوم، وآداب الأكل والشرب، وآداب السلام والعطاس، وآداب التخلي ونحو ذلك.

النوع الثالث: التصرفات التشريعية، وهي التي يقصد بها البيان والتشريع وإيضاح كيفية امتثال الأحكام الشرعية، كأفعال الصلاة والحج، فهذا القسم هو الذي يطلب اتباعه فيه، وقد يكون واجبًا أو مستحبًا.

النوع الرابع: التصرفات الاجتهادية، وسيأتي الكلام حول هذا اللون من التصرفات بشيء من التفصيل بعد قليل، إذ هو المجال الذي يتعلق به بعض الناس في تمرير الشبهة.

النوع الخامس: التصرفات الخاصة به صلى الله عليه وسلم، وهي التي ثبت بالدليل اختصاصه بها كالجمع بين تسع نسوة، والتبرك بآثاره، فحكم الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا القسم ليس كحكم غيره.

النوع السادس: التصرفات المعجزة، كخوارق العادات التي أجراها الله تبارك وتعالى على يد نبيه سواءٌ قصد بها التحدي أو لم يقصد، فوقوع مثل هذه الخوارق منه صلى الله عليه وسلم حاصل يقينًا، وليس ثم مدخل للاقتداء به صلى الله عليه وسلم فيها، لأن الخارق نفسه ليس محلًا للتكليف، وهو لم يكن إلا بإذن من الله تبارك وتعالى وهو سبحانه من خرق العادة حقيقة.

فهذه أنواع الأمور الصادرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهي كما ترى تعبر عن رؤية علمية دقيقة تضبط هذا الباب ضبطًا دقيقًا على خلاف كثير ممن يوظف تقسيم السنة إلى تشريعية وغير تشريعية توظيفًا سلبيًا يؤول إلى رد بعض السنة التشريعية.   

الخلل في توسيع مفهوم السنة غير التشريعية

والحقيقة أن الخلل في توسيع مفهوم السنة غير التشريعية يستند على ركنين أساسيين، بينهما قدرٌ من التداخل:

الركن الأول: مفهوم الاجتهاد النبوي، وأن ما يصدر عن النبي صلى الله عليه وسلم من تصرفات فليس صادرًا بالضرورة عن وحي مباشر، بل قد يكون باجتهاد منه صلى الله عليه وسلم، وإذا كانت صادرة عن الاجتهاد لا الوحي فهي عرضةٌ للخطأ، وهو ما ثبت صريحًا في جملة من النصوص التي اجتهد فيها النبي صلى الله عليه وسلم فيأتي الوحي ببيان خطئه، فرتبوا على ذلك أن من التصرفات النبوية ما ليس موضعًا للتشريع، لأنها اجتهادية من النبي صلى الله عليه وسلم، فيسوغ فيها أن يجتهد غيره كما اجتهد صلى الله عليه وسلم، ولو أدى هذا الاجتهاد إلى خلاف ثمرة الاجتهاد النبوي.

الركن الثاني: حقيقة التصرفات النبوية، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمارس في حياته أدوارًا متعددة فلم تكن كل تصرفاته تنطلق باعتبار كونه نبيًا، بل قد يتصرف بمقتضى بشريته، أو بمقتضى أدوار حياتية معينة ككونه قائدًا سياسيًا أو قاضيًا أو أبًا أو زوجًا، وهكذا، فما كان صادرًا منه بمقتضى النبوة فهو وحي يجب الأخذ منه بخلاف غيره من الأدوار الحياتية فليست كذلك، فلئن تجوز في إدخالها في مفهوم السنة باعتبار صدورها عن النبي صلى الله عليه وسلم فليست تشريعية بالضرورة باعتبار عدم صدورها عن مقام النبوة.
وكما ترى أن أصل الإشكالية في الحقيقة يؤول إلى تحقيق الموقف من طبيعة الاجتهادات النبوية، وطبيعة توظيفات المخالف لها.

والحقيقة أن المشكلة هنا ليست في أصل القول بجواز وقوع الاجتهاد منه صلى الله عليه وسلم، ولا حتى في تلك القسمة الاصطلاحية (سنة تشريعية وغير تشريعية) إذ هي قسمةٌ يحتمل أن يراد بها معنىً صحيحًا بكون بعض السنة موضوعة للتشريع ابتداءً وبعضها ليس كذلك كالأفعال الصادرة عنه صلى الله عليه وسلم بمقتضى الجبلة والعادة.

إنما المشكلة في الاتكاء على هذه القسمة لإخراج جملة تقل وتكثر من السنة التشريعية وإدخالها في إطار السنة غير التشريعية، من غير انضباط علمي ولا معرفة صحيحة بطبيعة الاجتهاد النبوي وما يتصل به من مظاهر العصمة.

وإذا تأمل المرء في كلام بعض المعاصرين في موقفهم من هذه القسمة فسيلحظ حجم الجناية التي مورست على السنة النبوية تحت ذريعة (السنة غير التشريعية) وهي جناية اتسمت بالتمدد مع تمدد الأيام، فبدأ الكلام في بعض الجوانب المتعلقة بالهدي الظاهر كإعفاء اللحية وتقصير الشارب فأخرجت تحت ذريعة السنة غير التشريعية، ثم امتد إلى أقوال النبي صلى الله عليه وسلم في أبواب الطب جميعًا لتخرج من السنة التشريعية وتكون محض تجربة بشرية محكومة بسياقها التاريخي، ثم ازداد الأمر لتخرج تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم السياسية من السنة التشريعية، ثم بلغ الأمر حد إخراج السنن المتعلقة بالشأن الدنيوي كله من السنة التشريعية بناءً على أنها داخلة تحت قاعدة الشارع: (أنتم أعلم بأمور دنياكم).


المصدر:
عبد الله بن صالح العجيري وفهد بن صالح العجلان، زخرف القول: معالجة لأبرز المقولات المؤسسة للانحراف الفكري المعاصر، ص41

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.
اقرأ أيضا
أدلة النبوة: أساس اليقين | مرابط
تعزيز اليقين

أدلة النبوة: أساس اليقين


أدلة النبوة هي أساس اليقين ولهذا كثرت وتنوعت لأن من سنة الله تعالى كثرة أدلة المطالب الكلية رحمة بالعباد وتيسيرا لهم لسلوك طريق الرشاد

بقلم: د. عيسى السعدي
248
صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ج3 | مرابط
تفريغات

صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ج3


إن الله سبحانه وتعالى قد فرض فرائض وشرع شرائع وأمر بلزومها ومن أعظم هذه الشرائع هي أركان الإسلام الخمسة التي أمر الله عز وجل بها وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بركنيتها للإسلام كما جاء في حديث عبد الله بن عمر في الصحيحين وغيرهما في قوله عليه الصلاة والسلام: بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت من استطاع إليه سبيلا

بقلم: عبد العزيز الطريفي
600
صناديق الاستثمار في عشر ذي الحجة | مرابط
تعزيز اليقين

صناديق الاستثمار في عشر ذي الحجة


سجل في الصندوق قبل أن يغلق الاكتتاب .. كانت أعمار بني آدم في الأزمنة السابقة طويلة وأما أعمار أمة خاتم الأنبياء غما بين الستين إلى السبعين إلا أن الله تعالى بفضله وبمنه وكرمه عوض نقص أعمار هذه الأمة بأن جعل لهم مواسم الخيرات محطات يتزودون بها ومن تلك المواسم عشر ذي الحجة حيث فضلت على سائر أيام

بقلم: د. يحيى بن إبراهيم اليحيى
323
إشكالية المصطلح النسوي 2 | مرابط
اقتباسات وقطوف النسوية

إشكالية المصطلح النسوي 2


إن مشكلة كثير من المصطلحات النسوية المتداولة أنه يتم التفكير بها داخل نظام الثقافة الغربية وأدواتها فهي منتوج غربي في النهاية وتزداد الصعوبة في المصطلحات ذات البعد الديني كمصطلح الحجاب أو مصطلح القوامة وغيرها حيث ينطلق الغرب من توصيف مفاهيمها من منطلقه الفلسفي في تفسير الدين تفسيرا اجتماعيا وهو النظرة السائدة في الغرب إلى حد ما فيتم النظر تباعا لهذه المصطلحات الدينية المتعلقة بالمرأة بمنظار علم الاجتماع فقط

بقلم: د خالد بن عبد العزيز السيف
627
كيف نعلم الطقس غدا وهو من الغيب؟ | مرابط
أباطيل وشبهات

كيف نعلم الطقس غدا وهو من الغيب؟


قد يقول قائل: إن من أمور الغيب التي استأثر الله بها إنزال الغيث والعلم بما في الأرحام فكيف تخبر النشرة الجوية عن جو الغد أصحو أم ماطر؟ ويكشف العلم عما في بطن الحامل: هل هو ذكر أم أنثى؟

بقلم: علي الطنطاوي
224
بين العلم والمعلومة | مرابط
ثقافة

بين العلم والمعلومة


المعرفة الحقة هي التي جمعت إلى حيازة المعلومات المتصلة بها: القدرة على العبارة عنها وكشفها والبصر بمشكلاتها والتمكن من المحاماة عنها ودرء الاعتراضات الموجهة إليها.

بقلم: مشاري الشثري
302