الانقياد المشروط

الانقياد المشروط | مرابط

الكاتب: فهد بن صالح العجلان

846 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

أصل الإشكالية

اعتاد كثير من ذوي التوجهات المنحرفة عن النص الشرعي أن يقلِّب في كتب الفقهاء أو يستفيد من التقنية الحديثة لاستخراج الأقوال والاختيارات الفقهية (القديمة والحديثة) التي يرونها تتفق مع بعض رؤاهم؛ ليصنعوا من أجزائها زورقًا آمنًا؛ لتجاوز أمواج الاعتراض والنكير التي لا تزداد نحو عبثهم إلا دفعًا وتصاعدًا.

وقف بعدها يشير بطَرْف عينه إلى كلِّ من يذكِّره بقول الله وقول رسوله - صلى الله عليه وسلم - بأن (فلانًا) يرى كذا، وأنه يرى رجحان اختيار (فلان)، وأن المسألة فيها اختلاف، فلا يصحُّ التضييق على الناس؛ ما دام في المسألة خلاف لأحد من الفقهاء.

فإن تنازعتم في شيء

إنَّ هذه القضية قد فصل فيها أَحَكم الحاكمين في نصٍّ مُحْكَم تنزيله؛ إذ قال - تعالى -: {فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: ٩٥]؛ فما يحدث من خلاف في الأحكام الشرعية، فإن مردَّه إلى كتاب الله وسنَّة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، هذا ما يستشعره بالضرورة كلُّ منقادٍ لأمر الله وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم.

وأما الاحتجاج بخلاف الفقهاء في ترك العمل بالنصوص فهو قلب للقضية؛ إذ أصبح حكم الله ورسوله حينها متوقِّفًا على كلام الفقهاء؛ فما دام ثَمَّ قول فقهي مخالف، فالنصوص متعطِّلة لحين الاتفاق على العمل بها، وبدلًا من أن تُحَاكَم أقوال الفقهاء لنصوص الوحي، تصبح دلالة الوحي متوقِّفة حتى يتمَّ الاتفاق على مفهومها.

لا شك أن هذه ممارسة بعيدة كلَّ البعد عمَّا كان عليه الفقهاء في خلافاتهم الفقهية؛ فهم وإن اختلفوا في كثير من المسائل إلا أنهم متفقون - قطعًا - على أن دلالة النصوص هي الحاكمة عليهم وأن أقوالهم تتلاشى مع حضور الوحي، ولم يكن أحد منهم يشترط (الإجماع) على النص حتى يتمَّ العمل به، ولا كان خلاف الفقهاء سقفًا يحول دون نفوذ شعاع الوحي، وقد كان هذا مفهومًا متقرِّرًا لدى جميع فقهاء المذاهب؛ فقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن المختلَف في تحريمه لا يكون حلالًا.

حيث يقول: (هذا مخالف لإجماع الأمة، وهو معلوم البطلان بالاضطرار من دين الإسلام)[1]. وحَكَم الفقيه ابن حزم على مَنْ هذا حاله، فقال: (ولو أن امرأً لا يأخذ إلا بما أجمعت عليه الأمة فقط، ويترك كلَّ ما اختلفوا فيه مما قد جاءت فيه النصوص، لكان فاسقًا بإجماع الأمة)[2]، كما حكى ابن القطَّان اتفاق العلماء على حرمة ترك ما صحَّ من الشرع والاكتفاء فقط بما أُجمِع عليه[3].

ويطول المقام في تتبُّع أقوال الفقهاء في هذا الأصل الذي نختمه بهذه الخلاصة التي حرَّرها الحافظ ابن عبد البر: (الاختلاف ليس بحجَّة عند أحد عَلِمْتُه من فقهاء الأمة؛ إلا من لا بصر له ولا معرفة عنده ولا حجَّة في قوله)[4]. ولا شكَّ أنَّ هذا موقف صارم، ورأي شديد ضدَّ من يعطِّل دلالة النصوص بحجَّة الخلاف لإدراك الفقهاء لِمَا في هذا الرأي من جنوح عن حقِّ التعظيم والانقياد الواجب للنص الشرعي.

خلاف الفقهاء

إن خلاف الفقهاء في القضايا الفقهية كان لاختلافهم في تأويل النص؛ فهو من النص يبدأ وإليه يعود. ومَنْ خالف حُكْم النص، فإنما خالفه لاجتهاد يُثَاب فيه على جهده وصِدْق نيَّته؛ وإن خالف النص. ولم يكن حالهم حال المعرِض تمامًا عن النص، وبعد أن حسم خياراته وحدَّد موقفه بحسب المفاهيم والقيم التي يؤمن بها رجع للنصِّ الشرعي؛ ليبحث عن مخرج وحلٍّ لمشكلة النصِّ يتمكَّن بها من تخفيف حدَّة الاعتراض التي لا يطيقها فجاء بزورق الخلاف الفقهي؛ فهل يستويان؟

ومن طريف القوم: أنَّهم – مع كلِّ هذا - حين يأتي الحكم المجمَع عليه بين فقهاء الإسلام ويتأكَّد لهم اتفاق فقهاء الإسلام على حكمٍ من الأحكام التي لا تروق للذائقة العصرية؛ فإن بوصلة التفكير لديهم يتحرَّك سهمها إلى الجهة المقابلة فيتذكَّر أن الإجماع من الأساس مشكوك فيه ويورد بعض شُبَه منكري الإجماع في التشكيك في حجِّية الإجماع أو إمكانية وقوعه واستحالة الجزم بنفي وجود قول فقهي معيَّن.

حتى وإن تمكَّنتَ - بعد هذا كلِّه - من إثبات الإجماع وأوقفتَه بعينيه على دلائل الإجماع؛ فإن بوصلة (الزورق) الفقهي سترفع لافتة: أن ثَمَّ اختيارات فقهية من المعاصرين، ومن غير المتخصِّصين - عند الحاجة إليهم - تخالف في هذا، وأنه يراه القول الموافق للنص الشرعي!

فهذا التفكير المنطقي يشترط الإجماع للاتفاق على النص، وحين يأتي الإجماع يشكِّك في صحته وإمكانيَّته، وحين يزول هذا التشكيك يرجع ليتمسَّك بأي قَشَّة من أقوال المعاصرين! هل لهذه (الظاهرة) تفسير أو علاج خير من أن يقرأ فيها قول الله - تعالى -: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [المائدة: ٢٩].


الإشارات المرجعية:

  1. مجموع الفتاوى: 20/270.
  2. الإحكام في أصول الأحكام: 1/291، بل ذهب ابن حزم إلى أبعد من هذا، فقال عن هذا القول: (بل قد أصبح الإجماع على أن قائل هذا القول معتقدًا له كافر بلا خلاف؛ لرفضه القول بالنصوص التي لا خلاف بين أحد في وجوب طاعتها)، الإحكام: 1/481. 
  3. انظر: الإقناع في مسائل الإجماع: 1/65. 
  4. جامع بيان العلم وفضله: 2/115.

المصدر:

فهد بن صالح العجلان، معركة النص، المجموعة الأولى.

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.
اقرأ أيضا
المؤمن أشد حبا لله | مرابط
اقتباسات وقطوف

المؤمن أشد حبا لله


كلما ازداد القلب حبا لله إزداد له عبودية وكلما ازداد له عبودية ازداد له حبا وحرية عما سواه والقلب فقير بالذات إلى الله من وجهين: من جهة العبادة وهي العلة الغائية ومن جهة الاستعانة والتوكل وهي العلة الفاعلية فالقلب لا يصلح ولا يفلح ولا يلتذ ولا يسر ولا يطيب ولا يسكن ولا يطمئن إلا بعبادة ربه

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
1883
حقيقة التعبد في الإسلام | مرابط
تعزيز اليقين

حقيقة التعبد في الإسلام


إن إدراك محاسن الإسلام لا يتم إلا بفهم حقيقة التعبد لله سبحانه وتعالى ولا تفهم هذه الحقيقة إلا بالإدراك العميق لنصوص الكتاب والسنة الواردة في ذلك أو بالنظر في كلام علماء المسلمين الذين اعتنوا بإبراز تلك الحقيقة بعد تتبعهم لنصوص الوحيين ثم بالعمل على ضوء هذه الحقيقة دون الاكتفاء بالفهم النظري

بقلم: أحمد يوسف السيد
1726
دليل مباشر على وجود الخالق سبحانه | مرابط
تعزيز اليقين الإلحاد

دليل مباشر على وجود الخالق سبحانه


أيها الملحد! إذا أعطيتك كتالوج كتاب- به كل مواصفاتك وبرمجة كاملة لمنظوماتك الوظيفية طولك ولون عينيك ووظائف أعضائك ونوع شعرك وكمية البروتين التي تحتاجها عضلاتك والقوانين التي تحكم أجهزة جسدك وسرعة النبضة الكهربية في أعصابك ومعدلات ضخ الدم في قلبك ومعدلات إفراز الهرمونات في غددك إلى جانب كل ذلك تفصيل دقيق لكل وظائفك الحيوية وطريقة تصنيع كرات دمك وأنظمة الهضم والإخراج والأيض وكل ما يختص بالوظائف البيولوجية لجسدك.. هل ما زلت تجادل في خالقك؟

بقلم: د. هيثم طلعت
291
تلبيس إبليس على جاحدي النبوات | مرابط
أباطيل وشبهات مقالات

تلبيس إبليس على جاحدي النبوات


ققد لبس إبليس على البراهمة والهندوس وغيرهم فزين لهم جحد النبوات ليسد طريق ما يصل من الإله وقد اختلف أهل الهند فمنهم دهرية ومنهم ثنوية ومنهم على مذاهب البراهمة ومنهم من يعتقد نبوة آدم وإبراهيم فقط وقد ألقى إبليس الكثير من الشبهات ليصدهم عن إثبات النبوة واتباع الأنبياء يذكرها لنا ابن الجوزي بشكل مفصل

بقلم: ابن الجوزي
861
النظرة الكلية للإنسان والكون والوجود | مرابط
تعزيز اليقين

النظرة الكلية للإنسان والكون والوجود


إن هذا الدين العظيم لا تفهم محاسنه ولا يتوصل إلى جمالياته إلا بإدراك نظرته الكلية للكون وللوجود وللدنيا والآخرة وللإنسان وما وراء وجوده على هذه الأرض وإذا تأملت كثيرا مما يثار من الاستشكالات والاعتراضات ضد أحكام الشريعة فستجد أنها منبعثة من تجزئة النظر إلى الإنسان أو إلى الحياة والوجود وناشئة من عدم فهم التكامل المراعى في تشريعات الإسلام والذي يتجاوز إطار المادة الضيق

بقلم: أحمد يوسف السيد
909
المعرفة بحاسة البصر | مرابط
فكر اقتباسات وقطوف

المعرفة بحاسة البصر


المعرفة بحاسة البصر معرفة يتساوى فيها الإدراك كما يتساوى إدراك الآلة وإدراك الحيوان فهل هذه هي المعرفة التي تليق بالإنسان المسئول عن ضميره الباحث عن هدايته المترقي بسعيه واجتهاده؟ وهل يطلبون أن يتساوى الناس في مدركات الضمير وحدها أو يطلبون أن يتساووا في مدركات الحواس وملكات الأجسام والأفهام ومقادير الأعمار والأيام

بقلم: عباس محمود العقاد
300