الانقياد المشروط

الانقياد المشروط | مرابط

الكاتب: فهد بن صالح العجلان

919 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

أصل الإشكالية

اعتاد كثير من ذوي التوجهات المنحرفة عن النص الشرعي أن يقلِّب في كتب الفقهاء أو يستفيد من التقنية الحديثة لاستخراج الأقوال والاختيارات الفقهية (القديمة والحديثة) التي يرونها تتفق مع بعض رؤاهم؛ ليصنعوا من أجزائها زورقًا آمنًا؛ لتجاوز أمواج الاعتراض والنكير التي لا تزداد نحو عبثهم إلا دفعًا وتصاعدًا.

وقف بعدها يشير بطَرْف عينه إلى كلِّ من يذكِّره بقول الله وقول رسوله - صلى الله عليه وسلم - بأن (فلانًا) يرى كذا، وأنه يرى رجحان اختيار (فلان)، وأن المسألة فيها اختلاف، فلا يصحُّ التضييق على الناس؛ ما دام في المسألة خلاف لأحد من الفقهاء.

فإن تنازعتم في شيء

إنَّ هذه القضية قد فصل فيها أَحَكم الحاكمين في نصٍّ مُحْكَم تنزيله؛ إذ قال - تعالى -: {فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: ٩٥]؛ فما يحدث من خلاف في الأحكام الشرعية، فإن مردَّه إلى كتاب الله وسنَّة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، هذا ما يستشعره بالضرورة كلُّ منقادٍ لأمر الله وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم.

وأما الاحتجاج بخلاف الفقهاء في ترك العمل بالنصوص فهو قلب للقضية؛ إذ أصبح حكم الله ورسوله حينها متوقِّفًا على كلام الفقهاء؛ فما دام ثَمَّ قول فقهي مخالف، فالنصوص متعطِّلة لحين الاتفاق على العمل بها، وبدلًا من أن تُحَاكَم أقوال الفقهاء لنصوص الوحي، تصبح دلالة الوحي متوقِّفة حتى يتمَّ الاتفاق على مفهومها.

لا شك أن هذه ممارسة بعيدة كلَّ البعد عمَّا كان عليه الفقهاء في خلافاتهم الفقهية؛ فهم وإن اختلفوا في كثير من المسائل إلا أنهم متفقون - قطعًا - على أن دلالة النصوص هي الحاكمة عليهم وأن أقوالهم تتلاشى مع حضور الوحي، ولم يكن أحد منهم يشترط (الإجماع) على النص حتى يتمَّ العمل به، ولا كان خلاف الفقهاء سقفًا يحول دون نفوذ شعاع الوحي، وقد كان هذا مفهومًا متقرِّرًا لدى جميع فقهاء المذاهب؛ فقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن المختلَف في تحريمه لا يكون حلالًا.

حيث يقول: (هذا مخالف لإجماع الأمة، وهو معلوم البطلان بالاضطرار من دين الإسلام)[1]. وحَكَم الفقيه ابن حزم على مَنْ هذا حاله، فقال: (ولو أن امرأً لا يأخذ إلا بما أجمعت عليه الأمة فقط، ويترك كلَّ ما اختلفوا فيه مما قد جاءت فيه النصوص، لكان فاسقًا بإجماع الأمة)[2]، كما حكى ابن القطَّان اتفاق العلماء على حرمة ترك ما صحَّ من الشرع والاكتفاء فقط بما أُجمِع عليه[3].

ويطول المقام في تتبُّع أقوال الفقهاء في هذا الأصل الذي نختمه بهذه الخلاصة التي حرَّرها الحافظ ابن عبد البر: (الاختلاف ليس بحجَّة عند أحد عَلِمْتُه من فقهاء الأمة؛ إلا من لا بصر له ولا معرفة عنده ولا حجَّة في قوله)[4]. ولا شكَّ أنَّ هذا موقف صارم، ورأي شديد ضدَّ من يعطِّل دلالة النصوص بحجَّة الخلاف لإدراك الفقهاء لِمَا في هذا الرأي من جنوح عن حقِّ التعظيم والانقياد الواجب للنص الشرعي.

خلاف الفقهاء

إن خلاف الفقهاء في القضايا الفقهية كان لاختلافهم في تأويل النص؛ فهو من النص يبدأ وإليه يعود. ومَنْ خالف حُكْم النص، فإنما خالفه لاجتهاد يُثَاب فيه على جهده وصِدْق نيَّته؛ وإن خالف النص. ولم يكن حالهم حال المعرِض تمامًا عن النص، وبعد أن حسم خياراته وحدَّد موقفه بحسب المفاهيم والقيم التي يؤمن بها رجع للنصِّ الشرعي؛ ليبحث عن مخرج وحلٍّ لمشكلة النصِّ يتمكَّن بها من تخفيف حدَّة الاعتراض التي لا يطيقها فجاء بزورق الخلاف الفقهي؛ فهل يستويان؟

ومن طريف القوم: أنَّهم – مع كلِّ هذا - حين يأتي الحكم المجمَع عليه بين فقهاء الإسلام ويتأكَّد لهم اتفاق فقهاء الإسلام على حكمٍ من الأحكام التي لا تروق للذائقة العصرية؛ فإن بوصلة التفكير لديهم يتحرَّك سهمها إلى الجهة المقابلة فيتذكَّر أن الإجماع من الأساس مشكوك فيه ويورد بعض شُبَه منكري الإجماع في التشكيك في حجِّية الإجماع أو إمكانية وقوعه واستحالة الجزم بنفي وجود قول فقهي معيَّن.

حتى وإن تمكَّنتَ - بعد هذا كلِّه - من إثبات الإجماع وأوقفتَه بعينيه على دلائل الإجماع؛ فإن بوصلة (الزورق) الفقهي سترفع لافتة: أن ثَمَّ اختيارات فقهية من المعاصرين، ومن غير المتخصِّصين - عند الحاجة إليهم - تخالف في هذا، وأنه يراه القول الموافق للنص الشرعي!

فهذا التفكير المنطقي يشترط الإجماع للاتفاق على النص، وحين يأتي الإجماع يشكِّك في صحته وإمكانيَّته، وحين يزول هذا التشكيك يرجع ليتمسَّك بأي قَشَّة من أقوال المعاصرين! هل لهذه (الظاهرة) تفسير أو علاج خير من أن يقرأ فيها قول الله - تعالى -: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [المائدة: ٢٩].


الإشارات المرجعية:

  1. مجموع الفتاوى: 20/270.
  2. الإحكام في أصول الأحكام: 1/291، بل ذهب ابن حزم إلى أبعد من هذا، فقال عن هذا القول: (بل قد أصبح الإجماع على أن قائل هذا القول معتقدًا له كافر بلا خلاف؛ لرفضه القول بالنصوص التي لا خلاف بين أحد في وجوب طاعتها)، الإحكام: 1/481. 
  3. انظر: الإقناع في مسائل الإجماع: 1/65. 
  4. جامع بيان العلم وفضله: 2/115.

المصدر:

فهد بن صالح العجلان، معركة النص، المجموعة الأولى.

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.
اقرأ أيضا
أراكان مأساة شعب يباد | مرابط
تاريخ توثيقات

أراكان مأساة شعب يباد


وكانت بورما منذ سيطرتها على أراكان المسلمة عام 1784م تحاول القضاء على المسلمين ولكنها فقدت سلطاتها بيد الاستعمار البريطاني عام 1824م وبعد مرور أكثر من مائة سنة تحت سيطرة الاستعمار نالت بورما الحكم الذاتي عام 1938م وأول أمر قامت به بورما بعد الحكم الذاتي هو قتل وتشريد المسلمين في جميع مناطق بورما حتى في العاصمة رانجون واضطر أكثر من 500000 خمسمائة ألف مسلم إلى مغادرة بورما

بقلم: ياسر الفخراني
815
فقه النصر والتمكين | مرابط
فكر

فقه النصر والتمكين


إن فقه التمكين يعني دراسة أنواعه وشروطه وأسبابه ومراحله وأهدافه ومعوقاته ومقوماته من أجل رجوع الأمة إلى ما كانت عليه من السلطة والنفوذ والمكانة في دنيا الناس وتطبيق شرع الله عز وجل وفي هذا المقال المختصر يضغ أمامنا الكاتب علي محمد الصلابي بعض الإضاءات الموجزة فيما يخص هذا الموضوع

بقلم: د علي محمد الصلابي
2932
من علامات الساعة: ضياع أمانة الدين ج2 | مرابط
تفريغات

من علامات الساعة: ضياع أمانة الدين ج2


إن الأمانة اسم عام لكل تكليف كلفناه ربنا تبارك وتعالى أو الرسول عليه الصلاة والسلام كما في قول الله عز وجل:إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولاالأحزاب:72 فالأمانة هي كلمة: لا إله إلا الله بتكاليفها هذه هي التي أشفقت السماوات والأرض والجبال عن حملها ومن علامات الساعة ضياع الأمانة وبين يديكم تفريغ لجزء من محاضرة للشيخ أبو إسحق الحويني يتحدث فيه عن ضياع الأمانة في زمننا

بقلم: أبو إسحق الحويني
964
شبهة الأخطاء اللغوية في القرآن: نصب الفاعل | مرابط
أباطيل وشبهات

شبهة الأخطاء اللغوية في القرآن: نصب الفاعل


يعلق بعض المشككين حول الآية وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إنى جاعلك للناس إماما قال: ومن ذريتى قال لا ينال عهدى الظالمين حيث ووقع بصرهم على كلمة الظالمين وصورت أوهامهم أن فيها خطأ نحويا لأنها عندهم فاعل والفاعل حكمه الرفع لا النصب فكان حقه أن يكون هكذا: لا ينال عهدى الظالمون لأنه جمع مذكر سالم وعلامة رفعه الواو وبهذا تخيلوا بل توهموا أن القرآن لا سمح الله قد أخطأ فنصب الفاعل الظالمين ولم يرفعه الظالمون هذا هو منشأ هذه الشبهة وبين يديكم الرد عليها

بقلم: مجموعة كتاب
964
استرداد مقولة الإمبريالية كمقولة تحليلية | مرابط
تفريغات

استرداد مقولة الإمبريالية كمقولة تحليلية


الحل الصهيوني للمسألة اليهودية مثلا هو الحل الاستعماري عندك يهود زيادة إما تحرقهم أو ترسلهم فلسطين وهكذا تحل قضية الأقليات في المجتمعات المدنية عندك بضائع أرسلها للمستعمرات وهكذا أوروبا حلت مشاكلها عن طريق تصديرها للشرق وأسست مجتمعات مدنية

بقلم: عبد الوهاب المسيري
545
التقدمية والرجعية | مرابط
فكر مقالات

التقدمية والرجعية


وإذا كان في هذا العصر تقدم العلم وازدهار الحضارة فإن فيه الحروب المدمرة والقنابل المبيدة والتهتك والفساد وفي هذا العصر تركنا اليهود يسلبوننا قطعة من قلب بلادنا ويستأثرون بها دوننا ويشردون أبناءها حتى يتفرقوا فوق كل أرض وتحت كل نجم وقبل ألف سنة كان أسلافنا يركبون الإبل لا يعرفون السيارات ولا الطيارات ويعيشون على السرج ومصابيح الزيت ولكنهم كانوا سادة الدنيا وكانوا أعز الأمم

بقلم: علي الطنطاوي
1503