الشعر الجاهلي واللهجات ج3

الشعر الجاهلي واللهجات ج3 | مرابط

الكاتب: محمد الخضر حسين

653 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

سيادة لغة قريش في البلاد العربية

قال المؤلف في ص٣٨: «فالمسألة إذن هي أن نعلم: أسادت لغة قريش ولهجتها في البلاد العربية وأخضعت العرب لسلطانها في الشعر والنثر قبل الإسلام أم بعده؟ أما نحن فنتوسط ونقول: إنها سادت قبيل الإسلام حين عظم شأن قريش وحين أخذت مكة تستحيل إلى وحدة سياسية مستقلة مقاومة للسياسة الأجنبية التي كانت تتسلط على أطراف البلاد العربية، ولكن سيادة لغة قريش قبيل الإسلام لم تكن شيئًا يذكر ولم تكن تتجاوز الحجاز.»

يعترف المؤلف بأن لسان قريش أحرز سيادة لعهد الجاهلية ثم يزعم أن هذه السيادة لم تمتد في عصر الجاهلية إلا قليلًا عبَّر عنه بقبيل الإسلام، وقد شعر بأن المقدر لطور من أطوار الأمم يحتاج إلى بيان بدئه وأصل نشأته، فذكر أن مبدأ تلك السيادة الحين الذي عظم فيه شأن قريش وأخذت مكة تستحيل فيه إلى وحدة سياسية مستقلة مقاومة للسياسة الأجنبية التي كانت تتسلط على أطراف البلاد العربية.

متى أخذت قريش في نهضة عربية ترمي إلى مقاومة السياسة الأجنبية؟

حدثنا التاريخ أن أحد ملوك الحبشة باليمن خرج بجيش قبل البعثة النبوية بنحو أربعين سنة وأقبل يشق البلاد العربية حتى نزل بالحرم ليهدم البيت الحرام، ولولا حماية الله لأصبحت الكعبة خاوية على عروشها.

حدثنا التاريخ أن حربًا وقعت بين الفرس وبعض القبائل العربية في صدر البعثة النبوية وهي المسماة بيوم ذي قار، ولم نتلمح من خلال هذه الواقعة أو من ورائها صلة بين تلك القبائل وهؤلاء القائمين بنهضة سياسية عربية.

فإن كان المؤلف لا يصدق بخبر هذا اليوم، فليأتنا بحديث أوثق منه سندًا يشهد بأن قريشًا قامت قبيل الإسلام بحركة ترمي إلى وحدة عربية سياسية.

لا نطالبه بإثبات أن قريشًا دخلت أو اشتركت في حرب مع أمة أجنبية، ولا نطالبه بإثبات أنها كانت تأتي إلى مثل «أولئك الذين قاموا يجادلون النبي صلى الله عليه وسلم بقوة الجدال والقدرة على الخصام والشدة في المحاورة» وترسل منهم وفودًا يطوفون في البلاد ويعقدون بين هذه القبائل وحدة سياسية عربية. بل نطالبه بأيسر من هذا كله، وهو أن هذه القبائل كانت تحج البيت الحرام في كل عام ويسابق شعراؤها وخطباؤها في حلبة البيان، فهل يستطيع أن يأتينا ببيت من قصيدة أو فقرة من خطبة قام بها قرشي أو غير قرشي يدعو بها إلى «وحدة سياسية مستقلة مقاومة للسياسة الأجنبية»؟

ولعل المؤلف لا يجد في تاريخ العرب قبل الإسلام سوى أن لمكة حرمة وللغة قريش فضل فصاحة، فمن اعترف للسان قريش بسيادة في الجاهلية وأراد أن يضع مبدأ لهذه السيادة، فليبحث عن منشأ تلك الحرمة، ثم ليبحث عن العصر الذي أخذت فيه لغة قريش زخرفها، فإن هو اهتدى إلى ذينك الأمرين سبيلًا، أمكنه تقدير زمن تلك السيادة تقديرًا يتلقاه جهابذة التاريخ بارتياح.

 

الشعر وألفاظ القرآن

قال المؤلف في ص٣٨: «ولندع هذه المسألة الفنية الدقيقة التي نعترف بأنها في حاجة إلى تفصيل وتحقيق أوسع وأشمل مما يسمح لنا به المقام في هذا الفصل إلى مسألة أخرى ليست أقل منها خطرًا، وإن كان أنصار القديم سيجدون شيئًا من العسر والمشقة؛ لأنهم لم يتعودوا هذه الريبة في البحث العلمي، وهي أنا نلاحظ أن العلماء قد اتخذوا هذا الشعر الجاهلي مادة للاستشهاد على ألفاظ القرآن والحديث ونحوهما ومذاهبهما الكلامية. ومن الغريب أنهم لا يكادون يجدون في ذلك مشقة ولا عسرًا، حتى إنك لتحس كأن هذا الشعر الجاهلي إنما قدّ على قد القرآن والحديث كما يقد الثوب على قدر لابسه لا يزيد ولا ينقص عما أراد طولًا وسعة، إذن فنحن نجهر بأن هذا ليس من طبيعة الأشياء، وأن هذه الدقة في الموازنة بين القرآن والحديث والشعر الجاهلي لا ينبغي أن تحمل على الاطمئنان إلا الذين رزقوا حظًّا من السذاجة لم يتح لنا مثله. إنما يجب أن تحملنا هذه الدقة في الموازنة على الشك والحيرة، وعلى أن نسأل أنفسنا أليس يمكن أن لا تكون هذه الدقة في الموازنة نتيجة من نتائج المصادفة، وإنما هي شيء تكلف وطلب وأنفق فيه أصحابه بياض الأيام وسواد الليالي.»

كانت سوق الأدب في البلاد العربية قائمة، وبضاعة الشعر نافقة. قرائح ترسل المعاني نظمًا، وقلوب سرعان ما تحيط به حفظًا. ويساعد القرائح على ما تصدر من الشعر، والقلوب على ما تعي من بدائعه أن ليس هناك علوم كثيرة وفنون شتى، تتجاذب القرائح ويذهب كل منها بنصيب من الفكر، أو يحوز ناحية من القلب. فعلى الباحث في تاريخ الأدب أن يدرس حال العرب كأنه يعيش بين ظهرانيهم، ولا يتسرع إلى إنكار أن تصدر ربيعة أو قيس أو تميم من الشعر في عصر أكثر مما تصدر الشام أو مصر أو العراق في مثله.

على أن إقامة الشاهد في تفسير القرآن غير موقوف على الشعر الجاهلي بل يتناوله العلماء من شعر من نشأوا في الإسلام كالفرزدق وجرير والأخطل وعمر بن أبي ربيعة. ومن التفت في تاريخ الأدب يمينًا وشمالًا ونظر إلى كثرة من نبت في البلاد العربية من الشعراء جاهلية وإسلامًا، عجب لفقدهم الشاهد لكلمة غريبة في القرآن أو وجه من وجوه إعرابه أشد من عجبه لوقوع يدهم عليه كلما نقبوا عنه، فمن النظر الخاسئ أن نحكم على هذه الشواهد بالاصطناع وندخل إلى الحكم عليها من باب موازنتها للمستشهد عليه بزعم أن هذه الموازنة منافية لطبيعة الأشياء.

فإذا كان القرآن واردًا بلسان عربي مبين، وكانت المواضع التي يحتاج في بيانها إلى الشاهد معدودة، وكان الشعر العربي في ثروة طائلة، أفيصدق أحد أن سوق بيت يطابق المعنى المستشهد عليه مناف لطبيعة الأشياء!

والصواب أن نذهب في نقد هذه الشواهد من نواح غير هذه الناحية، كجهة النظر في حال الراوي، أو جهة الذوق الذي تقلب في فنون الشعر وعرف طرز كل عصر ونزعة كل شاعر.

ونحن لا ننكر أن يكون فيما يساق للاستشهاد على تفسير القرآن شعر مختلق ينبه عليه أهل الدراية بفن الأدب من قبل، أو ينقده مؤرخ أو أديب مطبوع من أهل هذا العصر، والذي لا يقبله الراسخون في العلم أن يطرح هذا الشعر الذي يدخل في تفسير آية أو حديث لمجرد الدقة في الموازنة بينه وبين الآية أو الحديث.

يعلم الذين يدرسون التفسير والحديث بحق أن ما يستشهد به في هذين العلمين ليس بالكثير الذي لو ثبت اصطناعه صحت دعوى أن هذا الشعر الذي ينسب إلى الجاهلية ليس منهم في شيء، فهذا تفسير الكشاف الذي يعد من أكثر التفاسير حملًا للشواهد اللغوية إنما يحتوي نحو ألف بيت، وفي هذه الشواهد كثير من أشعار المخضرمين كحسان ولبيد والنابغة الجعدي، والإسلاميين كرؤبة والفرزدق وجرير والعجاج وذي الرمة وأبي تمام وأبي الطيب والمعري وغيرهم.

ثم إن كثيرًا من الشواهد المعزوة للجاهلية تجدها في هذه المطولات التي يستحي المؤلف أن يقول إنها اصطنعت لأجل أن ينتزع منها شاهد على القرآن أو الحديث، وما لم يكن من هذه المطولات تجده واردًا في قصائد أخرى يصعب ادعاء أن تكون اختلقت لأجل ما تحتوي عليه من البيت المحتاج إليه في الاستشهاد.

فلو بحث المؤلف هذه الشواهد بروية لوجد الشعر الجاهلي الذي يحتمل أن يكون مصطنعًا لأجل الاستشهاد على القرآن مقدارًا لو ثبت وضعه لم يكن له أثر في الدلالة على أن الشعر الجاهلي مزور مصنوع.

 

حفظ الشعر

خرج المؤلف بعد هذا إلى الحديث عن ابن عباس — رضي الله عنه — وأتى على قصة نافع بن الأزرق، ووسمها بميسم الوضع، ولم يستند في هذا الحكم إلا إلى أن تصديقها من السذاجة وأن أهل الفقه لا يشكون في وضعها. ومرمى كلامه إلى إنكار أن يبلغ ابن عباس في حفظ الشعر منزلة تخوله أن يجيب عن نحو مائتي مسألة في التفسير ويسوق على كل مسألة بيتًا من الشعر، ثم ردد الغرض الداعي إلى وضعها على وجوه، وهي إثبات أن ألفاظ القرآن كلها مطابقة للفصيح من لغة العرب، أو إثبات أن عبد الله بن عباس كان من أقدر الناس على تأويل القرآن ومن أحفظهم لكلام العرب الجاهليين، أو إفادة معاني طائفة من ألفاظ القرآن في صورة قصة ثم خفف من غلوائه شيئًا وقال في ص٤٠: «ولعل لهذه القصة أصلًا يسيرًا جدًّا، لعل نافعًا سأل ابن عباس عن مسائل قليلة فزاد فيها هذا العالم ومدها حتى أصبحت رسالة مستقلة يتداولها الناس.»

ليس بالبعيد عن ابن عباس أو غيره ممن يصرف ذهنه إلى رواية الشعر أن يحفظ منه ما يحتوي نحو مائتي بيت تصلح للاستشهاد على تفسير طائفة من ألفاظ القرآن، وليس بالغريب أن يكون ابن عباس أو ذو ألمعية كابن عباس قد بلغ في سرعة الخاطر وجودة الذاكرة أن يحضره البيت الصالح للاستشهاد عندما تطرح إليه المسألة، فقد رأينا من بعض أساتيذنا ما يجعل هذه القصة حادثًا غير خارق لسنة الله في الخليقة، كنا نرى أستاذنا أبا حاجب يحفظ من الشعر الفصيح ما يجعله قادرًا على أن يضرب منه المثل للمعاني والوقائع التي تخطر في الحال، وتكاد لا تسأله عن معنى لفظ غريب أو وجه من الإعراب إلا أتاك بالشاهد على البداهة أو بعد تأمل قريب، وقد يقول قائل: إن هذا الشأن أيسر من شأن ابن عباس؛ لأن ذلك الأستاذ قد حفظ تلك الشواهد من مثل التسهيل والمغني وتاج العروس وغيرها من الكتب التي تربط الشواهد بمسائلها. أما قصة ابن عباس فيظهر منها أنه يتناول الشاهد من بين ذلك الشعر الكثير ويضعه على المسألة مثلما يصنع المجتهدون في علم اللغة، وذلك يحتاج إلى بحث وأناة، فالجواب عن نحو مائتي مسألة بمثل تلك السرعة فيه غرابة تلفت النظر إلى القصة أو تقدح الريبة في صحتها.

هذا البحث مقبول ولكني أريد أن أقول: إن هذه الغرابة وحدها لا تكفي في الحكم على القصة بالوضع، فمن المحتمل أن يكون ابن عباس ممن يقضي جانبًا من وقته في التماس الشواهد على تفسير الغريب من القرآن حيث رأى الناس مقبلة أو محتاجة إلى هذا النوع من العلم، فيكون جوابه عن مسائل ابن الأزرق نتيجة بحث سابق وتأمل غير قليل، فلا غرابة أن يلقم ابن الأزرق الجواب عقب كل مسألة يطرحها عليه.

وإذا كانت الغرابة لا تكفي للقطع باصطناع هذه القصة فلنذهب في البحث عنها من جهة الرواية لعلنا نجد في البحث من هذه الجهة هدى.

روى ابن الأنباري في كتاب الوقف والابتداء نبذة منها بسند يتصل بمحمد بن زياد اليشكري عن ميمون بن مهران. وميمون بن مهران ثقة، ولو اطردت القصة مارة على رجال من مثله إلى ابن الأنباري لم نجد مانعًا من دخولها في تاريخ الأدب الصحيح، ولكن محمد بن زياد اليشكري مطعون في أمانته، قال ابن معين: كان ببغداد قوم كذابون يضعون الحديث منهم محمد بن زياد، وقال أحمد بن حنبل بعد أن وصفه بوضع الحديث: ما كان أجرأه! يقول حدثنا ميمون بن مهران في كل شيء.

وروى الطبراني في معجمه الكبير قطعة منها على طريق جويبر عن الضحاك بن مزاحم، والضحاك بن مزاحم لم يلق ابن عباس، وهو في نفسه موثوق به عند قوم مضعف عند آخرين، وأما جويبر فمعدود من الضعفاء، سئل عنه علي بن المديني فضعفه جدًّا وقال: جويبر أكثرَ على الضحاك، روى عنه أشياء مناكير.

وروى هذه المسائل الجلال السيوطي في كتاب الإتقان بسند يبتدئ بشيخه ابن هبة الله محمد بن علي الصالحي، وينتهي إلى أبي بكر محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري، وفي هذا السند رجال يوثق بروايتهم ولكنك تجد من بينهم آخرين نقدهم علماء الحديث وطرحوهم إلى طائفة وضاع الأحاديث، كمحمد بن أسعد العراقي المعروف بابن الحكم، وعيسى بن يزيد بن دأب الليثي.

ومتى لم نجد في طريق رواية القصة ما يثبت على النقد أصبحت القصة من قبيل ما يروى لفائدته الأدبية، وضعفت عن أن تستقل بالدلالة على معنى تاريخي لا شبهة فيه.

 

التكلف والانتحال

ادعى المؤلف أن التكلف والانتحال للأغراض التعليمية الصرفة كان شائعًا معروفًا في العصر العباسي، وقال: لا أطيل ولا أتعمق في إثبات هذا، إنما أحيلك إلى كتاب الأمالي لأبي علي القالي وإلى ما يشبهه من الكتب، ثم قال في ص٤١: «سترى مثلًا بناتًا(9) سبعًا اجتمعن وتواصفن أفراس آبائهن فتقول كل واحدة منهن في فرس أبيها كلامًا عربيًّا ومسجوعًا يأخذه أهل السذاجة على أنه قد قيل حقًّا، في حين أنه لم يقل، وإنما كتبه معلم يريد أن يحفظ تلاميذه أوصاف الخيل وما يقال فيها، أو عالم يريد أن يتفيهق ويظهر كثرة ما وعى من العلم. وقل مثل ذلك في سبع(10) بنات اجتمعن وتواصفن المثل الأعلى للزوج الذي تطمع فيه كل واحدة منهن، فأخذن يقلن كلامًا غريبًا مسجوعًا في وصف الرجولة والفتوة والتعريض والتلميح إلى ما تحب المرأة من الرجل.»

لا يعنينا أن تبقى قصتا البنات السبع في هذا الأدب القديم، أو تطرحا من حسابه وتذهبا كما ذهب أولئك البنات عينًا وأثرًا، والذي يعنينا نقده هنا أن المؤلف يكاد يذهب إلى أن ما يذكر في تاريخ الأدب قسمان: ما هو ثابت قطعًا، وما هو مكذوب لا محالة، والمعروف أن من بين هذين القسمين قسمًا يقف فيه المؤرخ المحقق فلا يستطيع أن يقول عليه: إنه موثوق بصحته، ولا يستطيع أن يصفه بالكذب الذي لا مرية فيه، وشأنه فيما يقضي عليه بالكذب قضاء فاصلًا أن يذكر الطريق الذي وصل منه إلى معرفة اصطناعه، والمؤلف حكم على حديث البنات ولم يأت بدليل أو أمارة على اختلاقه ما عدا وصفه له بأنه كلام غريب مسجوع، إذًا لم ينكره المؤلف إلا لأنه غريب مسجوع، واشتمال الكلام على الغرابة والسجع غير كاف في الحكم عليه بالاختلاق.

أما الغرابة فإن المعزو إليهن هذا الحديث عرب، والألفاظ من نوع اللغة المستعملة في محاوراتهم ومسامراتهم، وقد تكون غريبة بالنسبة إلى الناشئ في غير عهدهم حيث لا تلاقيه هذه الكلمات في كلام فصحائهم إلا قليلًا.

وأما السجع فنحن نعلم أنه أقرب منالًا وأيسر من صناعة الشعر، بل هو أدنى مأخذًا من الرجز؟ والتواتر شاهد بأن في الناس من يقول الشعر أو الرجز على البداهة، ومتى صح ارتجال الكلام الموزون لم يكن في الحديث الجاري على أسلوب السجع غرابة تدعو إلى الحكم عليه بالاصطناع، ومن المحتمل أن يكون الفتيات كالفتيان يتدربن لذلك العهد على طريقة السجع حتى ينقاد لهن ويجري على ألسنتهن كما يجري عليها المرسل من القول، ونحن لا نذهب إلى أن مثل هذه القصة داخل في التاريخ الموثوق بصحته؛ لأن طريق روايتها لا يكفي في الدلالة على أنها وقعت حقًّا، ونرى مع هذا أن الباحث الحكيم وهو الذي يفصل الحكم على قدر البحث لا يقول على حديث: «إنه لم يقل» إلا أن يأتي في بحثه بما يستدعي هذا الحكم القاطع، وقد عرفتم أن المؤلف إنما وضع حكمه على غرابة الكلام وسجعه وهما جائزان على العربي القح، فلا تدخل هذه القصة وأمثالها في قبيل ما يحكم عليه بأنه كذب لا محالة، ولا تتعدى في نظر المؤرخ المحقق موقع الظن الذي يسوغ له تدوينها لينتفع بما فيها من أدب وليتألف من مجموع أخبارها ما يكون كالمرآة ينظر فيه كيف كان حال المرأة في الجاهلية.

 

أسباب وضع الشعر؟

قال المؤلف في ص٤١: «ولكني بعدت عن الموضوع فيما يظهر، فلأعد إليه لأقول ما كنت أقول منذ حين، وهو أن من الحق علينا لأنفسنا وللعلم أن نسأل، أليس هذا الشعر الجاهلي الذي ثبت أنه لا يمثل حياة العرب الجاهليين ولا عقليتهم ولا ديانتهم ولا حضارتهم بل لا يمثل لغتهم، أليس هذا الشعر قد وضع وضعًا وحمل على أصحابه حملًا بعد الإسلام؟ أما أنا فلا أكاد أشك الآن في هذا. ولكننا محتاجون بعد أن ثبتت لنا هذه النظرية أن نتبين الأسباب المختلفة التي حملت الناس على وضع الشعر وانتحاله بعد الإسلام.»

ختم المؤلف الكتاب الأول بهذه الفقرات، وكأنه آنس في نفسه الفوز على «أنصار القديم» فدارت في رأسه نشوة وانطلق يمزح معك بقوله: «ولكني بعدت عن الموضوع فيما يظهر.» يقول هذا وهو لا يشعر بما تصنع الأقلام فيما تركه خلفه من آراء منهوبة ومعان لا توجد إلا في خياله.

يقول المؤلف: إن من الحق علينا أن نسأل: أليس هذا الشعر الجاهلي الذي ثبت أنه لا يمثل حياة العرب الجاهليين ولا عقليتهم ولا ديانتهم ولا حضارتهم بل لا يمثل لغتهم.

ادعى المؤلف فيما سلف أن الجاهليين كانوا في علم وذكاء وقوة عقل فوق ما يمثله هذا الشعر الجاهلي، ولم يفرغ على هذه الدعوى دليلًا غير الآيات الدالة على أنهم كانوا يجادلون النبي صلى الله عليه وسلم ويحاورونه في الدين وفيما يتصل بالدين من تلك المسائل المعضلة التي ينفق فيها فلاسفة أمثال المؤلف حياتهم دون أن يوفقوا إلى حلها. وقد جاذبناه أطراف المناقشة هنالك، وأريناك رأي العين أن هذا الشعر الجاهلي أنفس بضاعة تفاخر بها أمة ذات ذكاء فطري وتفكير لا يستمد من دراسة أو تعليم.

وقد تساءل قبل المؤلف مرغليوث وجرجي زيدان عن هذا الشعر الجاهلي لماذا لم يمثل ديانة العرب؟ أما مرغليوث فقد اتخذ قلة اشتمال الشعر الجاهلي على الآثار الدينية كما اتخذه المؤلف شاهدًا على أن هذا الشعر ليس من الجاهلية في شيء، وأما جرجي زيدان فلكونه أصبر على البحث من المؤلف وأعرف بحال الشرق من مرغليوث أجاب عن هذا السؤال بما قصصناه عليكم، وخلاصته أن حال العرب لذلك العهد ليست كحال من يُعنَى في شعره بكثرة التعلق بالمعاني الدينية، وأن المسلمين لم يكونوا ممن يرغب في نقل شعر يحتوي على آثار ديانات يرونها غير مستقيمة، وليس بمستنكر عليهم أن يحيدوا بروايتهم عن بيت أو أبيات يظهر فيها أثر نحلة أو ديانة قاموا بالدعوة إلى شرع يريد الظهور عليها، وعلى الرغم من عدم احتفالهم برواية هذا النوع من الشعر فقد بقي له أثر في بعض الكتب الأدبية أو التاريخية.

يقول المؤلف: إن هذا الشعر لا يمثل حضارتهم، ولم يبحث في هذا الموضع ولا فيما سلف عن هذه الحضارة حتى يظهر أمرها ويوازن بينها وبين هذا الشعر ليعلم: هل هو ملائم لتلك الحضارة أم غير ملائم لها، ولم يكن منه فيما سبق سوى أنه كان يدخل هذا المعنى في أثناء حديثه عن قوة عقليتهم واستنارتهم وعلمهم بالسياسة، كقوله: كانوا أصحاب عيش فيه لين ونعمة، وقوله: وإذا كانوا أصحاب علم ودين وسياسة فما أخلقهم أن يكونوا أمة متحضرة راقية، وكذلك كان يدخل في أثناء الحديث اسم الثروة دون أن يدل على أسبابها أو يأتي على شيء من آثارها.

والصواب أن من ينظر في هذا الشعر الجاهلي بشيء من التدبر، وينظر في حضارة القبائل التي عاش فيها أولئك الشعراء بأي مرآة شاء وعلى أي مطلع تسنى له، لا يستطيع أن يدرك تفاوتًا بين هذا الشعر وتلك الحضارة إلا إذا اشتد حرصه على أن يقول: إن هذا الشعر ليس من الجاهلية في شيء.

فهذا الشعر الجاهلي يمثل من الحضارة ما يمثله شعر الإسلاميين قبل أن تلبس البلاد العربية ثوب الحضارة الذي نسجه فاتحو بلاد قيصر وكسرى، ولا ينبغي لأحد أن يزعم أن الحضارة في الجاهلية كانت أجلى مظاهر وأوفى وسائل من حضارة العرب لعهد ظهور الإسلام.

يقول المؤلف: إن هذا الشعر لا يمثل لغتهم، وهو إنما يبني هذا القول على نظرية العزلة العربية ونظرية جهلهم وغباوتهم وتوحشهم، ولو نظر إلى أن في الأمة العربية علمًا وذكاء، ونظر إلى أنها كانت ترتبط بصلة التعارف وتعقد مجامع تشهدها القبائل على اختلاف أوطانها، لسهل عليه أن يفهم كيف تكونت على طول الأيام لغة أدبية تتناولها ألسنة البلغاء حين تنطلق في شعر أو خطابة.

فالشعر الجاهلي يمثل اللهجة التي يتحراها الشعراء لتضرب قصائدهم في اليمين واليسار، وتسير مسير المثل لا تقف في واد، ولا يختص بها قوم دون آخرين. وقد يظهر على لسان الشعر أثر من لهجته الخاصة، وربما غيره الرواة إلى اللهجة الأدبية من غير أن يخسر وزن القصيدة حرفًا.

يقول المؤلف: ولكننا محتاجون بعد أن تبينت هذه النظرية أن نتبين الأسباب التي حملت على وضع الشعر، وهذا صريح في أنه انتهى من تقرير النظرية، وأنه نثل كنانته وكنانة مرغليوث في الاستشهاد عليها، وإنما يريد بعد هذا أن يبحث في الأسباب الحاملة على الانتحال، ونحن محتاجون بعد أن سقطت هذه النظرية أن نناقشه في بحث هذه الأسباب؛ لأنه رمى فيه عن القوس التي رمى عنها في هذه النظرية البائسة، وليس من اللائق أن ندعه يضرب في غير مفصل ويمشي في غير طريق، وإنه لتعز علينا أن تضع هذه الطائفة القليلة من المستنيرين أقدامها على أثره، فتستبدل بالصالح من مألوفها جديدًا لا خير فيه.

 


 

المصدر:

محمد الخضر حسين، نقض كتاب في الشعر الجاهلي، ص85

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#طه-حسين #في-الشعر-الجاهلي
اقرأ أيضا
عين الخصم! | مرابط
مقالات

عين الخصم!


عندما تحاور من يستشكل أو يشكك في أحكام الإسلام فلا يفوتنك شيء مهم وهو أن لدى بعض من تحاورهم خللا منهجيا يجب أن تسلط الضوء عليه لتظهر قوة موقفك فمثلا قد يسألونك عن سبب التحريم للحم الخنزير وفي خلفية سؤالهم أنهم يطلبون مصدرا معينا من المعارف وهو المصدر الحسي والتجريبي والواقع أن اختزال المعرفة في الحس والتجريب خلل منهجي سائد في الغرب

بقلم: د. طارق عنقاوي
304
شبهة: اختلاط الرجال والنساء أثناء الوضوء في زمن الرسول | مرابط
أباطيل وشبهات

شبهة: اختلاط الرجال والنساء أثناء الوضوء في زمن الرسول


وأما الاحتجاج بحديث: كان الرجال والنساء يتوضؤون في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم جميعا..فلا أدري كيف يفهم منه الاختلاط فكيف يقول النبي عن الصلاة: اخير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها وخير صفوف النساء آخرها.. وهو قد جمعهم قبل الصلاة يتوضؤون جميعا ثم يفرقهم وقت الصلاة ولا ريب أن من فهم هذا الفهم أساء بالنبي فهما وتشريعا والمقصود به غير هذا المعنى.

بقلم: عبد العزيز الطريفي
335
ذكر ما يصدأ به القلب | مرابط
اقتباسات وقطوف

ذكر ما يصدأ به القلب


قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه وإن زاد زادت حتى تعلو قلبه فذلك الران الذي ذكر الله عز وجل في كتابه كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون وقال حذيفة إذا أذنب العبد نكت في قلبه نكتة سوداء فإذا أذنب نكت في قلبه نكتة سوداء حتى يصير قلبه كالشاة الربداء

بقلم: ابن الجوزي
639
النهي عن تمني الموت والإجتهاد في الطاعة قبل مجيئة | مرابط
تعزيز اليقين اقتباسات وقطوف

النهي عن تمني الموت والإجتهاد في الطاعة قبل مجيئة


خرج الترمذي من حديث يحيى بن عبيد الله عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من أحد يموت إلا ندم قالوا وما ندامته يا رسول الله قال إن كان محسنا ندم أن لا يكون إزداد وإن كان مسيئا ندم أن يكون نزع وروى ابن أبي الدنيا عن أبي هشام الرفاعي حدثنا حفص بن غياث عن أبي مالك الأشجعي عن أبي حازم عن أبي هريرة قال مر النبي صلى الله عليه وسلم بقبر دفن حديثا فقال: لركعتان خفيفتان مما تحقرون أو تنفلون يراهما هذا في عمله أحب إليه من بقية دنياكم

بقلم: ابن رجب الحنبلي
1172
ليست السنة كلها تشريعا ج2 | مرابط
أباطيل وشبهات فكر مقالات

ليست السنة كلها تشريعا ج2


إن تقسيم السنة إلى تشريعية وغير تشريعية يمكن قبوله كإجراء فني اصطلاحي لفرز طبائع التصرفات النبوية وما يتصل بها من أحكام لكن المشكلة هو في تحقيق طبيعة الحدود الفاصلة بينهما وتحريك تلك الحدود ليخرج بعض ما كان محلا للتشريع عن أن يكون كذلك فليس صحيحا أن تخرج تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم من إطار الشريعة بذريعة صدور الاجتهاد منه صلى الله عليه وسلم أو بتعدد أدواره الحياتية وإنما المحكم في تحديد ما يدخل في إطار التشريع منها وما يخرج هو الشريعة نفسها والتي كشفت عن هذه المسألة بدقة ووضوح

بقلم: عبد الله العجيري وفهد بن صالح العجلان
702
شرح حديث إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة | مرابط
تفريغات

شرح حديث إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة


عنأبي هريرةقال: بينما النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مجلس يحدث القوم جاءه أعرابي فقال: متى الساعة فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث فقال بعض القوم: سمع ما قال فكره ما قال وقال بعضهم: بل لم يسمع حتى إذا قضى حديثه قال: أين أراه السائل عن الساعة قال: ها أنا يا رسول الله قال: فإذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة قال: كيف إضاعتها قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة

بقلم: أبو إسحق الحويني
1394