نساؤنا ونساء الإفرنج

نساؤنا ونساء الإفرنج | مرابط

الكاتب: علي الطنطاوي

257 مشاهدة

تم النشر منذ سنة

جاءني في البريد كتاب من سيدة فاضلة، لم تصرّح باسمها ولكن أسلوبها نمَّ على فضلها وأدبها، شكت فيه أشياء واقترحت أشياء، وكان مما جاء في كلامها قولها: "وانظر إلى ضيق الحياة التي تحياها المرأة العربية وسعة حياة المرأة الغربية، وقيد هذه وحرية تلك".

فوقفت عند هذه العبارة وفكرت فيها، وعزمت على أن أكتب إليها لأوضّح لها خطأها فيما ذهبت إليه، ثم ذكرت أني لا أعرف اسمها ولا عنوانها. فقلت: أجعلُ جوابها موضوع هذا المقال.

إن ما ظنته هذه السيدة يظنه كثير من السيدات، ولا يعترفن أن ذلك ظن وتخمين بل يرينه يقينًا وفوق اليقين؛ وأصدق جواب على هذا وأخصره لفظًا وأعمقه معنى، ما أجابت به تلك السيدةُ الأميركية الأستاذَ الشيخ بهجة البيطار.

الاستقلال في شؤون المال

حدثني الأستاذ أنه كان يتكلم عن المرأة المسلمة في إحدى محاضراته في أميركا ويذكر أن لها الاستقلال في شؤون المال، لا ولاية عليها في مالها لزوجها ولا لأبيها، وأنها إن كانت معسرة كُلِّف بنفقتها أبوها أو أخوها، فإن لم يكن لها أب أو أخ فأيُّ واحد من أقربائها الذين يرثونها ولو كان ابن عم عمها، وأن هذه النفقة تستمر إلى أن تتزوج أو يكون لها مال، وأنها إن تزوجت كلف زوجها بنفقتها ولو كانت تملك مليونًا وكان عاملًا لا يملك شيئًا ... إلى غير ذلك مما نعرفه نحن ويجهلونه هم عنا. فقامت سيدة أميركية من الأديبات المشهورات فقالت: "إذا كانت المرأة عندكم كما تقول فخذوني أعيش عندكم ستة أشهر ثم اقتلوني".

وعجب من مقالها وسأل عن حالها؛ فشرحت له حالها وحال البنات هناك، فإذا المرأة الأميركية تبدو حرة وهي مقيدة، وتُرى معززة وهي مهانة. إنهم يعظّمونها في التوافه ويحقرونها في جسيمات الأمور. يمسكون بيدها عند النزول من السيارة، ويقدمونها قبلهم عند الدخول للزيارة، وربما قاموا لها في الترام لتقعد أو فسحوا لها في الطريق لتمر، ولكنهم -في مقابلة ذلك- يسيئون إليها إساءات لا تحتمل.

حال المرأة الغربية

إذا بلغت البنت هناك سن الرشد قبض أبوها يده عنها وسد باب داره في وجهها، وقال لها: اذهبي فتكسّبي وكلي، فلا شيء لك عندي بعد اليوم. فتذهب المسكينة تخوض غمرة الحياة وحدها، لا يبالون أعاشت بجدِّها أم بجسدها، ولا يسألون هل أكلت خبزها بيديها أم بثدييها. وليس هذا في أميركا وحدها، بل هو شأن القوم في ديارهم كلها.

حدثنا أستاذنا الدكتور يحيى الشماع من ثلاث وثلاثين سنة (إثر عودته من دراسته في باريز) أنه ذهب إلى منزل أسرة دلوه عليها ليستأجر غرفة لديها، فقابل وهو داخل إلى الدار بنتًا خارجة منها في عينيها أثر الدمع، فسأل أن ما لها؟ قالوا له: هذه بنتنا، ولكنها انفصلت عنا لتعيش وحدها. قال: إنها تبكي. قالوا: لقد جاءت تستأجر غرفة عندنا فلم نؤجرها. قال: ولِمَه؟ قالوا: لأنها دفعت أجرة لها عشرين فرنكًا، وغيرها يدفع ثلاثين!

وإذا شككتِ في هذه القصة (ومن حقك الشك فيها؛ لأنها -بالنسبة إليك ولكل عربي- شيء يكاد يدخل في باب المستحيل)، إذا شككت فيها فاسألي الدكتور يؤكد لك أنه رآها وسمعها. ولقد قص علينا إخواننا الذين ذهبوا إلى أوربا وأميركا وخالطوا أهلها كثيرًا من أمثالها.

لقد ابتُذِلت المرأة هناك وذلت حتى صارت تبذل ما نراه نحن أعزّ شيء عليها، وهو العرض، في سبيل ما نراه أهون شيء علينا، وهو الخبز!

أما قرأتِ ما كتبه توفيق الحكيم عن الفتاة التي فرضت نفسها عليه وساكنته في الدار وعاشرته معاشرة الأهل (1)، لا تريد من ذلك إلاّ أن تجد سقفًا يكنُّها ومائدة تشبعها، ثم كيف ملّها فطردها؟

إن الفاسق عندنا، الفاسق يا سيدتي، يتبع هو المرأة ويبذل لها الغالي والثمين، لأنه لا يجدها إلاّ بمشقة ولا يصل إليها إلاّ بنصب.

استترت المرأة الشرقية فعزّت، وتمنّعت فطُلبت، وعُرضت الغربية فهانت لأن كل شيء معروض مهان.

كان الشاعر العربي الأول إذا بدا له من المرأة الكف أو المعصم دار رأسه، وثارت نفسه، وامتلأ بالحب جنانه وانطلق بالشعر لسانه؛ ذلك لأنها كانت مستترة مخبَّأة.

انتشار العري وكساد سوق الزواج

أما المرأة الغربية فإن الرجل يرى على الساحل أعلاها وأدناها، فينظر إلى ساقها فلا يثير في نفسه معنى ولا يحرك منه عاطفة ولا يرى فيه حياة. صار ساق المرأة ورِجل الكرسي وخشبة الباب سواء!

ومن هنا كسدت عندهم سوق الزواج. الزواج رباط دائم يرتبط به الرجل مختارًا ليصل إلى إرواء هذه الغريزة؛ هذا هو الدافع الأول إلى الزواج. فلماذا يربط نفسه إذا كان يستطيع أن يرويها وهو طليق (2)؟

الزواج في الشرق والغرب

لقد فقدت المرأة الغربية الزوج، ففقدت المعيل، فاقتحمت كل عمل لتعيش؛ فصارت تعمل في المصنع، وتشتغل في الحقل، وتكنس الطريق من الأقذار! وقد خبّرنا من رأى في أوربا البنات موظفات في المراحيض العامة ينظفنها لمن يريد الدخول (3) ... ومن النساء من تعمل في صبغ الأحذية تتخذ لها صندوقًا وتبقى اليوم كله على أرصفة الشوارع، ومنهن من تحمل في يدها كتابها تستعد بمطالعته لامتحانها، فإذا وقف عليها رجل مد حذاءه إلى وجهها فانحنت عليه واشتغلت به! هذه هي منزلة المرأة في ديار القوم، على حين أن المرأة الشرقية تبقى دائمًا في بيتها، يكد الرجل ويشقى ليطعمها ويكسوها.

وإذا بلغت المرأة عندنا سن الزواج طلبها الرجل وتوسل إليها بالعطية الكبيرة: المهر، يدفعه هو إليها فيكون حقًا لها وحدها لا لأبيها ولا أخيها، وليس لأحد التصرف في شيء منه إلاّ بإذنها. والمرأة الغربية تركض هي وراء الرجل، فتسقط خمسين سقطة قبل أن تصل إليه، وربما سقطت سقطة كان فيها ذهابها وهلاكها. ثم إنْ وجدته لم يتزوجها حتى تتوسل هي إليه بالمبلغ الكبير، حتى تدفع هي له المهر، ثم يكون له الإشراف على مالها يشاركها في التصرف فيه. والمرأة عندنا لها وحدها حق التصرف في مالها.

تقولين: كان هذا من زمان، وقد كسدت عندنا سوق الزواج وكثرت عندنا العوانس. وهذا صحيح، ولكن لِمَ كان؟

محاولات التقليد

كان لأنّا قلدنا الإفرنج فيما يشكون هم منه ويتمنّون البعد عنه. كان لأن المستعمرين وضعوا في نفوسنا -خلال القرن الماضي الذي كنا فيه نائمين وكنا غافلين- أنهم أرقى منا رقيًا وأكثر تقدمًا، وأن ما يفعلونه هو الصواب، فقلدناهم في كل شيء.

ولكن هل يحتمل طبعنا العربي هذا التقليد كله؟

كان العرب أغْيرَ الناس على الأعراض، حتى إنهم وأدوا البنات خوف العار. فهل يتمالك العربي نفسه أن يكون في حفلة فيأتي رجل يقول له: "اسمح لي". يسمح له بماذا؟ لا بأن يريه ساعته، ولا بكبريت يشعل له دخينته، بل يسمح له بأن يأخذ منه زوجته يراقصها، ليضم صدرها إلى صدره ويدني وجهها من وجهه وساقها من ساقه!

ليس في الدنيا عربي يرضى بهذا، ولا يرضى به مسلم، ولا يكاد يرضى به رجل صادق الرجولة. بل إنه لا يرضى بمثله من الحيوانات إلاّ الخنزير!

هذه حال نساء الغرب، فهل نساء الغرب اليوم في خير حتى نبتغي مثل الذي عندهن لنسائنا؟

مشكلات المرأة

لقد عرفتم ما قالت المرأة الأميركية للشيخ بهجة البيطار. ولو نطقت كل ألمانية وكل فرنسية لقالت هذا. إنكم تنقمون من شريعتنا أنها تعطي البنات نصف ميراث الرجال، وتعدد الزوجات. فاسألوا نساء أميركا: أما يقبلن أن يأخذن نصف ميراث الرجل وأن يكلَّف الرجل وحده بالإنفاق عليهن؟ سلوا نساء ألمانيا بعد هذه الحرب: أما يتمنين أن يكون لكل عَشر منهن زوج، يعدل بينهن وينفق عليهن؟

وبم تعالَج مشكلة زيادة النساء في ألمانيا وأمثالها إلاّ بهذا؟ إذا كانت الطبيعة التي طبع الله الناس عليها توجب أن يجتمع النوعان، ما من اجتماعهما بد، ولم يكن إلاّ خمسون رجلًا ومئة امرأة، فهل ثمة إلاّ أن يكون لكل امرأتين رجل؟ أوَليست هذه فطرة الله في أنواع الحيوان كلها؟ كم نسبة الذكور إلى الإناث في النحل وفي الدجاج؟ أوَلا يتخذ الزوج الغربي أربعًا أو أكثر من أربع، ولكن بالحرام؟

أترضون بالثانية خليلة بعقد إبليس ولا ترضون بها حليلة بعقد الله؟!
لا يا سيدتي، لا تظني أن نساء الغرب أسعد عيشًا أو أعز أو أكرم، لا والله، ليس في الدنيا أعزّ ولا أكرم من نسائنا.
إن الزوج عندنا لامرأته لا لخليلة ولا لصديقة، والمرأة لزوجها لا لعاشق ولا لرفيق، له وحده، لا تتكشف لغيره ولا يطّلع عليها سواه.

فهل هذا هو عيبها عند هؤلاء المقلدين؟
هل يريد أحدهم أن تكون امرأته له ولغيره؟
هل يغضب إن تُرك له صحنه ليأكل منه وحده، ولا يرضى حتى يأكل بصحن تقع فيه كل الأيدي؟
أيكون الطهر عيبًا والعفاف عارًا، والخير شرًا والنور ظلامًا؟

حسبنا تفكيرًا برؤوس غيرنا، حسبنا نظرًا بعيون عدونا، حسبنا تقليدًا كتقليد القرود ولنعد إلى أنفسنا، إلى عربيتنا وإسلامنا، إلى طهرنا وعفافنا.

ليصنع نساء الغرب ما شئن وشاء لهن الرجال، فما لنا ولنساء الغرب؟ وليكن نساؤنا كما نريد نحن لهن ويريد الله، لنكون لهن وحدهن، نقنع بهن ولا ننظر إلى غيرهنّ.

ليس في الدنيا نساء خيرًا من نسائنا ما تمسكن بحجابهن، وحافظن على آدابهن، وتقيدن بأخلاق العرب وأحكام الإسلام، وأعراف ذلك المجتمع الفاضل الذي أخرج عائشة وأسماء والخنساء وخولة ورابعة ومئات من المربيات الفضليات، والعالمات الأديبات، والأمهات الديّنات الصيّنات اللائي ولدن أولئك الرجال الذين كانوا فرسان الميادين، وكانوا هم فرسان المنابر، وكانوا هم أبطال الفكر، وكانوا هم ملوك المال، وكانوا سادة الدنيا، وكنتن أنتن أمهات أولئك السادة.


الإشارات المرجعية:

  1. إذا بُليتم بالمعاصي فاستتروا، وإعلان المعصية معصية أكبر منها، ولكن هؤلاء الكتاب لا يتّقون الله ولا يستحيون من الناس.
  2. ومن أمثالهم: «إذا استطعت شراء اللبن فلِمَ تشتري البقرة كلها؟»، وصار مقلّدوهم من كتّابنا يسخرون بالزواج. هذا توفيق الحكيم لم يكفِهِ أن عاش بلا زواج حتى ألف أفجر قصة قرأتها هي «الرباط المقدس»، جزاه الله شرًا وقلّل فينا أمثاله.
  3. وقد رأيت ذلك سنة ١٩٧٠ وسنة ١٩٧٦.

 

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#المرأة-المسلمة #المرأة-الغربية
اقرأ أيضا
إمكانيات فهم القرآن | مرابط
فكر مقالات

إمكانيات فهم القرآن


وأتذكر قصص السلف التي رويت في تراجمهم وما ذكر عن تهجدهم بالأسحار وقيام بعضهم الليل كله بآية يرددها من كتاب الله وجاء هذا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من حديث أبي ذر عند النسائي أيضا أتذكر هذه المشاهد من قيام بعض السلف ليلة كاملة بآية واحدة وأقول في نفسي: يا ترى كم هي المعاني التي فتحت لهذا المتهجد في قيام الليل حتى أصبحت قراءة الآية لا تزيده إلا شغفا بإعادتها

بقلم: إبراهيم السكران
617
أعظم الظلم في ميزان الوحي | مرابط
مقالات

أعظم الظلم في ميزان الوحي


قال تعالى: ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها ۚ إنا من المجرمين منتقمون السجدة : 22 وهذا المعنى تشهد الفطر والعقول السليمة بحسنه فالرب تعالى له أعظم الحق لكماله وإنعامه فجحد حقه والإعراض عن آياته أعظم ظلم وجرم فالله تعالى أرسل لهذا الظالم من ذكره بآيات ربه الذي يريد سبحانه تربيته وتكميل نعمته على أيدي رسله تأمره وتذكره مصالحه الدينية والدنيوية وتنهاه عن مضاره الدينية والدنيوية التي تقتضي أن يقابلها بالإيمان والتسليم والانقياد والشكر..

بقلم: د. طارق عنقاوي
289
الزلازل ومحدودية العلم | مرابط
فكر

الزلازل ومحدودية العلم


حدث مثل الزلازل وآثاره من القتلى والمصابين والخسائر رحم الله موتى المسلمين وخفف عن الناس يكشف لك بوضوح محدودية قيمة العلم وتهافت دعاوى تعظيمه ومقارنته ب الدين ..

بقلم: محمد وفيق زين العابدين
209
الرجولة الحديثة | مرابط
مقالات

الرجولة الحديثة


الرجولة الحديثة يتم نسونتها وغيبت عنها معاني الخشونة وتحمل شظف العيش ونزعة العنف والصراع والصبر على الأذى والجلد كما محيت معاني تحمل المسؤولية ورعاية الضعيف والعناية بالأهل والنخوة والشهامة والمروءة والترفع عن صغائر الأمور.

بقلم: إسماعيل عرفة
279
التوسل إلى الله بالأعمال الصالحة | مرابط
اقتباسات وقطوف

التوسل إلى الله بالأعمال الصالحة


ثم الدعاء والتضرع يفتح له من أبواب الإيمان بالله عز وجل ومعرفته ومحبته والتنعم بذكره ودعائه ما يكون هو أحب إليه وأعظم قدرا عنده من تلك الحاجة التي همته. وهذا من رحمة الله بعباده يسوقهم بالحاجات الدنيوية إلى المقاصد العلية الدينية

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
371
الإيمان المشروط | مرابط
مقالات

الإيمان المشروط


ومن المظاهر الخطرة في هذه المدارس الفكرية الأربع العلمانيون والليبراليون والتنويريون واليساريون ما يمكن تسميته حالة الإيمان المشروط فهم مؤمنون بالإسلام ومؤمنون بالوحي بل بعضهم سيندهش لو شككت في إيمانه! لكنهم كلهم تقريبا يؤمنون بالنص القرآني أو النبوي الذي ينسجم فقط مع منظومتهم الفكرية الأيديولوجية ويتسلطون بالمكابرة التأويلية على كل نص يهدد هرم أولوياتهم الفكرية.

بقلم: إبراهيم السكران
382