آثار العالمانية في الغرب: أزمة المبدأ الخلقي

آثار العالمانية في الغرب: أزمة المبدأ الخلقي | مرابط

الكاتب: د سامي عامري

2097 مشاهدة

تم النشر منذ 3 سنوات

المطلب الرابع: أزمة المبدأ الأخلاقي

 

مرجعية العقل

تقوم الأخلاق العالمانية على المرجعية التّامة للعقل، فما حسّنه العقل فهو الحسن، وما قبّحه فهو القبيح، وفي هذا إسقاط تام للمرجعية الدينية المتجاوزة للعالم، حتى قال جون جاك روسو مناجيًا ضميره الذي يمثل أصل المبدأ الأخلاقي بلا شريك أو سلطة تعلوه: أيها الضمير! أيها الضمير! أنت الغريزة الإلهية والصوت العلوي الذي لا يفنىّ! أنت الهادي الأمين لكائن جاهل ناقص ولو أنه عاقل وحر! أنت الحاكم المعصوم الذي يحكم على الأعمال بالخير والشر، جاعلا الإنسان أشبه بالإله؛ بفضلك كمال طبيعته وتخلّق أعماله؛ إذا دونك لا أشعر بشيء يرقى بي عن رتبة البهيمة، اللهم إلا أن يكون الحظ السيء الذي يوقعني في زلة بعد أخرى، وأنا متوسل بفهم لا ضابط له وعقل لا مبدأ معه
 
ردّ الأخلاق العالمانية إلى العقل أنتج -في مطافه الأخير- رفضًا للإطلاقية الأخلاقية لأنها قائمة على إيمان معلن أو خفي "بعالم المثل" المتجاوز لهذا العالم المادي، وهو ما أدى إلى تثبيت مبدأ النسبية الأخلاقية التي هي في حقيقتها إعدام لجوهر المبدأ الأخلاقي؛ ﻷنها قائمة على غياب زاوية واحدية للحكم.
 
لقد أصبح الواجب الأخلاقي مجرد أثر من آثار الأنساق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية الآنية، وهو ما يعني أن الأخلاق قد فُصمت صِلتها تماما عن الثابت الإنساني، بل هي على الصواب تنفي الثابت الإنساني.

 

تفتت الجوهر الأخلاقي

لقد تفتّت الجوهر الأخلاقي المعبر عن وحدة الكيان الإنساني وجوهريته الثابتة، وهو ما يظهر مثلا في المذهب الأخلاقي العالماني "العاقبية" والذي يقوّم الفعل تبعا لنتيجته وحدها، وهو كما وصفه بيتر سنجر "لا يبدأ بقواعد أخلاقة وإنما بأهداف"، فالإنسان في ظلاله مجزّأ الأفعال، مشتت الحركة، لا يسير في خط أفقي منتظم ولا عمودي صاعد، وإنما هي لحظات وخطرات وردّات فعل، دون نظر إلى دافع أو وجهة
 
وقد عبر صاحبا كتاب "النسبية، رجلان مغروزتان في الهواء" بعمق عن جوهر الأخلاق في العالم الغربي، بقولهما "عندما يُضيَّق على الأخلاق لتُحصر في الأذواق الشخصية، يتبادل الناس السؤال الأخلاقي: "ما الأمر الحسن؟" ولمسألة المتعة "ما الشيء الممتع؟" إنهم يثبتون رغباتهم، ثم يحاولون عقلنة اختياراتهم بلغة أخلاقية.
 
وعليه ففي هذه الحال، يكون الذيل هو الذي يهزّ الكلب، وبدل أن تقيّد الأخلاق المتع "أرغب في أن أقوم بذاك الشيء، ولكن عليّ ألا أفعله" تعرِّف المتع الأمور الأخلاقية "أرغب في أن أقوم بذاك الشيء، وسأجد وسيلة لجعله صوابًا" هذا الجهد في صنع القرار الأخلاقي ليس إلا إخفاء للمصلحة الذاتية بغلالة رقيقة -المتعة هي "المنطق الأخلاقي"
 

مآل القيمة الأخلاقية

ثم هما يمنحاننا خلاصة مآل القيمة الأخلاقية بقولهما: تُرى: كيف سيكون العالم لو أن النسبية حق؟ إنه عالم ليس فيه شيء باطل - لا شيء يعتبر شرًا أو خيرًا، ولا شيء يستحق المدح أو القدح. إنه عالم العدل والإنصاف فيه مفهومان بلا معنى، عالم لا مُساءلة فيه، ولا إمكانية للترقي الأخلاقي، ولا مكان فيه للخطاب الأخلاقي.
 
ويمثل مذهب النفعية الذي يُقرر أن الخير مرتبط بما يحقق المنفعة لأكبر عدد من الناس -وقد صنّفه الكثيرون على أنه نوع من أنواع العاقبية ﻷنه يعني أساسا بعاقبة الفعل- المبدأ الأخلاقي الأكثر قبولًا في الغرب. ولعل من أهم مشكلاته قيامه على فكرة هلامية في زمن فناء المطلق، وهي المنفعة فما هي المنفعة؟
 

الأنانية الأخلاقية

على الرغم من سعة مدلولات الكلمة واحتمال المعنى ونقيضه، إلا أن الأشواك التي زرعتها العالمانية في الإنسان، وصبغ كل قيمة بالمادية المفرطة، قد آلا بالأمر إلى صبغ النفع بطابع هوبزي، يتمثل في حق الرفاهة دون اعتبار الآخر "أفرادا وطبقات وشعوبا"
 
يُعبّر مذهب الأنانية الأخلاقية، الكامن في قلب الأخلاق العالمانية عن ما يمكن تسميته بالإنسان الجزيري، المنفصل عمّن حوله، فصواب الفعل ضمن هذه المنظومة هو ما حقق للأنا المصلحة الذاتية، دون اعتبار لكل أو غاية. وهو تعبير أعلى للمبدأ الليبرالي في نسقه الأخلاقي الموافق لجوهره الصلب، ولا ينتصر لهذا المذهب كثير من المنظّرين الأخلاقيين، لكنه على أرض الواقع أصل البناء الأخلاقي في البلادء المعلمنة جوهريًا.
 
إن كل المسوغات المركبة في الأنساق الأخلاقية العالمانية، لم تستطع أن تنشئ حاجزًا اجتماعيا ملزما ضد ارتكاب المنكرات المتوافق على قبحها اجتماعيا، ولا يزال السلطان البوليسي في الغرب إلى اليوم الحاجز الوحيد المعتبر لمنع تحول المجتمع إلى غابة يُفترس فيها الضعيف دون رحمة، وتبقى لذلك الكلمة التي تُنسب إلى الروائي الروسي دوستويفسكي صادحة بالحق "إذا مات الله، فكل شيء مباح"
 
وإذا كان المجتمع كما يقول عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركهايم، لا يمكن أن يكون وحدة متماسكة دون قيم مشتركة؛ أي: ما أطلق عليه مصطلح الوعي الجمعي، فإن تعدد الرؤى والمنطلقات والمبادئ الأخلاقية لا بد أن يؤول إلى فك اللحمة المجتمعية ليتحول الكيان الأكبر إلى أبعاض مشتتة مغتربة عن بعضها

 


 

المصدر:

  1. د. سامي عامري، العالمانية طاعون العصر، ص128
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.
اقرأ أيضا
لا خير في كثير من نجواهم | مرابط
اقتباسات وقطوف

لا خير في كثير من نجواهم


قرأ الإمام اليوم فينا آية انهمرت مع حروفها أمام ناظري كثير من السجالات الفكرية المعاصرة يسكبون ساعات المقاهي في نقاشات فكرية متشعبة تسمع شرارتها الأولى وتغيب البقية وسط الضجيج والله يقول: لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس فيا ضيعة الأعمار

بقلم: إبراهيم السكران
510
كيف تتعامل مع الفتور في رمضان؟ | مرابط
مقالات

كيف تتعامل مع الفتور في رمضان؟


لا تسمح للشيطان أن يحايلك أو لنفسك أن تحايلك وتتحاور معك في ترتيب المعصية.. لا تسمح لهما بذلك أبدا. وطريقك لذلك: بأن تضع قاعدة سلوكية يقينية فتعاهد عليها نفسك وتقول: هذا مبدئي وخلقي. والقاعدة هي: لن أعصي الله أبدا حدث نفسك بهذا. وأما الحوار والمحايلة فهو أن يكون في قلبك وخاطرك أخذ ورد تمهيدا وترتيبا للعصيان.

بقلم: خالد بهاء الدين
1052
عن القوامة والنشوز وضوابط تعامل الزوج معه | مرابط
المرأة

عن القوامة والنشوز وضوابط تعامل الزوج معه


الله جل وعلا قد خلق كل جنس ونوع على وفق مقتضى حكمته البالغة ثم هداه لوظيفته التي تلائم ذلك الخلق ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ومن ذلك أن الله جل وعلا خلق الرجل أقوى جسدا وأجسر قلبا وأشد تحملا للمشاق وأحسن تدبيرا وثباتا في مخاطر الحياة وأعظم تغليبا للعقل على المشاعر والانفعالات وهذا كله يؤهله لوظيفة القوامة والحفظ والحماية والرعاية والكسب.

بقلم: كريم حلمي
449
بين منهجين: ابن تيمية والرازي | مرابط
فكر

بين منهجين: ابن تيمية والرازي


الرازي وابن تيمية ليسا مجرد عالمين بينهما اختلاف في بعض المسائل التي يسوغ فيها الخلاف بحيث ينظر إلى أن كلا منهما يحسن ما لا يحسنه الآخر وأن أحدهما إذا أصاب في مسألة أو في جانب من جوانب العلم فإن الآخر قد يكون معه الصواب في مسألة أخرى أو جانب آخر من جوانب العلم وإنما الخلاف بينهما هو في حقيقة الحال امتداد للخلاف بين منهجين متضادين ومدرستين متعارضتين.

بقلم: عبد الله القرني
410
شعب واحد وقضية واحدة | مرابط
فكر مقالات

شعب واحد وقضية واحدة


فلا مجاز لنا نحن العرب إلا أن نعرف أنفسنا وأن ندرك حقيقة حياتنا وأن نؤمن بأن القوى لا ينال بقوته بل باستسلامنا وأنه لا يحيف علينا ببطشه بل بتهاوننا واستصغارنا لشأن أنفسنا وأن أجهل الجهل أن يظن ظان أن مئة مليون من خلق الله يمكن أن يفنوا على بكرة أبيهم بسطوة ساط أو بغي باغ وأنهم هباء لا يزن في ميزان القوة جناح بعوضة وأنهم غنم مسيرون يهاهىبهم راع عنيف تسوقهم عصاه إلى حيث أراد

بقلم: محمود شاكر
629
إشكالية المصطلح النسوي | مرابط
اقتباسات وقطوف النسوية

إشكالية المصطلح النسوي


تظهر إشكالية المصطلح النسوي فيما يتعلق برخاوة الدلالة كحال مصطلح الأدوار النمطية والمقصود به طريقة توزيع الأدوار بين الرجل والمرأة داخل الأسرة فهناك ضبابية شديدة في استعمالاته ويستعمل بدون ضبط لدلالاته والسبب في ذلك أنه لا يمكن ضبط دلالته بشكل دقيق

بقلم: د خالد عبد العزيز
802