![لا خير في كثير من نجواهم | مرابط](/images/articles/thumbnail/murabet.com_ftyklu6.png)
المطلب الرابع: أزمة المبدأ الأخلاقي
مرجعية العقل
تقوم الأخلاق العالمانية على المرجعية التّامة للعقل، فما حسّنه العقل فهو الحسن، وما قبّحه فهو القبيح، وفي هذا إسقاط تام للمرجعية الدينية المتجاوزة للعالم، حتى قال جون جاك روسو مناجيًا ضميره الذي يمثل أصل المبدأ الأخلاقي بلا شريك أو سلطة تعلوه: أيها الضمير! أيها الضمير! أنت الغريزة الإلهية والصوت العلوي الذي لا يفنىّ! أنت الهادي الأمين لكائن جاهل ناقص ولو أنه عاقل وحر! أنت الحاكم المعصوم الذي يحكم على الأعمال بالخير والشر، جاعلا الإنسان أشبه بالإله؛ بفضلك كمال طبيعته وتخلّق أعماله؛ إذا دونك لا أشعر بشيء يرقى بي عن رتبة البهيمة، اللهم إلا أن يكون الحظ السيء الذي يوقعني في زلة بعد أخرى، وأنا متوسل بفهم لا ضابط له وعقل لا مبدأ معه
ردّ الأخلاق العالمانية إلى العقل أنتج -في مطافه الأخير- رفضًا للإطلاقية الأخلاقية لأنها قائمة على إيمان معلن أو خفي "بعالم المثل" المتجاوز لهذا العالم المادي، وهو ما أدى إلى تثبيت مبدأ النسبية الأخلاقية التي هي في حقيقتها إعدام لجوهر المبدأ الأخلاقي؛ ﻷنها قائمة على غياب زاوية واحدية للحكم.
لقد أصبح الواجب الأخلاقي مجرد أثر من آثار الأنساق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية الآنية، وهو ما يعني أن الأخلاق قد فُصمت صِلتها تماما عن الثابت الإنساني، بل هي على الصواب تنفي الثابت الإنساني.
تفتت الجوهر الأخلاقي
لقد تفتّت الجوهر الأخلاقي المعبر عن وحدة الكيان الإنساني وجوهريته الثابتة، وهو ما يظهر مثلا في المذهب الأخلاقي العالماني "العاقبية" والذي يقوّم الفعل تبعا لنتيجته وحدها، وهو كما وصفه بيتر سنجر "لا يبدأ بقواعد أخلاقة وإنما بأهداف"، فالإنسان في ظلاله مجزّأ الأفعال، مشتت الحركة، لا يسير في خط أفقي منتظم ولا عمودي صاعد، وإنما هي لحظات وخطرات وردّات فعل، دون نظر إلى دافع أو وجهة
وقد عبر صاحبا كتاب "النسبية، رجلان مغروزتان في الهواء" بعمق عن جوهر الأخلاق في العالم الغربي، بقولهما "عندما يُضيَّق على الأخلاق لتُحصر في الأذواق الشخصية، يتبادل الناس السؤال الأخلاقي: "ما الأمر الحسن؟" ولمسألة المتعة "ما الشيء الممتع؟" إنهم يثبتون رغباتهم، ثم يحاولون عقلنة اختياراتهم بلغة أخلاقية.
وعليه ففي هذه الحال، يكون الذيل هو الذي يهزّ الكلب، وبدل أن تقيّد الأخلاق المتع "أرغب في أن أقوم بذاك الشيء، ولكن عليّ ألا أفعله" تعرِّف المتع الأمور الأخلاقية "أرغب في أن أقوم بذاك الشيء، وسأجد وسيلة لجعله صوابًا" هذا الجهد في صنع القرار الأخلاقي ليس إلا إخفاء للمصلحة الذاتية بغلالة رقيقة -المتعة هي "المنطق الأخلاقي"
مآل القيمة الأخلاقية
ثم هما يمنحاننا خلاصة مآل القيمة الأخلاقية بقولهما: تُرى: كيف سيكون العالم لو أن النسبية حق؟ إنه عالم ليس فيه شيء باطل - لا شيء يعتبر شرًا أو خيرًا، ولا شيء يستحق المدح أو القدح. إنه عالم العدل والإنصاف فيه مفهومان بلا معنى، عالم لا مُساءلة فيه، ولا إمكانية للترقي الأخلاقي، ولا مكان فيه للخطاب الأخلاقي.
ويمثل مذهب النفعية الذي يُقرر أن الخير مرتبط بما يحقق المنفعة لأكبر عدد من الناس -وقد صنّفه الكثيرون على أنه نوع من أنواع العاقبية ﻷنه يعني أساسا بعاقبة الفعل- المبدأ الأخلاقي الأكثر قبولًا في الغرب. ولعل من أهم مشكلاته قيامه على فكرة هلامية في زمن فناء المطلق، وهي المنفعة فما هي المنفعة؟
الأنانية الأخلاقية
على الرغم من سعة مدلولات الكلمة واحتمال المعنى ونقيضه، إلا أن الأشواك التي زرعتها العالمانية في الإنسان، وصبغ كل قيمة بالمادية المفرطة، قد آلا بالأمر إلى صبغ النفع بطابع هوبزي، يتمثل في حق الرفاهة دون اعتبار الآخر "أفرادا وطبقات وشعوبا"
يُعبّر مذهب الأنانية الأخلاقية، الكامن في قلب الأخلاق العالمانية عن ما يمكن تسميته بالإنسان الجزيري، المنفصل عمّن حوله، فصواب الفعل ضمن هذه المنظومة هو ما حقق للأنا المصلحة الذاتية، دون اعتبار لكل أو غاية. وهو تعبير أعلى للمبدأ الليبرالي في نسقه الأخلاقي الموافق لجوهره الصلب، ولا ينتصر لهذا المذهب كثير من المنظّرين الأخلاقيين، لكنه على أرض الواقع أصل البناء الأخلاقي في البلادء المعلمنة جوهريًا.
إن كل المسوغات المركبة في الأنساق الأخلاقية العالمانية، لم تستطع أن تنشئ حاجزًا اجتماعيا ملزما ضد ارتكاب المنكرات المتوافق على قبحها اجتماعيا، ولا يزال السلطان البوليسي في الغرب إلى اليوم الحاجز الوحيد المعتبر لمنع تحول المجتمع إلى غابة يُفترس فيها الضعيف دون رحمة، وتبقى لذلك الكلمة التي تُنسب إلى الروائي الروسي دوستويفسكي صادحة بالحق "إذا مات الله، فكل شيء مباح"
وإذا كان المجتمع كما يقول عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركهايم، لا يمكن أن يكون وحدة متماسكة دون قيم مشتركة؛ أي: ما أطلق عليه مصطلح الوعي الجمعي، فإن تعدد الرؤى والمنطلقات والمبادئ الأخلاقية لا بد أن يؤول إلى فك اللحمة المجتمعية ليتحول الكيان الأكبر إلى أبعاض مشتتة مغتربة عن بعضها
المصدر:
- د. سامي عامري، العالمانية طاعون العصر، ص128