بين منهجين: ابن تيمية والرازي

بين منهجين: ابن تيمية والرازي | مرابط

الكاتب: عبد الله القرني

325 مشاهدة

تم النشر منذ سنة

الرازي وابن تيمية ليسا مجرد عالمين بينهما اختلاف في بعض المسائل التي يسوغ فيها الخلاف، بحيث ينظر إلى أن كلا منهما يحسن ما لا يحسنه الآخر، وأن أحدهما إذا أصاب في مسألة أو في جانب من جوانب العلم فإن الآخر قد يكون معه الصواب في مسألة أخرى أو جانب آخر من جوانب العلم، وإنما الخلاف بينهما هو في حقيقة الحال امتداد للخلاف بين منهجين متضادين ومدرستين متعارضتين، يلزم من الحكم لإحداهما بأنها على الحق أن تكون الأخرى على الباطل.

فالرازي من رؤوس أهل الكلام المنحرفين عن السنة، بل بالغ في تتبع الإشكالات العقلية التي تورث الشكوك وتصادم دلالات النصوص وما أثر عن السلف حتى خلط طريقة الأشاعرة بما أدخله عليهم من تقريرات الفلاسفة.

ومع التزامه بما هو الأصل في انحراف المتكلمين من القول بالتعارض بين العقل والنقل وما بنوه عليه من الالتزام بتأويل النصوص أو تفويضها في حال معارضتها لما يدعون أنها قطعيات عقلية، مع أنها في حقيقتها جهليات = إلا أنه أضاف إلى ذلك ما ابتدعه من القول بأن دلالات النصوص لا تفيد اليقين إلا مع تجاوز عشرة شروط يتعذر معها الاكتفاء بنصوص الوحي في إفادة اليقين، وفتح بذلك باب شر عظيم على الأمة.

ثم هو مع ذلك على قول الجبرية في باب القدر، وصرح بأنه لا معنى للكسب، وأنه ليس إلا الجبر المحض، كما إنه على القول بالإرجاء في باب الأسماء والأحكام كغيره من أئمة الأشاعرة.

ومعلوم أن من خالف في أصل من هذه الأصول فكان على القول بالتعطيل أو كان من الجبرية أو المرجئة لم يكن ممن يسوغ خلافه أو يعتبر قوله فيما خالف فيه، فكيف إذا تحققت للرازي المخالفة لأهل السنة في هذه الأصول كلها، وكيف يمكن أن يقال إنه قد تفرد في العقليات بما لم يحصل لغيره، وينظر إليه على أنه قد فتح عليه من العلم النافع بما لم يفتح على غيره، وأي عقليات تعتبر مع بطلان ما بني عليها من الشكوك والحيرة ومصادمة نصوص الوحي، وإذا كان هو قد تحقق من بطلانها بعد طول تجربة وأوصى بتركها والرجوع إلى طريقة القرآن، فما الحيلة فيمن لا يقبل ما نصح هو به.

وأما ابن تيمية فيقوم منهجه على تجديد الدين، والالتزام بما أجمع عليه السلف، وإقامة البراهين النقلية والعقلية على أنه هو الحق، وتحرير وجه المفاصلة بين المأثور عن سلف الأمة وبين ما أدخله المتكلمون والفلاسفة والصوفية على أصول الاعتقاد من الشبهات، وإظهار أنها مع مخالفتها لنصوص الوحي فهي مخالفة للعقل الفطري، واستحق بذلك أن تكون له المنزلة العالية في الانتصار لأهل الأثر، ومع ذلك فلا أحد من أهل العلم لا هو ولا غيره معصوم من الخطأ، والعبرة إنما هي بلزوم ما كان عليه سلف الأمة والحرص على مجانبة البدع وأهلها.

وعلى هذا فينبغي أن تكون المقارنة بين الرازي وابن تيمية وفق هذا المعيار المنهجي القائم على التمييز بين هذين الاتجاهين، وعدم التساهل مع من يتدسسون لنشر عقائد تواتر إجماع أهل السنة على رفضها وإبطالها عبر القرون، وإظهار ذلك في قالب الإنصاف والحياد العلمي وتقدير الأثر التاريخي للرازي وغيره ممن هم على شاكلته.

ولا شك أنه كان للرازي الأثر الكبير، وأنه تشكلت بعده مدرسة لها صدى واسع في مجالات علمية عديدة، ولكن القيمة العلمية لا تخضع لمجرد إثبات وجود هذا الأثر وانتشاره، وإنما لما لهذا الأثر من اعتبار في ميزان النقد العلمي المنظبط بأصول أهل السنة والجماعة.

ولو فتح الباب لمثل هذه المحاولات التي تتستر بالبحث التاريخي البعيد عن الأدلجة كما يقولون لأمكن أن يصل الأمر إلى التساهل في عرض موقف الرازي من الصحابة وتشكيكه في نقلهم للسنة بما يجاوز إشكالات المستشرقين، ولأمكن أن نجد من يقول بتسويغ قبول ما ذكره الرازي عند تفسيره لآية: "ليس كمثله شيء.." من أن كتاب التوحيد للإمام ابن خزيمة هو في الحقيقة كتاب الشرك، إلى غير ذلك من الطوام التي ليس المقام هنا لذكرها، وقد أجمل الحافظ ابن حجر وصفه لها بقوله:" له تشكيكات على مسائل من دعائم الدين تورث الحيرة ".

وليس الكلام هنا عن شخص الرازي ولا عن مآله عند ربه فإنه يرجى أن يتجاوز الله عنه، وإنما الكلام عما يخشى من متابعته على ما حصل منه من انحرافات كان قد تاب منها، ومما ذكره عنه الذهبي في ترجمته له أنه: "قد بدت منه في تواليفه بلايا وعظائم وسحر وانحرافات عن السنة، والله يعفو عنه فإنه توفي على طريقة حميدة، والله يتولى السرائر... وقد اعترف في آخر عمره حيث يقول: لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلا ولا تروي غليلا، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات: (الرحمن على العرش استوى) (إليه يصعد الكلم الطيب)، وأقرأ في النفي (ليس كمثله شيء)، ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي".

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#ابن-تيمية #الرازي
اقرأ أيضا
من أكثر ما يعينك على الشكر | مرابط
اقتباسات وقطوف

من أكثر ما يعينك على الشكر


من أكثر ما يعينك على الشكر تذكر سابق حالك.. يمكن أن تسمي ذلك بذكريات النعمة. هذا الشارع الذي تمشي فيه الآن بسيارتك كنت تمشي فيه في الحر الشديد أو البرد الشديد على رجليك ربما لا تجد أجرة الحافلة أو تجدها ولكن المشي أرفق بك من ركوبها.

بقلم: محمد سالم بحيري
285
مشهد السفينة واللجوء إلى الله | مرابط
مقالات

مشهد السفينة واللجوء إلى الله


هذه الصورة التي يكررها القرآن عن السفر بالسفن واليخوت انقلها بحذافيرها إلى وسيلة نقل مشابهة كالطائرة أو القطارات أو السيارات وتأمل كيف يكون الإنسان فيها قلقا وخصوصا إذا مر بظروف طبيعية كرياح تثير الاضطراب ثم إذا نزل على الأرض نسي استكانته وتضرعه وعزيمته على الاستقامة.. تذكر هذه الصورة التي نمر بها وأعد قراءة آية يونس وآية الإسراء السابقتين تنكشف لك من معاني الإيمان والتعلق بالله مالم يخطر ببالك..

بقلم: إبراهيم السكران
199
من شبهات الحشوية | مرابط
مناظرات اقتباسات وقطوف

من شبهات الحشوية


وقد يحكى عن بعضهم أنه سمع كلام لا معنى له في نفس الأمر كما حكى الرازي في محصوله عمن سماهم بحشوية أنهم قالوا: يجوز أن يتكلم الله بكلام ولا يعني به شيئا.. لكن هذا القول لا أعرف به قائلا بل لم يقل هذا أحد من طوائف المسلمين.

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
397
أراكان مأساة شعب يباد | مرابط
تاريخ توثيقات

أراكان مأساة شعب يباد


وكانت بورما منذ سيطرتها على أراكان المسلمة عام 1784م تحاول القضاء على المسلمين ولكنها فقدت سلطاتها بيد الاستعمار البريطاني عام 1824م وبعد مرور أكثر من مائة سنة تحت سيطرة الاستعمار نالت بورما الحكم الذاتي عام 1938م وأول أمر قامت به بورما بعد الحكم الذاتي هو قتل وتشريد المسلمين في جميع مناطق بورما حتى في العاصمة رانجون واضطر أكثر من 500000 خمسمائة ألف مسلم إلى مغادرة بورما

بقلم: ياسر الفخراني
717
تحريف الأحكام الشرعية | مرابط
أباطيل وشبهات فكر مقالات

تحريف الأحكام الشرعية


قام عدد من المعاصرين بنحر جملة من الأحكام الشرعية بسيف التأويل الذي انحرف بهم عن جادة التسليم للنص الشرعي فلم تسلم منه قطعيات الشرعية ولا ظنياتها ولا أصولها ولا فروعها فحتى الأحكام القطعية الصريحة في القرآن لم تسلم من النفي أو التأويل

بقلم: فهد بن صالح العجلان
1942
أبرز آراء النسوية الراديكالية: إباحة الإجهاض | مرابط
النسوية

أبرز آراء النسوية الراديكالية: إباحة الإجهاض


إن الغربيين عندما اعتبروا أن المرأة تملك جسدها وهي حرة في التصرف فيه وتهب نفسها لمن تهوى من غير قيم ولا ضوابط إلا رغبتها وميولها الذاتية وأن ذلك فعل فردي شخصي لا يحق للمجتمع أن يقيده ويتدخل فيه عند ذلك زادت حالات الحمل غير الشرعي وأصبحت مشكلة متعددة الأوجه والأبعاد وبدلا من أن يفكر الغربيون بمعالجة أصل الداء وجذره أصبحوا يبحثون عن حلول لأعراضه وكأن الزنا والإباحية أصل لا يمس

بقلم: مثنى أمين الكردستاني
2263